لو كان من الجيد بالنسبة لجسدك أن يسيطر عليه فجأة كائن مجهول، مخفي تماماً، يتحكم في كافة أشياء وأمور حياتك؛ هل تفضل أن يكون هذا الكائن منبعثاً من هلاوسك الذاتية، وجنونك الخاص، أم تتمنى لو كان له وجوداً مستقلاً، لا يخضع لهذيانك الباطني، وإنما يتحرك وفقاً لإرادته الغامضة من أجل هدف لا يتعلق بك وحدك، ولا يدركه أحد غيره؟ .. في الحالة الأولى الأمر ربما مرتبط بحياتك أكثر مما هو قائم على دوافع خارجها .. الرعب المشيّد بفضل تاريخك، والذي سيرسم بالضرورة صورة نهايتك التي لن تشبه نهاية أخرى .. ربما محاولة للهروب من غرفة تعذيبك السرية، أو انتقام من وجودك، لا يتخطى الحدود التي تكفلت ذاكرتك الشخصية بتعيينها وتثبيتها كمصير .. في الحالة الثانية سيصبح المخلوق الغامض نتيجة لتدبير سري أراد أن يضع حداً لميوعة العالم .. إنقاذ الحياة من طبيعة المابين التي لا تتحرك نحو الخلاص ولا تصل بالوجود إلى دماره الأخير .. سيكون هذا الكائن ـ رغم عدم القدرة على الإحاطة الحسية به ـ بمثابة فضح طال انتظاره للأفكار والنوايا المختزنة في الضمير الكوني .. هناك لذة ما في التيقن من أن الكائن الهلامي لا يستهدفك وحدك، وإنما هو كابوس جماعي يتحكم في أقدار البشر .. إذا كان العالم فوضى أزلية من التجسيدات الملغزة، فإن المخلوق الأثيري هو خروج بالمشيئة المختبئة وراء هذه التجسيدات من عماء الغيب إلى ضوء الواقع .. حتى لو لم تكن هناك أجوبة أو إيضاحات، وظلت المسألة محتفظة بمراوغتها الرمزية الشرسة؛ فعلى الأقل ستعطي حركة هذا المخلوق الأثيري ـ بوصفه نقيضاً للطبيعة المألوفة ـ إمكانية غير مسبوقة لتحرير الهواجس والمخاوف اللاوعية التي تسكن أجسادنا .. قد تحمل احتمالات أكثر قوة للاقتراب من الجذور البدائية للعالم .. هذا ما حاولت أن تفعله حكايات الجنيات والعفاريت والأجسام التائهة في الفضاء بحسب ما جاء في قصة (الهورلا) لـ (جي دي موباسان)، والآن ينبغي لرسول هذه الحكايات أن يؤدي مهمته ويحوّل هذا الخيال إلى حقيقة .. إما أن يقودنا نحو نوع استثنائي ـ إعجازي ربما ـ من المعرفة، أو يُعجّل بإنهاء الأمر كله .. أن يساهم بتأثير من قدراته الخارقة في القضاء على الحقارة البطيئة للجحيم .. ينبغي له تدميرنا في أسرع وقت ممكن لو كان يسعى لتحقيق هذه الرغبة.
أراد (موباسان) في قصة (الهورلا) أن يصل بما يمكن أن نطلق عليها العناصر الأساسية للحياة إلى أعلى درجات نقائها، وذلك لا يعني سوى أن نتعرف على الوجوه الناصعة لحقيقتها المرعبة .. ما انتهت إليه التأثيرات الشيطانية لمكونات الوجود المبنية على قواعد الطفولة: الأحلام .. المخاوف .. تصورات اليقظة .. الوساوس .. الأصوات .. المشاهد البصرية .. تخيلات الظلام .. (موباسان) أراد أن يعيد كل شيء إلى مكانه الصحيح، أو على نحو أدق إلى طبيعته الأصلية لذا كلف (الهورلا) بهذه المسؤلية .. أن يزيح الأوهام المثالية والادعاءات المضللة، القامعة للتجليات والظواهر الصافية للقلق واليأس، ويرتفع بالمرض إلى سطح العالم باعتباره الواقع الفعلي للحياة .. (موباسان) لم يكن يطلب منا سوى أن نشاركه الإنصات إلى الضوضاء الكامنة في السكون الثقيل المعتم حيث يمكن بواسطة الارتعاشات القديمة التي لم تخبو بعد لأرواحنا أن نُخلص سواد الدنيا من الغبار الملون، الذي لا يهدأ تراكمه.
