قلَّب صفحاتي كمن يبحث عن سرٍّ مخفي، وهو ينفضني، ويضع يده في موضع ثنيات الورق، وبعنف عاد ليهزني عدّة مرات حتى أحسست أنني سأتمزق في أي لحظة، وأصبح نُثارًا من ورقٍ بال، لكنه، في النهاية، ولحسن الحظ، هزّ رأسه قرفًا ويأسًا، ولعله تذكر أنّها المرة الثانية التي أقع فيها بين يديه، فاستشاط به الغضب، وألقى بي عاليًا، فوجدتني أطير في رحال السفينة لا أسيطر على نفسي حتى خشيت أن يكون مصيري الغرق في مياه البحر، لكن لحسن الحظ وقعت قريبًا من سور السفينة، بعد أن ارتطمت بالسور الخشبي، ولكن أحدًا لم يتحرك نحوي أو يلقي إليَّ بالا.
عاودتني مشاعر الرهبة، التي انتابتني عندما قفز رشيد من القارب، تاركًا إياي لمصيري، قبل أيام، إلا أنني وبعد انصراف الجميع وجدتُ شابًا صوماليًا يافعًا، وسيمًا، رغم البؤس الذي وسمته به أيام البحر والقرصنة والمخاطر وكثرة العمل، يرتدي بنطالا أسود باليًا، تكلّح لونه حتى أصبح رماديًا، يقترب مني في حذر ووجل.. أمسك بي وطواني، ثم وضعني أسفل إبطه، ثم تابع الخطو بحذر وهو يتلفت حوله كأنه يتأكد من أن أحدًا لا يراقبه.
انتقل الشاب من هذه السفينة إلى سفينة أخرى أكبر حجمًا، لكنها كانت ممتلئة بشباب آخرين، لهم تقريبًا نفس هيئته، وكان يضحك لهم، فيبادلونه الضحك، وتبادل كلمات بدت ساخرة؛ لأنهم كانوا يصحبون كلماتهم بإشارات مبتذلة.
انطلق إلى بابٍ يقود لسلّم معدني هبط درجاته بسرعة، ليصل إلى ردهة طويلة تنتهي ببابٍ آخر توقف أمامه فتى أسمر حليق الوجه، ذو جسد رياضي.. عندما رأى الشاب الذي يمسك بي نظر إليه متسائلا عما يريد، فهزّ رأسه باتجاه الباب ولم يقل شيئًا.. أدار حارس الباب مفتاحًا، كان قد أخرجه من جيبه.
دخل الشاب الأسمر ووجدت نفسي معه في قُمرةٍ صغيرة خالية من أي شيء.. وفي زاوية من زواياها كان قاسم جالسًا على الأرض وعلى وجهه ملامح الفزع، لكن الفتى حينما رآه رفع يده عاليا ممسكا بي، فقفز قاسم ناهضًا وعلى ملامحه علامات السعادة، ثم أنه خلع ساعته ومد بها يده إلى الفتى الذي تناولها منه بحبور، وأخذ يتأملها قليلا، ثم دسّها في جيبه وخرج دون أن ينطق بكلمة.
تلقفني قاسم كمن يتلقى سر نجاته، وشرع يقلّب صفحاتي كأنه يستعيد كنزًا كان قد فقد الأمل في أن يجده.. وربما ليتأكد من اكتمال أوراقي، تفحصني كمن يتأكد من خلوي من تلفٍ أو تمزق، وحين خرج الفتى أخذ قاسم يجري بعينيه على سطوري حتى وقع على الصفحات التي أراد أن يعود لقراءتها“.
“المتكتم 13”
“عندما قالت لي سديم إنَّ الاسم الأنسب للشخص الذي حكيت لها عنه “نقّار الزجاج”، وبعد فاصل الضحك، أطرقتُ صامتا للحظات، وأعدت تكرار الاسم مرتين همسا، وأعجبتني الفكرة.. تخيلته وهو ينقر الزجاج برأسه فضحكت، وعاودنا الضحك، ويبدو أن الضحك كان يستدعي لذهن كل منا المشهد الروائي الذي توقف كل منا عنده في دون كيخوتي.
