تصف لنا الآنسة (بريل) في البداية كيف أخرجت معطفها من الخزانة ظهر ذلك اليوم، ونفضت عنه المسحوق المضاد لعثة الملابس، ثم فركته بالفرشاة مما أعطى الحياة لعينيه الحزينتين .. تخيلت أن هاتين العينين تتساءلان عن التغير المُبهج الذي طرأ عليه في تلك اللحظة.
تعود الآنسة (بريل) في منتصف القصة لوصف الأشخاص الذين يأتون كل أحد إلى المنتزه بنفس الطريقة: كأنهم آتون من غرف صغيرة حالكة الظلام أو حتى من خزائن مغلقة.
بعد عودة الآنسة (بريل) إلى بيتها مذبوحة بحوار مهين بين عاشقين سخرا من معطفها، وعندما أعادت المعطف إلى الصندوق وأطبقت عليه الغطاء تهيأ لها أنها تسمع شيئاً ما يصرخ.
نعم كانت تسمع صرختها أو ربما صرخة كل الأشياء القديمة الوحيدة (بحسب ما اتفق العاشقان في وصفها) التي أخفقت في استرداد الحياة .. الشعور بالوجود الذي لا يعني أكثر من الخروج إلى منتزه كل أحد والاستماع إلى أنغام الفرقة الموسيقية واستراق السمع إلى أحاديث الغرباء وشراء قطعة من الكيك في طريق العودة إلى المنزل حيث يمكن أن يحدث الفرق الكبير: أن تجد بداخلها الهدية الصغيرة (حبة اللوز) .. هذا الفرح الصغير الخافت جعلته (كاثرين مانسفيلد) قابلاً للتطور؛ إذ دفعت الآنسة (بريل) لاكتشاف أن الأمر أشبه بمسرحية .. ممثلون أو معاطف بمعنى أصح تتحرك أمام سماء مرسومة كلوحة خلفية، وكل كائن له دور في خلق التشويق الذي لا يمكن الاستغناء عنه (سيفتقد الممثلون الآخرون الآنسة “بريل” لو غابت عن موعد حضورها إلى المنتزه يوم الأحد) .. فكرة يمكنها أن تمتد ذهنياً نحو أكثر الحالات روتينية وكآبة لتمنحها لوناً جديداً ومذاقاً مختلفاً.
لكن الحياة لا تسمح حتى ببقاء هذا الخاطر .. رغم أنه مجرد خاطر .. إنها تعاقب هذا النوع من الاكتشافات على نحو فوري كأنه شكل من أشكال المتع المحرمة .. لكن العقاب الفوري لابد أن يكون بارعاً في تنظيم القهر بما فيه الكفاية .. إنه يسمح بقدر من الاستغراق في الإيمان بإمكانية خلود الفكرة، أو على الأقل استمرارها لمدى يتجاوز الحيز التي انبعثت بداخله .. يقود النشوة المفاجئة نحو التحوّل إلى يقين: تشعر الآنسة (بريل) أنها تنتمي بالتأكيد إلى مشهد أوسع من الحدود الضيقة لعالمها، وأن كيانها الضئيل المهمل يمثل أهمية في حقيقة أكبر، يتشارك معها الآخرون في البرهان على واقعيتها .. الحياة ستترك هذا التفاؤل الدافيء يهيمن بثقله العاطفي مما سيدفع الآنسة (بريل) للبكاء تأثراً بالتوحد الغنائي السعيد الذي تخيلته وشيكاً بين البشر في المنتزه على نغمات الفرقة الموسيقية .. لن يكون هناك جزاءاً ملائماً يفوق استماع الآنسة (بريل) أثناء غنائها دون صوت إلى الحوار بين الشاب والفتاة وهما يتهكمان على مظهرها.