من قرأ كتاب (ما الأدب؟) لـ (جان بول سارتر) ربما يتذكر الملحوظة الهامشية التي كتبها عن (الهورلا)، حيث أشار (سارتر) إلى تغير أسلوب (موباسان) الذي خسر نتيجة انطوائه على نفسه القدرة على إثارة قرائه: (فليس للجنون والموت والتاريخ قواعد فنية خاصة بها)، ويبدو أن في تلك الملحوظة تمرير لرصد (عدم الالتزام) المفاجيء الذي أصاب (موباسان) وأبعده ـ كما رأى “سارتر” فيما يبدو ـ عن السياق (الموضوعي) الناجح لمشروعه القصصي .. ربما تبين (سارتر) في هذا النص نوعاً من التجريد المنعزل، ورفاهية متحررة من التاريخ والحياة، وتعالياً أرستقراطياً على الجمهور .. هذا بالضبط ما كنت أقصده بالغبار الملون الذي لا يهدأ تراكمه .. إن (سارتر) يمثل الانضباط الأخلاقي للسلطة حين تراقب سلوكاً معادياً لنظام من القيم لا مجال للتفاوض مع ألوهيته .. الكتابة هنا لا يجب أن تكون موضوعاً للشك أو للتأويل، بل ينبغي أن تكون سلاحاً في حرب مقدسة ضد مجموعة من التعبيرات الشائعة مثل (العنصرية والظلم الاجتماعي واستغلال العمال) .. إذا لم تكن كذلك فهي مجرد ارتكاب خائن .. نستطيع أن نخوض جدالاً ـ لا يخو حتماً من روح الدعابة ـ حول الحرية والمعاني والمُثل الإنسانية، ولكنني في جميع الأحوال لا يمكنني إدانة (سارتر)؛ إذ ليس من السهل بالتأكيد على أي منا أن يُحطم بيديه ما يمتلكه من محسنات الصوت التي من الحتمي استخدامها عند الإنصات إلى الضوضاء الكامنة في السكون الثقيل المعتم.
……………….
الهورلا
جي دي موباسان
استدعى الدكتور ماراند، أشهر وأنبغ طبيب عقلي، ثلاثة علماء من زملائه المهتمين بالعلوم الطبيعية، لقضاء ساعة معه في المستشفى الذي يرأسه، كي يعرض عليهم أحد مرضاه.
حالما اجتمع زملاؤه، قال لهم:” سأعرض عليكم أغرب وأخطر حالة واجهتها. على كل، ليس لي ما أقوله لكم عن زبوني. سيتحدث هو نفسه.
حينئذ دق الدكتور الجرس ليدخل الخادم رجلا. كان شديد النحافة، نحيفا كجثة، وكنحافة بعض الحمقى الذين تنخرهم الأفكار، ذلك أن الفكرة المريضة تفترس لحم الجسد أكثر من الحمى أو السل.
سلم الرجل وجلس، ثم قال:
“أيها السادة، أعرف لماذا اجتمعتم هنا، وأنا مستعد أن أحكي لكم قصتي، استجابة لرغبة صديقي الدكتور ماراند. لقد اعتبرني مخبولا مدة طويلة، لكنه اليوم يشك في ذلك، بعد قليل ستدركون، مع أسفي وأسفكم وأسف الإنسانية كلها، أن عقلي سليم ونير ومستبصر كعقولكم، لكن أريد أن أبدأ بالأحداث نفسها، بالأحداث بكل بساطة. وهاهي:
أنا في الثانية والأربعين، لست متزوجا، ثروتي كافية كي أعيش بشيء من الرفاهية. كنت أقطن بمنزل على ضفاف نهر السين، في ” بييسار “، قرب مدينة ” روان “. أحب القنص والصيد. ففي الخلف، فوق الصخور الكبرى المحيطة بمنزلي، تمتد إحدى أجمل غابات فرنسا، غابة ” رومار “، وأمامي أحد أجمل الأنهار في العالم.