وهكذا لم يكن أمام أيٍ منا سوى التوقف عن النسخ لفترة، والنتيجة أن تقريرًا شديد اللهجة رُفع ضد كل منا إلى كبير الناسخين يتهمنا بالتقصير في نسخ الكتاب، والتراخي في أداء المهام التي كلفنا بها، ويقترح أن يتم فصلنا من فريق النساخ، ولم استوعب كيف أمكن لسعيد خاطر، الذي كان صديقا مقربا، أن يفعل ذلك.
عندما علمنا بذلك أصابنا الوجوم لفترة، فلم نكن قد انتقلنا من مدينة الأنفاق إلى مدينة النساخ بعد، وهو ما كان يعني أننا لن ننضم إلى فريق النساخ المحترفين، الذين يتولون تنفيذ مشروع الكاتب الشبح، لإعادة تكوين ما يسميه مكتبة العالم، وبالرغم من ذلك، وبعد أن توسلت إلى طارق لكي يذهب إلى سعيد ويوضح له الأمر، لكي يتوسط لنا لدى الكاتب الشبح، ليمنحنا فرصة أخرى، فإننا وفور الاطمئنان إلى أننا عدنا إلى مملكة النساخين، وعاد كل منا إلى عمله اكتشفنا ان شيئا لم يعد قادرا على توقفنا عن الضحك، تحولنا إلى مسخرة حقيقية، وفي النهاية اقترحت سديم أن نحتكم إلى نقَّار الزجاج.
عندما التقيناه طلب من كل منا أن يذكر النص الذي يضحكه.. بدأت سديم فسردت جزءا من نص دون كيخوتي حيث توقفت:
“أثناء تفكيره في هذه الترهات، وصل الوقت وحانت ساعة (بالنسبة له كانت ساعة نحس) وصول الأستورية، والتي دخلت الغرفة ذات السكان الثلاثة، بحثا عن البغّال، بخطوات رقيقة حذرة الكياسة، في قميص، حافية القدمين، وقد جمعت شعرها داخل شبكة من خيوط القطن. ولم تكد تتجاوز إلى الداخل الباب، حتى أحس دون كيخوتي بها، جالسا على السرير بالرغم من المراهم والألم المرير الذي يجتاح ضلوعه، مد يديه لاستقبال فتاته الحسناء. والأستورية في مواجهة هذا الترحيب صامتة بذراعيها مفتوحتين بحثا عن حبيبها البغَّال، وقعت يداها مصادفة في يدي دون كيخوتي، والذي قبض على معصمها بقوة، وجرّها إليه، دون أن تجسر على فتح فمها بكلمة، وأجلسها على السرير.
وهنا لمس القميص الذي رآه أرق من الحرير، وهو من الخيش، وفي معاصمها كانت بعض الغوايش من الزجاج وحسبَها من جواهر الشرق ولؤلئه. والشَعر الذي بطريقة ما يحاكي عُرْف الفرس تراءى له خيوطا براقة لامعة من جزيرة العرب، شعاعها يطفئ أشعة الشمس. أما أنفاسها التي كانت دون شك لها رائحة (السلطة الباردة البايتة) فقد فاح لأنفه من فمها عبقريًا ناعمًا وعطريًا، وأخيرا فإنه رسمها في خياله في نفس الصورة التي قرأها في كتبه عن أميرة أخرى جاءت لرؤية الفارس الجريح مدفوعة بحبها، وقد تزينت بكل ما رآه في الأستورية. وكم كان أعمى فارسنا المسكين، حتى أن لا اللمس ولا النفس ولا أشياء اخرى لصيقة بذات الشابة الطيبة الأصل، وصلت إلى إحباطه، مع أنها أشياء مما يدفع لتقيؤ أي شخص آخر ما لم يكن بغالاً..”
هنا قاطعها نقار الزجاج مغمض العينين قائلا:”هل هنا موقع الضحك؟“.
تأملته سديم للحظات، وكانت قد بوغتت لأنها استغرقت في القراءة بأداء تمثيلي، لونّت فيه صوتها بما يتناسب وإيقاع الحكي، وبنبرات تناسب الأجزاء الحوارية، لكنها تمالكت نفسها وابتسمت ثم قالت: “الحقيقة لا، ولكني لا يمكن أن أصل إلى الفقرة التي تضحكني بدون التمهيد حتى تفهم أصل الموضوع“.