هذه ليست مسرحية .. إذ لو كانت كذلك لكان بوسع الممثلين الخروج على النص بأي طريقة وهذا لا يمكن أن يحدث .. لو كانت كذلك لكان الأمر برمته غير حقيقي وهذا خطأ حتماً .. لا يوجد ما يمكن تخيله أو تعديله أو التحرر منه وهنا تأتي قيمة التذكير .. أن تأخذ ضربة على رأسك كي يعود إليك صوابك .. لكن لا ينبغي أن ينطلي عليك هذا أيضاً .. الحياة هي التي تخلق الخواطر الممتعة، وهي التي تزرع الإيمان بخلودها فهي تعرف تماماً كيف تخدم اللذة الناجمة عن تثبيت علاقتك بالغرف الصغيرة حالكة الظلام والخزائن المغلقة.
ماذا لو كانت مسرحية فعلاً ولكن بحتمية مضادة لما تصورته الآنسة (بريل)؟ .. مسرحية تلائم المعاطف القديمة؟ .. ما هي الأدوار التي تناسب أشياءً بالية ملقاة في أماكن ضيقة ومعتمة؟ .. ربما ضاعت أعمارنا في استخدامات لم تكن لائقة بما كنا في احتياج إليه حقاً .. ما كان يرتدينا ـ بوصفنا معاطف ـ وما كنا نحاول حمايته لم تكن تلك الأحلام المراوغة التي طالما اعتبرنا أنفسنا جديرين بتحقيقها، وإنما كانت بدائل فاشلة وخبيثة تركتنا منسيين في صناديق لا يُجدي مع وحشتها أي مسحوق مضاد للعثة .. هي مسرحية فعلاً ولكنها قد لا تنفع سوى لأن تُقرأ كالصحيفة التي كانت الآنسة (بريل) تقرأها للسيد العاجز الذي لو قُدر له الموت فلن يُلاحظ ذلك.
الآنسة بريل Miss Brill
قصة قصيرة للكاتبة :- كاثرين مانسفيلد
By: Katherine Mansfield
ترجمة :- خلف سرحان القرشي
رغم أن الجو كان بديعا، ألا إن قطعا ذهبية كبيرة من الضياء أشبه ما تكون بسائل أبيض رش فوق المنتزه. الآنسة (بريل) مسرورة كونها ارتدت معطفها الفراء، الهواء ساكن، ولكن بمجرد أن تفتح فمك، فإن رعشة تعتريك مثلها مثل تلك الرعشة التي تحسها عندما تهم بارتشاف جرعة من كأس من الماء المتجمد.
بين فينة وأخرى، تتهادى بعض أوراق الشجر التي تهب بها الرياح، آتية بها من لا مكان، من تحت أديم السماء. رفعت الآنسة (بريل) بيدها لتلامس معطفها! ذلك الشيء الصغير العزيز! شعرت بالمتعة في أن تتحسسه ثانية. لقد أخرجته من الخزانة ظهر ذلك اليوم، نفضت عنه المسحوق المضاد لعثة الملابس، فركته جيدا بالفرشاة مما جعل منظره يشيُّ بالحياة التي تأتلق الآن في عينيه الصغيرتين الباهتتين.
” ما الذي يحدث لي؟ ”
هذا ما تخيلت (بريل) عيني المعطف الصغيرتين الحزينتين تقولانه.
” أوه. كم هو جميل أن ترى الآنسة (بريل) تلك العينين الصغيرتين للمعطف وقد أطبقتا عليها عبر الزغب الأحمر، لكن أنف المعطف لم يكن ثابتا كما ينبغي، ها.ها . لا بد أنه تعرض لضربة. يجب أن يعطى طرقة بطريقة ما. لا يهم ….حينما يأتي الوقت فإن قليلا من الشمع يوضع عليه كختم، فقط عندما يكون ضروريا.
“أ وه، أيها الفرس الحرون الصغير!”
نعم، هذا حقيقة ما شعرت به نحوه.
حقّا كان معطفها مثله مثل فرس حرون صغير يعبث بذيله عند أذنها اليسرى. بوسعها نزعه ووضعه على حضنها وتمسيده. رغبت بذلك. شعرت بوخز في يديها وذراعيها. ظنت أن ذلك من جراء مشيها.
عندما استنشقت بعض الهواء فإن شيئا مضيئا وحزينا …لا … ليس حزينا.. تماما… شيئا لطيفاً يتحرك في صدرها!
هناك الكثير من الناس في المنتزه ظهيرة ذلك اليوم، إنهم أكثر من الذين كانوا هنا الأحد الماضي. الفرقة الموسيقية تعزف أنغاما أعلى وأكثر ابتهاجا لأن الموسم قد بدأ. الفرقة تعزف كل أحد طيلة العام ولكن في غير الموسم، فالعزف مختلف. الفرقة حين ذاك أشبه ما تكون بشخص يعزف لتستمع إليه عائلته فقط. لا يهم كيف يكون العزف إذا لم يكن هناك غرباء يستمعون .أليس قائد الفرقة مرتديا معطفا جديدا؟ الآنسة (بريل) متأكدة من أنه جديد. القائد أشبه بمن يحك قدمه. إنه يرفرف بيديه مثل ديك يوشك أن يصيح . أعضاء الفرقة جالسون فوق تلك المنصة المستديرة الخضراء التي تعلوها قبة،ينفخون في الآلات، فتمتلئ وجناتهم وتتوهج وجوههم، يظهر ذلك جليا في منظر خدودهم ووجناتهم بينما هم يحملقون في النوتة التي أمامهم. حان الآن وقت العزف على آلة (الفلوت)، عُزِّفت مقطوعة قصيرة، سلسلة من النغمات الصافية. كانت واثقة من أنها ستعاد ثانية، وحدث هذا بالفعل.رفعت (بريل) رأسها وابتسمت.
شخصان فقط شاركاها الجلوس على المقعد الطويل المميز، رجل طاعن في السن، أنيق في مظهره، يرتدي معطفا من المخمل، يداه قابضتان على عصا مشي كبيرة تزينها بعض النقوش. وبرفقته امرأة مسنة، جلست بجانبه منتصبة القامة، وفوق مئزرها المطرز لفة صوف.
لم ينبسا ببنت شفة، وكان هذا محبطا للآنسة (بريل)، التواقة دوما للمحادثات. أصبحت في الحقيقة خبيرة تماما في استراق السمع بطريقة خفية لا تبدو معها إنها تسترق– هذا ما جال ببالها آنذاك – إنها خبيرة أيضا في الغوص في حياة الآخرين من خلال تلك اللحظات القليلة التي يتحدثون فيها وهم على مقربة منها!
اختلست نظرة إلى الزوجين العجوزين, لعلهما ينصرفان الآن. الأحد الماضي لم يكن ممتعا كما هو الحال عادة. أتى رجل إنجليزي عجوز، يعتمر قبعة مفزعة برفقة زوجته التي تنتعل حذاء له أزرار، وقضت معظم الوقت تتحدث عن الكيفية التي يفترض أن تضع بها النظارة التي تفكر في شرائها، كانت متأكدة من احتياجها لها ولكنها تؤثر عدم اقتنائها، لاعتقادها أنها سوف تنكسر ولن تبقى لها لتنتفع بها. كان الزوج صبورا جدا. اقترح عليها كل شيء؛ النوع المحاط بالذهب، النوع الذي يلف حول الأذنين، لبادة خفيفة داخل جسر النظارة الذي يوضع على الأنف. لا . لا شيء يعجبها. إزاء كل مقترح كانت تقول:” ستنزلق من على أنفي”! كادت الآنسة (بريل)أن تصيح عليها مؤنبة إياها.
كبار السن يجلسون عادة على المقاعد الطويلة، ثابتون مثل التماثيل. لا يهم ، فهناك دوما آخرون، بوسعها مراقبتهم، حيث يجيئون ويذهبون، أمام مساكب الزهور و منصة الفرقة. يْقدِمُون فرادى، أزواجا وجماعات، يتوقفون للحديث، يحيّ بعضهم بعضا، يشترون حفنات من الزهور من ذلك الشحاذ العجوز الذي ثبت صينية أزهاره على السياج. أطفال صغار يركضون بينهم، يأكلون ويضحكون، وثمة أطفال أصغر منهم سنا، يرتدون شرائط حريرية بيضاء تحت ذقونهم، وثمة أيضا بنات صغيرات، وفتيات فرنسيات كالدمى مكسوات بملابس مخملية مزركشة. فجأة يندفع طفل صغير مشاكس، يترنح مقتربا من الحفرة التي تحت الأشجار. يتوقف، يحملق، وسرعان ما يرتطم بالأرض ويظل مطروحا هناك إلى أن تهرع أمه الشابة الحريصة بخطى سريعة إلى نجدته وتشتمه, وكأنها دجاجة تلاحق صغارها.
أناس آخرون يجلسون على المقاعد الطويلة والكراسي الخضراء، ولكنهم دائما نفس الأشخاص الذين يأتون كل أحد. لا تكاد تميز أحدهم عن الآخر. السيدة (بريل) لاحظت أن هناك قاسما مشتركا يجمع بينهم، شيء ما مضحك يتعلق بمعظمهم. كانوا أشبه ما يكونون بالدمى، الصمت يستحوذ عليهم، غالبيتهم عجائز شاب فيهم الزمن، يحدقون بطريقة تجعلهم يبدون وكأنهم أتون للتو من غرف صغيرة حالكة الظلام أو حتى من خزائن مغلقة.
خلف القاعة المنصة، هناك الأشجار النحيلة تسقط أوراقها الصفراء، ومن خلال تلك الأشجار يظهر شريط من البحر وفي الخلف تظهر السماء الزرقاء محملة ببعض السحب المتشحة بعروق ذهبية.
(تـــم – تم – تايدل أم ! تايدل – أم – تم تا يايددلي أم تا).
هكذا عزفت الفرقة الموسيقية.
أتت فتاتان ترتديان الأحمر، وقابلهما جنديان في لباس أزرق. ضحكوا جميعا وأخذ كل منهما بذراع واحدة منهما ومضيا لحال سبيلهما. امرأتان قرويتان بقبعتي ريش مضحكتين مرتا بالجوار وهما تقودان حمارين جميلين بلوني الدخان. راهبة وقورة، شاحبة الوجه مرت مسرعة بالقرب منها. قدمت أيضا امرأة جميلة، سقطت منها حزمة من البنفسج، ثمة صبي صغير يركض ليلتقطها لها، أخذتها منه، وقذفت بها بعيدا كما لو أن تلك الحزمة قد سممت. يا إلهي! الآنسة (بريل) لا تدري عما إذا كان من الأجدى أن تعجب بذلك أم لا! الآن امرأة تعتمر قبعة نسائية من فراء القاقم (1) ورجل يرتدي ملابس رمادية يتقابلان وجها لوجه أمامها مباشرة.
كان طويلا، وقورا، تعلوه سيمياء الكبرياء، أما هي فكانت مرتدية القبعة الفراء التي ابتاعتها عندما كان شعرها فقط أصفر، أما الآن فكل ما فيها، شعرها، وجهها، وحتى عيناها بنفس لون الفراء الباهت، وكذلك يدها المندسة في قفازها المنظف, والتي ارتفعت لتربت على شفتيها وكأنها براثن حيوان صغيرة ضاربة إلى الصفرة. أوه. كانت المرأة مسرورة لرؤية الرجل. شعرت بالغبطة. كانت شبه متأكدة من لقائه ظهر ذلك اليوم.