مسكني واسع رحب، خارجه مصبوغ باللون الأبيض، جميل، عتيق، وسط حديقة كبيرة مغروسة بأشجار رائعة تصل حتى الغابة، صعودا نجد الصخور الكبرى التي حدثتكم عنها قبل لحظات.
يتكون طاقم خدمي، أو كان يتكون، من حوذي، وبستاني، وفراش، وطباخ، ومنظفة تقوم في نفس الوقت بدور خادمة.كان هؤلاء كلهم يقطنون معي منذ عشرة إلى ستة عشر عاما، كانوا يعرفونني، ويعرفون مسكني والمنطقة، وكل ما يحيط بحياتي. كانوا خدما طيبين مسالمين.
وهذا مهم بالنسبة لما سأقوله.
أضيف أن نهر السين الذي يحاذي حديقتي، صالح للملاحة حتى ” روان “، وهذا تعرفونه دون شك، وكنت كل يوم أراقب البواخر الكبيرة، سواء ذات الأشرعة أو البخارية، تأتي من كل أنحاء العالم.
مر عام إذن منذ الخريف الماضي، حيث أصبت فجأة بوعكة غريبة غامضة، بدأت كنوع من القلق العصابي الذي يبقيني مستيقظا ليالي كاملة، نوع من التهيج يجعلني أرتعش لأدنى صوت، تعكر مزاجي، وانتابني غضب مفاجئ مبهم.
استرشدت بطبيب نصحني بمحلول ” برومور البوتاسيوم ” وحمامات الماء البارد.
كنت إذن آخذ حمام الرشاس صباحا ومساء، وأتناول شراب البرومور. في الواقع استعدت نومي في وقت قريب، لكنه نوم أفظع من الأرق. ما إن أستلقي حتى أغمض عيناي وأتلاشى، نعم، أغوص في العدم، عدم مطلق، موت كلي للكائن الذي يجذبني بعنف وفظاعة، إحساس رهيب بثقل يضغط على صدري، وبفم يلتهم حياتي فوق فمي، آه من هذه الهزات ! لم أعرف شيئا أكثر منها رعبا.
تصوروا رجلا نائما يتعرض للقتل، فيستيقظ وقد انغرز سكين في عنقه، ثم يحشرج وهو ملطخ بالدم، ويعجز عن التنفس ويموت، دون أن يفهم شيئا….ذاك هو حالي !
هزل جسدي بصورة مقلقة ومستمرة، ولاحظت فجأة أن حوذي الذي كان بدينا قد بدأ يهزل مثلي.
سألته في الأخير:
” مابك ياجان؟ إنك مريض ”
أجابني:
” لعلني أصبت بنفس مرض سيدي، إنها لياليَ التي تفقد نهاراتها ”
فكرت أن بالمنزل تأثيرا محموما ناتجا عن محاذاة النهر، وكنت على وشك السفر لشهرين أو ثلاثة، رغم أننا كنا في أوج فصل الصيد، إلى أن لوحظ مصادفة حدث صغير غريب جدا، جلب لي نوعا متتابعا من الاكتشافات اللامعقولة والغرائبية والمفزعة.
كان العطش قد أصابني ذات ليلة، شربت نصف كاس ماء، ولاحظت أن القنينة الموضوعة على الأريكة مقابل سريري، كانت مليئة حتى سدادتها الكريسطالية.في الليل، تعرضت لنوع من هذا الاستيقاظ الفظيع الذي حدثتكم عنه. أشعلت الشمعة وأنا فريسة لاكتئاب مروع، وما كدت أشرب من جديد، حتى لاحظت بفزع أن القنينة كانت فارغة، لم أصدق عيناي، إما أن أحدا دخل غرفتي، أو أنني كنت في حالة نوم ويقظة.