تأملها نقّار الزجاج للحظات ثم أغمض عينيه وهو يتصنع الجديّة ويطلب منها هازاً رأسه هزات متتابعة لحوحة أن تستمر.. وظل مغمضاً عينيه مُصرّاً على التركيز فيما ستقول. رمقته سديم وظلت صامتة، وعندما أدرك أن صمتها موجه إليه زاد من عناده، وأطال إغماض عينيه متبتلا كأنه ينتظر هبوط الوحي، وكان ذلك كفيلا بتفجير الضحك، مرة أخرى، لولا الخوف من رد فعل نقار الزجاج. فتنحنحت سديم ثم عاودت القراءة بصوت بدأ مختلجًا مرتعشا بفعل مقاومتها للرغبة الدفينة في الضحك:
“كانت ماريتورنس في كرب شديد، يتصبب منها العرق، وقد رأت نفسها في قبضة دون كيخوتي دون أن تفهم أو تتنبه لما يقول من عبارات، وكانت تحاول دون أن تنطق بكلمة الفكاك من قبضته. الطيب في سلوك البغّال والذي أيقظ دخول عشيقته رغباته السوداوية عندما أحسّ بها عند عبورها الباب، أنه مضى يسمع ما استطاع كل ما كان يقوله دون كيخوتي. وفي غيرة من أن الأستورية لم تفه له بكلمتها، أخذ يقترب من سرير دون كيخوتي، وبقي شاخصًا، حتى يرى ما سوف تنتهي إليه هذه العبارات، التي لم يستطع فهمها، لكن عندما رأى الشابة تناضل للفكاك منه، وأن دون كيخوتي يجهد لإلقائها بدا له أنها دعابة أقرب إلى الشَرَك والخدعة. رفع يده وهوى بها بقبضته على الفك الشحيح للفارس العاشق، فاستحم فمه في الدم.
ولم يكتف بهذا فقفز فوق ضلوعه، وأخذ يتمشى رمحا من رأسه إلى قدميه، ومن قدميه إلى رأسه. والسرير الذي كان ضعيفا بعض الشيء وليس له أساس ثابت، لم يستطع أن يتحمل الحمل الإضافي للبغال، فتساقط مكوّما فوق الأرض، مُحدثا ضجة أيقظت صاحب النُزل، الذي أدرك في الحال أن السبب هو السعي الليلي لماريتورنس، لأنه نادى عليها عاليًا ولم يكن من مجيب. ومع هذه الريبة، نهض، وأشعل قنديلا، وذهب إلى حيث أحس بالتعارك. وعند رؤية الشابة أن سيدها قادم، وأن الظروف بالغة السوء، انكمشت داخل فراش سانشو بانثا فزعة مضطربة. وهذا كان حتى تلك اللحظة يغط في النوم، وملتصقة به تكومت وتكورت. دخل صاحب النزل قائلا:
– أين أنت أيتها العاهرة؟ إني واثق أن ذلك من صنائعك.
عند هذا استيقظ سانشو، وأحس بتلك الكرة تعلوه تقريبًا، وظن أنه يمر بكابوس، فأخذ يحرك يديه بلكمات في كل جهة، وبين بعض تلك الأهداف التي بلغتها لكماته أصاب ماريتورنس لا أدري بكم منها، ومتأثرة بالألم، ومدفوعة باصطناع الشرف كالت لسانشو رد ضرباته مضاعفة، فسرقت بالإكراه النوم من عينيه، وعندما رأى أنه يُعامَل بهذه الطريقة ودون أن يعرف ممّن، فلم يملك إلا محاولة النهوض بقدر ما استطاع وهنا وجد نفسه وماريتونس في حالة احتضان، وبدأ الإثنان يتناوشان مناوشة هي الأفكه والأكثر تحديًا في الدُنيا.
