حسنا فعل المدينى عندما جعل من نفسه إحدى شخصيات الرواية، تبدأ الحكاية بمروره العابر فى السطور الأول كشخص مراقب يهرول ممارسا الجرى، وواصفا المنطقة التى تجرى فيها الأحداث، ثم يقرر أن يعود الى كتابة رواية بعد أن أقسم أن تكون روايته السابقة ” رجال ظهر المهراز” هى الأخيرة، يبدأ المدينى فى التورط من جديد فى فعل النبش والكتابة بعد أن عرف معاناة أهل منطقة عشوائية على حدود العاصمة الرباط، يريدون نقل سكانها الى مكان آخر، فيما بعد سيظهر المدينى من جديد ليحدث إحدى “عمر غانم” أحد شخصيات الرواية، يطلب رأي الشخصية فى أن تقوم بدور البطولة فى عمله الذى يكتبه، مع السطور الأخيرة يعود المدينى للظهور مشاركا فى مسيرة التمرد، بعد أن مُنع من العودة الى شقته، واستعادة مخطوطة روايته.
تعمل هذه الحيلة البارعة الى نقل الكاتب من خانة المتأمل الى رتبه الشاهد المتورط، وربما كانت تحتمل أن يكون له دور أكبر، ولكن المعنى وصل تماما: لايمكن أن يصمت الكاتب عن تغييرات وانقلابات تتم أمام ناظريه، لا يستطيع أن يغلق عينيه عن بؤس يراه بدعوى أنه لايجب أن يهتم إلا بممارسة رياضة تمنع عنه الأمراض، وتؤخر ملامح الشيخوخة، فكرة “الإهتمام” ستنتقل حتى الى الكلب “جاك” الذى يقتحم صوته السرد، هو أيضا مهتم بالمكان الذى نزح إليه من مكان أصابه الجفاف، الكلب يبحث عن مأوى فيجده بعد جهد فى حفرة وسط حديقة أمام ممر الصفصاف، وبناية السعادة، فى حى الرياض، بعد قليل ستبدو كل هذه التسميات ساخرة، حيث لا صفصاف ولا رياض ولا سعادة، هناك فقط اكتساح للحى وللحديقة، بيوتٌ إسمنتية، ومسجد ضخم يقام على أنقاض الجزء الجنوبى من الحديقة، ومرآب للسيارات، مدينة كاملة يحتلها الأثرياء، بينما يؤمر سكان المنطقة العشوائية بالإنتقال بعيدا عن العاصمة وإلا …..
الكلب “جاك” متورط أيضا فى الشهادة، حاله لايختلف عن “بلعيد” القادم من منطقة عشوائية طاردة، لايمتلك هذا البائس سوى دراجة انتهى عمرها الإفتراضى، مقدّم المنطقة يختاره لكى يكون حارسا على الحديقة، يعده بأن تسند إليه مهمة عظيمة، فى المكان يتصادق منبوذان : بلعيد وجاك، هناك أيضا بستانى بائس، عامان يحدث فيهما غزو الحديقة، يرتفع بناء المسجد الذى بناه حاج ثرى لا يظهر أبدا، يتوقع بلعيد الذى حرس المكان، وشهد مولد المسجد، أن يجعلوا له مسكنا صغيرا ملحقا، يطمح فى أن ينضم الى ساكنى حى الرياض، ولكنه يطرد هو والبستانى، يأنى حارس جديد، يطردون أيضا “جاك” لأن نجاسة الكلاب لاتليق بطهارة المساجد، الفقراء هم الديدان التى ترفع البنيان ثم تطرد، لا يأكلون سوى الخبز والشاى، أو يقسطون صحون الطعام من مول البركة الذى يستغل هوجة بناء المسجد فى توسعة الإنتفاع من الدكاكين أسفل بناية السعادة، تجارة فى كل شىء، خلال عامين تتغير معالم الحى، تبنى أماكن إدارية وأمنية، سكان البنايات منعزلون مثل الفئران، عندما نزل “جاك” الى الحى لم يجد من يقدم إليه شربة ماء.