في الليلة الموالية، عزمت على القيام بنفس التجربة، أغلقت إذن غرفتي بالمفتاح لأتأكد من عدم استطاعة أحد الدخول علي، نمت واستيقظت كالعادة في كل ليلة، كان الماء الذي رأيته قبل ساعتين قد شُرب.
من شرب الماء؟ أنا بدون شك. ومع ذلك أعتقد أنني متيقن، جد متيقن من أنني لم أقم بحركة خلال نومي العميق والمؤلم. التجأت إذن إلى حيل لأقنع نفسي انني لا أقوم بهذه الأفعال اللاواعية. وضعت ذات ليلة قنينة نبيذ معتق من نوع بوردو، وكأسا من الحليب الذي لا أستسيغه، وقطعا من حلوى الشكولاطة التي أحبها.
بقي النبيذ وقطع الحلوى على حالها، واختفى الحليب والماء، كنت أغير المشروبات والأكل كل ليلة، ولم يحدث أن مست الأشياء الصلبة والسميكة، ولم يكن يُشرب كسوائل سوى الحليب الطري والماء على الخصوص.
لكن هذا الشك المؤلم استقر داخل أعماق روحي، ألم أكن أنا الذي أنهض دون وعي، وأشرب حتى الأشياء التي أشمئز منها؟ ذلك أن حواسي المخدرة بسبب النوم المسرنم يمكن أن تتغير، وتفقد اشمئزازها الطبيعي، وتكتسب أذواقا مختلفة.
استعنت إذن بحيلة جديدة ضدي، لففت كل الأشياء المعرضة للملامسة بشرائط من الموسلين الأبيض، وغلفتها من جديد بمنشفة من قماش الباتيست. ثم، وفي لحظة ذهابي للفراش، لطخت يداي وشفتاي وشنبي برصاص الأقلام.
عند استيقاظي، ظلت كل الأشياء نقية، رغم تعرضها للملامسة، فالمنشفة لم تكن في الوضع الذي تركتها عليه، كما أن الماء والحليب قد شربا، علما أن بابي المقفل بمفتاح الأمان ومصاريعي المغلقة بالأقفال احتياطا لم تترك مجالا لتسرب أحد.
بذلك وضعت على نفسي هذا السؤال الخطير: من كان هنا كل ليلة بجانبي إذن؟
أشعر أيها السادة، أنني أحكي لكم كل هذا على عجل، تبتسمون، وتقررون حكمكم مسبقا:” إنه مجنون “، كان لزاما علي أن أصف لكم مطولا شعور رجل مقفل عليه في بيته، وبعقل صاف يرى عبر كاس قنينة، اختفاء قليل من الماء خلال نومه. كان علي أن أفهمكم هذا العذاب المتجدد كل مساء وكل صباح، وهذا النوم الخفي، وهذه الاستيقاظات الأكثر فظاعة أيضا.
ومع ذلك سأتابع،
فجأة، انتهت المعجزة، لم يعد أي شيئ يمس غرفتي، انتهى كل شئ، شعرت بالارتياح. زد على ذلك أنني استعدت انشراحي عندما علمت أن أحد جيراني، السيد لوجيت، قد كان في نفس الحالة التي كنت عليها. اعتقدت من جديد أن الأمر يتعلق بعدوى محمومة أصابت البلاد. وكان الحوذي قد غادرني منذ شهر وهو مريض جدا.
مر الخريف، وظهرت بوادر الربيع. وذات صباح، رأيت وأنا أتجول قرب حديقة زهوري، رأيت بجانبي وبوضوح تام، ساقا لإحدى أجمل الورود تنكسر، وكأن يدا خفية تقطفها، وتتبع الوردة انحناءة وكأن ذراعا تتجه بها لقمة نحو فم، فتبقى معلقة في الهواء، شفافة، وحيدة، جامدة، مفزعة، على مقربة من ناظري.
