في جوته وسط البلد، حين اجتمعنا للمرة الأولى مع الألمان، على الغداء، كانت سيدة ألمانيّة شقراء في أواخر الأربعينات، قوامها طويل وثيابها بسيطة، تجلسُ إلى جانبنا، تبدو الآن في ذاكرتي خيطاً مشدوداً بنعومة، مثل وتر ربما، جميلة، هذا الجمال الذي يحمل رسالة ما، في الواقع لم تكن ضمن المسئولين المُباشرين عن المنحة، كانت فقط زوجة مُدير البنك، بدت لنا أكثرهم ودًا آنذاك، قالت أشياء، لم يكن بإمكاني وأنا أحاول تجنب الطعام الذي سيؤذي القولون، أن أتأملها كُلها، لكن كان ثمة معنى ما وحيد عَلق ضمن محاولاتي للنجاة من الألم، لقد تحدثتْ عن التركْ.
شجاعة أن تتركي الأشياء حين ينبغي أن تختاري أشياءً أخرى، كان الشيء الذي تركته هو منزل أسرتها، حياتها المُستقرة والمُمتلئة بالمحبّة، كي تصبح زوجة وأمًا، بيت جديد قائم على الترحال من وطن لوطن، تكلّمت عن جمال الرحلة الطويلة التي لم يأنْ لها أن تنتهي بعدْ، قالت إنها ربما تتركْ لأحفادها كتابًا عن هذه الحياة المُمتلئة بالتجربة، هذه التي عاشتها كاملةً بمسرّة، لكنها لن تنشره أبدًا، سوف يكون كتابًا خاصًّا جدًا.
أتدرين يا غادة… لم تُشجعني جدتي قط على الرحلة، لم تُخبرني حكايات لطيفة عن النساء اللواتي تذهبنْ للبحث عن الجمال، لم تحبني جدتي بما يكفي، هذا عادي، لكنها أيضًا لم تستطع أن تراني كحفيدة خارج كادر ثياب الزفاف مع رجل ببذلة أنيقة، لا ألومها الآن، لا أفعلْ لأنني أكتشفُ جمال الرحلة بنفسي، دون أن يُخبرني أحد.
مازالتُ أظن أن الكلام عن الترك يومها، كان موجهًا لي اصطفاءً، لأن حياتي سوف تكون بروفة ممتدة على الترك؛ كل الأشياء الجميلة التي وقعت لي، كانت لأني تركتُ شيئًا ما، كلها تنويعات على الترك، في أوقات كآبتي، أسمي المسألة “الفقدْ”، أُعدد الأشياء التي سقطت مني ولم تستمر، أرويها بحزني، فلا تكبر، وأفهم تدريجيًا، أن الذي تبقّى معي، هو فقط الذي كان سيبقى، لا أمتعة زائدة.
أنتِ لا تعرفين حكاية محبّتي العظيمة للغة الفرنسية، كانت السيدة اللطيفة التي أجرّت معي الاختبار الشفاهي ذلك الصباح البعيد، لا تُصدق أنها المرة الأولى التي أدرس فيها الفرنسيّة، تحدثنا عن أغاني إيديت بياف، وإنريكو ماسياس وداليدا، رأيتُ الطرب في عينيها من النغمات المُستحضَرة وفكرتُ في كتابة نص عن وجهها الصبياني- لم يحدث أن كتبته أبدًا- كنتُ أعرف أن ثمة سرّ بيني وبين هذه اللغة، وعرفتُ أيضًا أن هذا السر لن يكتمل، تركتُ دراسة الفرنسيّة من أجل معهد النقدْ، بعدها حاولتُ أن أجمع مالًا كافيًا لبداية دورة جديدة، وحين جمعته فعلًا، فزتُ بالمنحة الألمانية وتغيّرت حياتي بالكامل.
الآن تُشاغلني لُغة جديدة، لا يراها الجميع لطيفة، لُغة تمنحني شيئًا ما خاصًا، لم أفكر لحظة في وجوده أصلًا، أريدُ أن أتعلّم الألمانية، لقد تركتني اللُغة الفرنسية، أقول تركتني وأنا أعرف إنه فعل مزدوج، الذي تتركينه يا غادة يتركك، كان يمكن أن أستكمل دراسة الفرنسيّة وأترك المعهد، لكنني لم أفعلْ.
أنا أخاف من الأشياء التي سأتركها يا غادة، أخاف، لأني أعرف أنني سأتركها، وأن المسألة تتعلّق بالوقت، أخاف لأنني رُبيتُ على تفضيل أمان الاستقرار على جمال الرحلة، أخاف أيضًا لأني مُحمّلة بميراث الجدّات، اللاتي، لم يفعلنْ شيئًا لأجلنا، فكرنْ في أنفسهن، في كيفية قضاء الليالي الفاترة بأقل خسائر ممُكنة، كخيار وحيد للحياة.
تخليتُ ذات يوم عن حبيب مضمون، لأن الفضاء يُناسبني أكثر، لم يحدث حتى الآن أن أتى الرجل الذي سأغني له مع بربارا سترايسند My Man ، ولم يعد في قلبي هذا الحُب العظيم الذي يلوِن الدُنيا، مع ذلك أمضيتُ ليلة بديعة مع رجل لا يعرف لُغتي، على الورق. تخليتُ عن أحبائي مُبكرًا جدًا، قلتُ لروحي أنني أتخلى عنهم قبل أن يتخلوا هُم عني، والآن أفهمْ فقط لقد تركتُ الأمتعة الزائدة.
ثمة أشياء مازالتُ أندمُ على تركها، هذا صحيح، هذه أصلًا التي تُرعبني من فكرة الترك، أقول لروحي لا بأس sometimes it doesn’t work ، في الواقع لا شيء يستحق الندم، الحياة مُمتلئة بالحياة، والكرة الأرضية ليس لها نقطة نهاية، أحيانًا لا أكون قادرة على إدراك هذا بالكامل، ولهذا طبعًا أشعرُ بالندمْ.
في زمن ما كتبتُ، وحيدة كالشمس، لا أحد يُشبهني، لا أحد أنا.
هل تظنين أن هذا هو المعنى يا غادة؟
أحبكِ.
………..
أريج
14-2-2015
اقرأ أيضاً: