عائشة هذه كانت جدتها لأمها، عندها سبعون عامًا، حدباء ونحيفة، وجهها القمحي كان ذا جلد سميك مجعد، وشفتاها كانتا مطبقتين على بعضهما بعد أن خسرت أسنانها، التي خلال الأعوام الماضية كانت تعمل على زراعة قيراط واحد من الثلاثة قراريط التي ورثتها عن زوجها، أما القيراطان فتؤجرهما لأحد أقاربها من بعيد.
في تلك الأيام كانت تستيقظ باكرًا في صباح كل من الاثنين والخميس، ثم تحمل مقطفها الممتلئ بالفجل والجرجير والكراث قاصدة سوق البلدة. أما الآن فهي لا تفعل شيئًا سوى الانتظار إلى أن يحين موعد الإيجار القليل وزكاة الفطر.
كانت نورا تعيش في كنف جدتها منذ أن توفي والداها فاطمة وجلال اللذان التهمتهما النار في أثناء ما كانت هي تحبو عند عتبة الدار.. كانت نورا تتكئ بجسدها النحيل فوق يديها المتشابكتين وراء خصرها على حائط نخرت الرطوبة أسفله كما لو كان على وشك الانهيار. وبينما هي تخفض رأسها ذا الشعر الأسود المتهدل على وجهها حتى صدر جلبابها الأحمر القصير الذي يكشف عن ساقيها الرفيعتين كانت أصابع قدميها تعبث في التراب. هل كانت تكتب شيئًا فوق الأرض المتربة بأصابع قدميها؟ ربما! والذي يراها مثلما أراها الآن عبر قضبان نافذة دارنا التي كانت تطل على الطريق فسوف يلاحظ مدى شرودها وتكشيرة وجهها التي تظهر خلسة من بين خصلات شعرها الغزير كلما تلتفت، فيما تبدو وكأنها تلهج بكلمات ساخطة وهي تتمتم بشفتيها.
لم يكن وقوفها يعني أنها تنتظر جدتها كي تفتح لها الباب، لأنه مفتوح بالفعل، وإن كان بشكل موارب، بل كانت متخاصمة معها فغادرت الدار كالعادة. أجل.. فكثيرًا ما يحدث هذا حيث كنت أنا من يصلح بينهما أحيانًا، وبخاصة عندما تكرر المرأة العجوز النداء عليها بصوت ملتاع يبدي قدر حبها لنورا، ولكن في تلك المرة استغربت أمر جدتها التي لم تنادها إلا مرة أو مرتين ثم سكتت. في البداية لم أجد في الأمر غرابة إلا عندما طال وقوفها بالخارج حيث كنت قد مللت تطلعي من النافذة فتراجعت إلى الداخل حتى أجلس أمام التلفاز الذي بدأ في عرض فيلم أفضل مشاهدته، في حين لم يكن في نيتي أن أعود مرة أخرى إلا أنني رغبت في إطفاء عطشي بماء «القُلّة» البارد، فرأيتها ما زالت هناك. بيد أنها لم تتزحزح عن مكانها شبرًا واحدًا على الرغم من شمس الظهيرة الساخنة التي كانت تغمرها، حيث كان العرق يكسو وجهها الذي التصقت به بعض خصلات شعرها، بينما جعل التراب الذي يعلو قدميها يتحول إلى طين لزج.
وما أكد لدي خصامها لجدتها أنها لم تفكر أن تتحرك لكي تقف تحت ظلال شجرة الجميز القريبة، فقد كانت تريد أن تعنف نفسها حتى تستدر عطف جدتها – التي لم تبدِ نحوها أي رد فعل حتى الآن – أو أحد المارة.
وبالفعل هذا ما حدث، فبعد لحظات كانت هناك امرأة آتية من عند أول الطريق، تحمل فوق رأسها مقطفًا حيث تبدو أنها عائدة لتوها من السوق لأن اليوم هو الاثنين.
لم أكن أعلم من هي إلا حينما اقتربت، ترفل في ثوب غامق، حافية القدمين.. عندها عرفت فيها بخيتة زوجة الخفير عبد التواب، التي ظللت بعيني حتى جاءت قبالتها، فنظرت إليها بعينين متسائلتين ثم توقفت:
– إنتي يا بت واقفة ليه كده تاخدك الشمس يا مضروبة.
لم تحرك نورا ساكنًا، مما زاد ذلك من غضب المرأة عليها فكادت تسبها، غير أنها أحجمت عندما وجدتها قد بدأت تبكي بصوت مرتفع. عند ذلك انحنت ووضعت ما كانت تحمله إلى جوار الحائط، وبعد أن اعتدلت أعادت لف طرحتها التي انزلقت على كتفها ثم اقتربت أكثر حتى أمسكت وجه نورا بين راحتيها الذي رأته مغسولا بالدموع ومشوبا بصفرة مفرطة. أشفقت المرأة عليها حيث مسحت لها دموعها بطرف طرحتها قبل أن تضمها إليها. وفي أثناء ذلك كانت تمسد لها شعرها لكي تهدئ من روعها وتبادلتا كلمات قليلة لم أستطع سماعها، إلا أنني خمنت أنها كانت تطلب منها الدخول إلى الدار حتى لا تضرها سخونة الشمس، وذلك عندما جذبتها برفق من يدها فنشبت نورا قدميها في الأرض وتسمرت مكانها، فيما جعلت تهز رأسها بالرفض إلى أن نضحت سيماء المرأة بالسخط، فقررت أن تتركها وشأنها وتدخل هي الدار بمفردها، في حين تراجعت نورا إلى الوراء ثم مالت على الحائط كما كانت، فحولت عيني عنها وصوبتهما باتجاه الباب في انتظار ملهوف لخروج المرأة، بعدما انتابني إحساس غامض أثقل على نفسي لطول مكوثها بالداخل، حيث حدست بأنها قد عثرت على جدة نورا ميتة…..