تتداخل أصوات “بلعيد” و”جاك” فى السرد فنعرف أنهما وجهان لمأساة واحدة، يتقاطع أنين الحيوانات فى حديقتها على أطراف المنطقة مع أنين دراجة “بلعيد” التى تشكو رحلاته الطويلة، يتوالى السرد بضمير المتكلم مع السرد بأسلوب الراوى العليم فندرك أن المدينى يساند ابطاله بعد أن عبّر عن اصواتهم ببراعة لايخدشها سوى الإستطراد والإسهاب الذى لا يسلم منه فصل واحد، ليس هناك تنميط على الإطلاق رغم الإنحياز للفقراء، هناك فقراء يبيعون أنفسهم مثل “بوجمعة” حارس بناية السعادة ، الذى وافق على أن يكون عينا للأمن، والذى يمتهن السمسرة فى كل شىء، والذى يجلب الخادمات للسكان، ثم ينال “بوجمعة” فى النهاية الطرد، هناك سخرية مريرة من تلك الطبقة المتوسطة التى تعتمد على الأقساط فى حياتها، فئة من الموظفين تحاول أن تصعد معتمدة شعار الأنانية والإنكفاء على الذات، سكنوا بناية السعادة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يكونوا سعداء، يمكن أن يسقطوا الى أسفل ، ويمكن أن يصعدوا الى طبقة أعلى، وفى الحالتين هم خائفون .
يسخر أحمد المدينى مستخدما المكان والزمان والبشر والحيوان من مجتمع يحكمه الأمن، والأثرياء الجدد، ومسغلو الدين فى التجارة، مجتمع تقوم فيه موظفة فى هيئة الإستشعار عن بعد بحرق البخور فى بناية السعادة طردا للجان، طبقة فقيرة مسحوقة تعيش فى مدن الصفيح والطين، تقتات على الفتات، وتبعث الى المدينة بالشحاذين والخادمات والحراس والبنائين، ويجلس عاطلوها ومحاربوها القدماء فى الهند الصينية يجترون معاناتهم أمام البحر، وطبقة وسطى منعزلة متعالية وخائفة من مستقبل لا تضمنه، وطبقة ثرية متحالفة مع الأمن، شعارها فقط هو أن تربح بلا نهاية، تحتل أى منطقة خالية لتبنى فيها، ولتجعل المدن أكثر قبحا، تحجز بيوتا فى الدنيا، ولا تنسى أن تبنى المساجد لتحجز بيوتا فى الجنة أيضا، على الهامش، لايمتلك المثقف إلا قلمه ليحكى، ليمارس النبش والتعرية، أو يقبع منعزلا بعد أن ترك وظيفته طالبا معاشا مبكرا مثلما فعل “عمر غانم” ساكن الطابق الخامس فى بناية السعادة، لن يسلم عمر من استهجان الجميع لمجرد أنه يقدم الطعام للكلب “جاك” وللقط “هشام”، ولمجرد أنه يرى أن الحى لا يحتاج الى مسجد جديد لأن هناك ما يكفى بالفعل ، ولكن الحى يحتاج الى مستشفيات ومدارس، لن يجد ساكن الطابق الخامس من يقف متضامنا معه لمنع تدمير الحديقة الخضراء، سيقف مع قليلين احتجاجا على ما حدث، ثم ينسحب السكان فى هدوء، عمال البناء الذين يولدون من جديد مع كل وجبة تافهة مستلبون تماما تحت أنياب رجال البيزنس الدينى والطفيلى، سيتحول عمر غانم تدريجيا من ساكت الى محتج، سيعلن الحرب على تجار الدين والأثرياء الجشعين، وسينضم الى مسيرة الحيوانات المطرودة التى تبحث عن الإنتقام فى نهاية الرواية.
ما زلت أرى أن مسيرة الإنتقام اتجهت الى الهدف الخاطىء، أولئك الذين هُجّروا من خيامهم قسرا الى مناطق جديدة هم ضحايا أيضا، لكن فعل الإنفجار فى حد ذاته دال وهام ويستحق التنويه، يبدو المستقبل غامضا، الأمن ورجاله يشعرون ربما بالحيرة أيضا من توقع أى مستقبل للبلاد. ” ممر الصفصاف” تستخدم ضفيرة الخيال والواقع، وخلطة الجدية الساخرة، لتقول أشياء هامة عن صناعة التهميش وسحق الآخر فى عاصمة ومدينة تشبه الكثير من المدن والعواصم العربية، عندما يتوقف الروائى عن الجرى ، وعندما يكتب من جديد، لن يستطيع أن يكتب إلا مأساة مهما فعل، ليست أبدا أقل من مأساة مؤلمة، رغم سخرية الرواية، وخيالها المحلق.