وصفت المرأة كل الأماكن التي سافرت إليها هنا وهناك عبر البحار. أليس النهار فاتنا ؟ ألا يعتقد ذلك؟ لكنه هزّ رأسه،أشعل سيجارته، وببطء أخذ منها نفسا عميقا، ونفثه في وجهها. وبالرغم من أنها كانت مستمرة في حديثها وضحكها، ألا إنه رمى بعود الثقاب بعيدا ومشى. الآن قبعة فراء القاقم وحيدة؛ ابتسمت بمرح أكثر من ذي قبل، ولكن حتى الفرقة بدا إنها تعلم حقيقة شعورها، وعزفت بنعومة ولطف أكثر. وقرع الطبل.يا ترى ماذا الذي يجب عليها عمله؟ ما الذي سوف يحدث الآن؟ وبينما الآنسة (بريل) تتساءل، فقد عادت تلك المرأة لرفع يدها، كما لو أنها رأت شخصا أخر، أكثر لطفا، على مقربة منها، يهمهم . يترنم بمقطع من أغنية، وغيرت الفرقة شيئا من عزفها للمرة الثانية،يتم العزف الآن بشكل أسرع وبابتهاج أكثر من أي وقت مضى.
الزوجان اللذان كانا يجلسان بجانب الآنسة (بريل) على المقعد الطويل نهضا الآن وسارا مغادرين. كم هو مضحك ذلك الرجل العجوز ، ذو السالفين الطوليين، والذي كان يتمايل مع الموسيقى ويمشي متعرجا، حتى كاد أن يضرب من قبل أربع فتيات يمشين بمحاذاته.
آه. كم هو ممتع ذلك الشعور! كم استمتعت به!). كم أحبت ) الجلوس هنا لتشاهد كل شيء! الأمر أشبه بمسرحية. نعم إنه يشبه المسرحية تماما. من يسعه الاعتقاد أن السماء التي في الخلفية ليست سوى لوحة مرسومة. الآنسة (بريل) لم تكتشف ما الذي جعل الأمر كله على هذا المقدار من التشويق حتى أتى ذلك الكلب الأسمر الصغير يركض سريعا وبشكل مهيب نحو المنطقة التي أمامها. ومن ثم قلّل من سرعته تدريجيا وعاد من حيث أتى مثله مثل كلب مسرح تم تخديره.
لم يكونوا فقط مجرد متفرجين. لم يكونوا يشاهدون فقط بل كانوا يمثلون. حتى هي كان لديها دور تؤديه ولذلك تأتي من أجله كل يوم أحد. لا شك أن ثمة من سيفتقدها فيما لو غابت ذات مرة.حضورها جزء من المشهد.
كم هو غريب حقا أنها لم تفكر في الأمر على هذا النحو من ذي قبل، رغم أن ذلك هو الذي يفسر حرصها على بدء انطلاقتها أسبوعيا من منزلها وفي نفس الوقت، كما لو كانت حريصة على أن لا تتأخر عن الأداء .
ذلك يفسر أيضا لماذا تشعر بالخجل و الغرابة عندما تخبر طلبتها في مادة اللغة الإنجليزية كيف تقضي ظهيرات أيام الآحاد. لا عجب في أنها كادت أن تطلق ضحكة مدوية. إنها فوق خشبة المسرح. تفكر في السيد العاجز والذي تقرأ له الصحيفة أربع مرات ظهيرة كل أسبوع بينما هو نائم في الحديقة. ألفت منظر رأسه على مخدة القطن، ومنظر عينيه الغائرتين وفمه المفتوح وأنفه المقروص. لو قدر له الموت فقد لا تلحظ ذلك لعدة أسابيع، ولن تلق له بالا. ولكنه فجأة تذكر أن هناك صحيفة تقرأ له من قبل ممثلة. رفع رأسه التي اشتعلت شيبا، وارتعشت نقطتا ضوء عينيه الهرمتين:- ” ممثلة” ،” ألست ممثلة؟”. وبدأت الآنسة (بريل) تتلمس الصحيفة بيدها الصحيفة برقة كما لو كانت مخطوطة تحمل نص دورها في المسرحية، وقالت بلطف:- ” نعم إنني ممثلة منذ زمن طويل”.