وعلى ضوء قنديل صاحب النُزُل الذي أهل رأي البغال ماذا يجري لعشيقته، فهرع لتقديم النجدة الواجبة تاركا دون كيخوتي. ونفس الشيء صنعه صاحب النزُل، لكن مع اختلاف في القصد والنية، لأنه هرع لعقاب الشابة، لاعتقاده أنها وحدها كانت سبب كل هذا التناغم والانسجام. وهكذا كما يقال “القط وراء الفأر، والفأر وراء الحبل، والحبل وراء النبوت” فقد أخذ البغال يلاطم سانشو بضرباته، وسانشو يلاطم الشابة، والشابة تلاطمه، والفندقي يضرب الشابة، والجميع مسرف في أداء مهامه في سرعة خاطفة، فلم يمنحوا أنفسهم لحظة راحة أو سكون، وجاء الخبر عندما انطفأ قنديل صاحب النُزل، وكما سادهم الظلام تبادلوا فيما بينهم اللطمات دون شفقة، والجميع يضرب (عمياني)، وكانوا حيث تسقط أيديهم لا يتركون شيئا سليما“.
رفعت سديم صوتها بالجملة الأخيرة، وكانت جالسة على الأرض في أحد عربات المترو، انقلبت على قفاها، وراحت تشخر بقوة من أثر محاولاتها لكتم ضحكاتها فانفجرت قهقهاتها، وانتقلت عدواها إلينا أنا ونقار الزجاج، فأخذنا نضحك أنا وإياه، بلا توقف، كذئبين قررا اختبار لحن جديد للعواء المشترك. هكذا رحنا نعوي ضحكا حتى توقف نقار الزجاج محمر الوجه، والعِرق النافر في أعلى رأسه الصلعاء تبدو فيه نبضات الدماء، ونهض متجهًا إلى بوابة العربة ثم جلس ودلىّ قدميه وقال بثبات:
–إقرأ انت الآن.
ولم يكن أمامي مفر، فتمالكت نفسي وشرعت أقرأ:
“لم يترك دون كيخوتي الخبز ينضج في الفرن، كما تعوّدوا القول، قبل أن يسمع ويعرف العجائب الموعودة من سائق الأسلحة. ذهب للبحث عنه حيث قال له الفندقي أنه موجود، فوجده وقال له أن عليه أن يقول في الحال ما كان عليه قوله بعد، حول ما سأله عنه في الطريق. أجابه الرجل:
–بالراحة قليلا، دعني فخامتكم، أيها السيد الطيب، من الانتهاء من بث رسالة إلى دابتي، ومن ثم أقول لك أشياء تدهشك“.
قال دون كيخوتي:
–لا تتأخر. من أجل ذلك سأساعدك في كل شيء.
خرستُ للحظات، لأتأمل وجه نقار الزجاج، ووجدته يغمض عينيه وينصت باهتمام، ثم تركت جزءً من السرد قاصدًا الفقرة التي كنت أعتبرها خفيفة الظل ومضحكة بشكل لا يقاوم، ثم استطردت:
” باختصار، النائبان على أقدامهما ذهبا إلى الجبل، ووصلا إلى المكان والموقع الذي اعتقدا العثور على الحمار به، لكنه لم يظهر في المكان وكل ما حوله مهما بالغا في البحث عنه.
وعند رؤيتهما أنه لا يظهر قال النائب الذي سبق له رؤيته للنائب الآخر: “انظر، أيها الزميل، لقد وردت فكرة على بالي، وبها دون أدنى شك، سنكتشف هذا الحيوان حتى لو كان موجودًا في أحشاء الأرض، وليس فحسب الجبل، فأنا أعرف أن أنهق بشكلٍ عجيب، وإذا فخامتكم تعرف النهيق بعض الشيء فلنسمع غناءك”. قال الآخر: “أعرف التنهيق تقول يا زميل؟ بحق الله، فإنني لا أسمح لأحد أن يتفوق علىَّ في هذا ولو للحمير نفسها. أجاب الثاني: “الآن سوف نرى، لأنني عزمت على أن تذهب لناحية من الجبل، وأذهب أنا الى الناحية الأخرى حتى نحاصره ونسعى إليه معًا، ومن لحظة لأخرى تنهق فخامتكم، وسأنهق أنا ولا سبيل أمام الحمار إلا الاستماع إلينا والجواب على نهيقنا، هذا إذا كان في هذا الجبل“.
وهنا ضاع صوتي قليلا واختلج إزاء بدء إحساسي بتكون لغم خفي من الضحك ينبعث من أعماقي واشعر أنه سينفجر في لحظة. اختلست النظر إلى نقار الزجاج فوجدته ينظر إليّ بتوفز غاضب، لكني شعرت للحظة أنه غضب مصطنع، وهنا انفجرت ضاحكا.
بدا ناقر الزجاج متوفزا وهو يحاول أن يتماسك. وبدا لي أنه مدرك تماما لأنه إذا ما استسلم لرغبته في الضحك فسوف يتحول الأمر كله إلى كارثة حقيقية، وسوف يصبح ثالثنا الذي يقع أسرى كريزة الضحك المعدية التي قد تحول مشروع النسخ كله إلى فكرة عبثية اذا كبرت كرة الضحك كثيراً وخرجت عن السيطرة. لذلك فقد بدأ يسعل بهيستريا، واستمر في ذلك حتى ناوشني الإحساس بالقلق. فقد بدا الأمر بعد قليل أشبه بأزمة ربو تعرض لها الرجل بغتة، إذ احمر وجهه وانتفخت اوداجه ونفرت عروق في جبينه حتى اشفقت عليه.
وبعد فترة من السعال المتواصل، والقلق، وضيق التنفس، والبحث المشترك بيني وبين سديم عن زجاجة مياه ليتجرع منها ما يتجاوز بها هذه الأزمة مر وقت طويل. ثم أنه عاد لطبيعته فجأة وبدأ يتنفس بشكل طبيعي ثم أغلق عينيه وبصوت متحشرج قال:
–استمر.
وقبل أن ارد عليه بشيء. كان قد جلس على الأرض مُسندًا ظهره إلى جدار، وأشار لي بيده أن استمر بطريقة أوحت بقوله: لا تتهرب من واجبك أو تتباطأ في القراءة، وهكذا لم يكن أمامي سوى العودة للقراءة:
“وعلى هذا أجاب صاحب الحمار: اقول يا ابا الزُمُل أن الفكرة حيلة ممتازة تليق بعبقريتك”. وهكذا افترق الإثنان وانقسما. طبقا للاتفاق، وحدث تقريبا أن أخذا في النهيق في نفس الوقت، وكل واحد تحت خداع نهيق الآخر، هرع يبحث عن زميله ظانا أنه الحمار وقد ظهر، وعندما اصطدما أحدهما بالآخر قال فاقد الحمار: “هل من الممكن أبا الزمل، أن من كان ينهق لم يكن حماري؟”. أجاب الآخر:”لم يكن إلا أنا”. قال صاحب الحمار:”والآن أقول يا أبا الزمل، أنه لا يوجد بينك وبين الحمار أي فرق، فيما يتعلق بالنهيق، لأني طوال حياتي لم أر شيئا بهذه الأصالة.
أجاب صاحب الحيلة: “هذا الثناء والإعلاء من شأني ينطبق عليك اكثر مني، يا أبا الزمل، فبحق الله آمنت أنكم قادرون على تسجيل نهقتين أكثر من أي ناهق خبير في العالم، بهما تكسب المباراة لأنك تمتلك صوتا عاليا وقرار الصوت في تواقت وإيقاع ودقات اللهجة غزيرة ومتسارعة، وباختصار أعلن هزيمتي واستسلامي وأسلمكم علم هذه المقدرة النادرة والكفاءة“.
عند هذه النقطة رفعت يدي وأنا أعود بظهري للخلف موضحا عدم قدرتي على استكمال القراءة، فما كان من نقار الزجاج إلا أن ابتسم ساخراً ثم طلب من كل منا أن يقوم بنسخ الفقرة التي تضحك الآخر، ويستمر عملنا بهدوء. ثم تركنا وخرج من العربة، وبعد خروجه بلحظات تناهى إلى سمعنا صوت عواء رهيب، أقرب ما يكون لضحك الذئاب إذا ضحكوا، وسرعان ما راح صدى ضحكة الذئب يتردد في أرجاء النفق.
…………………………………
*فصل من رواية بنفس الاسم تصدر قريباَ عن دار ضفاف ببيروت
*نقلاً عن بوابة الأهرام