أخذت الفرقة قسطا من الراحة، الآن استأنفت العزف، الذي يتسم الآن بالدفء والتفاؤل، رغم أن فيه شيء من ….، ترى ما هو ذلك الشيء، ليس حزنا، نعم ليس حزنا، شيء ما يولد لديك رغبة في الغناء. ارتفعت النغمة، ارتفعت أكثر، لقد شع الضياء. بدا للآنسة (بريل) أن الجميع عما قريب سيصدحون بالغناء كلهم، كل الصحبة، الرفاق، الفرقة وكذلك الزوار. الشباب منهم، الضاحكون منهم الذين كانوا يتحركون مع بعضهم البعض، كلهم بلا استثناء سيشرعون في الغناء،ومعهم أصوات الرجال التي يكون فيها عزم وتصميم.، والآخرون الذين على المنصة سوف يأتون ويغنون في مسايرة لطيفة؛ مسايرة بسيطة؛ مسايرة جميلة جدا تتحرك…..امتلأت عينا السيدة (بريل) بالدموع ونظرت مبتسمة لكل الأعضاء الآخرين لجماعة الفرقة المفترضة. نعم ، لقد فهمنا، لقد فهمنا. فكرت في ذلك… في الذي يكونوا قد فهموه وهي لا تدري عنه شيئا.
عند تلك اللحظة، قدم شاب يافع وفتاة، جلسا حيث كان العجوزان جالسين. كانا ير تديان ملابس جميلة جدا. بدا أنهما عاشقان لبعضهما. البطل والبطل وصلا للتو على يخت والده. الآنسة (بريل) مازالت تغني من غير صوت، ومازالت أيضا محتفظة بتلك الابتسامة المرتعدة، وبينما هي كذلك أرخت العنان لأذنيها لتستمع.
الفتاة تقول:
– لا. ليس الآن. ليس هنا! لا أستطيع.
ويسألها الشاب:
– ولكن … لماذا؟ أبسبب ذلك الشيء القديم الغبي القابع هناك!
وأضاف:
– لا أدري لماذا تأتي دوما إلى هنا وحيدة تماما. من يا ترى يرغب فيها؟ لماذا لا تبقي خلقتها الغبية الحمقاء تلك في البيت.
وقالت الفتاة مقهقهة:
– كم هو مضحك معطف الفراء الذي ترتديه! إنه يشبه سمكة قدِّ بيضاء مقلية.
وفي همس غاضب قال الشاب:-
– دعكِِّ منها.
وأضاف:-
– والآن يا حبيبتي ألا تسمحين لي بـــ ……؟
– لا، ليس هنا، ليس الآن!
في طريق عودتها للمنزل، اعتادت (بريل) شراء قطعة من الكيك .إنها تجد في ذلك متعة كل أحد، أحيانا تجد في قطعتها حبة لوز، وأحيانا لا. إن ذلك يحدث فرقا كبيرا. إذا وجدت فيها حبة لوز، فتكون كمن جلب لبيته هدية صغيرة، شيئا سارا ليس موجودا هناك. كانت تسرع الخطى في أيام الآحاد التي تجد في قطعتها حبة اللوز, وتقدح عود الثقاب معدة إبريق الشاي على عجل..
غير أنها اليوم، مرت من عند المخبز، تجاوزته دون أن تتوقف عنده. تسلقت الدرج الموصل لبيتها، ودخلت الغرفة الصغيرة المظلمة، غرفتها التي تشبه الخزانة المغلقة وجلست على الفراش المحشو بالزغب. جلست هناك لوقت طويل. الصندوق الذي أخذت منه معطف الفراء كان ملقى على السرير. فكت مقبضه بسرعة، وبسرعة أيضا،ومن دون أن تنظر، ألقت بالمعطف داخله. وعندما أطبقت عليه الغطاء ، تهيأ لها أنها تسمع شيئا ما يصرخ!