تملكني جنون مخيف، وارتميت نحوها أريد الإمساك بها دون أن أجد شيئا، كانت قد اختفت. هنا أصابني غضب عنيف ضد نفسي، إذ ليس مسموحا لرجل عاقل وجاد أن يتعرض لمثل هذه الهلوسة ! لكن، هل كانت حقا هلوسة؟ بحثت عن الساق فوجدتها بسرعة على الشجيرة، طرية الكسر، وسط وردتين ظلتا على الغصن، ذلك أنها كانت ثلاث ورود رأيتها بأم عيني.
رجعت إذن إلى بيتي منكسر الروح. اسمعوني أيها السادة، إنني هادئ تماما، لم أومن أبدا بالخوارق، ولن أومن بها اليوم أيضا. لكن، انطلاقا من هذه اللحظة، تأكدت، كتأكدي من وجود النهار والليل، أن كائنا خفيا تواجد بقربي وسكنني، ثم غادرني ليعاودني.
بعد فترة حصلت على الدليل.
أولا كانت تنشب بين خدمي خصومات شديدة لألف سبب تافه في مظهره، لكنها من الآن فصاعدا أصبحت بالنسبة لي أسبابا غنية بالمعاني .
ثم ينكسر كأس، كأس بنذقي جميل، ينكسر وحده بخزانة الأطباق في غرفة الطعام، وفي واضحة النهار.
كبير الخدم يتهم الطباخة، وهذه تتهم قيمة البياض التي تتهم بدورها لا أعرف من.
أبواب تغلق ليلا لتصبح مفتوحة، حليب يسرق كل ليلة من المخزن. – آه !
من يكون؟ ماطبيعته؟ فضول قلق، ممزوج بالغضب والفظاعة ينتابني ليل نهار في حالة قصوى من الهيجان.
لكن المنزل استعاد الهدوء مرة أخرى، واعتقدت من جديد أن الأمر أحلام إلى أن حدث الأمر التالي:
كان ذلك في 20 يوليوز، على الساعة التاسعة مساء، كان الجو حارا جدا، تركت نافذتي مشرعة، والمصباح المنير فوق الطاولة يضيء مجلدا لــ(مــوسي) مفتوحا على صفحة ” ليلة ماي “، وكنت ممددا على الفوتوي العريض حيث أنام.
ذلك أنني بعد أن نمت حوالي أربعين دقيقة، فتحت عيناي من جديد دون أن أبدي حراكا. لا أدري أية عاطفة غريبة وغامضة أيقظتني، لم ألاحظ في البداية شيئا، ثم فجأة بدا لي أن صفحة من الكتاب قد طويت وحدها، دون أن تكون هناك هبة ريح متسربة من النافذة، اندهشت، وانتظرت. وبعد أربع دقائق تقريبا، رأيت، نعم رأيت، أيها السادة، بعيني هاتين، صفحة أخرى ترتفع ونتزل على سابقتها وكأن أصبعا طوتها. كان الفوتوي يبدو فارغا، ولكن فهمت أنه هناك، هو ! اجتزت الغرفة في قفزة واحدة كي أمسك به، ألمسه، أقبض عليه، إن أمكن ذلك… لكن الفوتوي انقلب قبل أن أصل إليه، كأن هناك من هرب من أمامي، المصباح أيضا سقط وانطفأ، وانكسر زجاجه، والنافذة رجت بقوة وكأن شقيا تشبث بها وضرب على قفلها وهو يحاول الفرار…آه !
ارتميت على الجرس مناديا، ولما حضر الخادم قلت له:” لقد قلبت وحطمت كل شئ، أشعل النور ” لم أنم تلك الليلة، ومع ذلك استطعت أن أكون مرة أخرى لعبة للهلوسة.
عندما أفقت ظلت حواسي مضطربة، ألم أكن أنا من أسقط الفوتوي والمصباح مندفعا كالأحمق؟ لا، لم أكن أنا ! كنت أعرف ذلك دون أن أشك ولو ثانية، ومع ذلك أود أن أصدق.
انتظروا. الكائن ! كيف أسميه؟ الخفي، لا، هذا غير كاف، لقد سميته ” الهورلا “. لماذا؟ لا أعرف. إذن لم يعد الهورلا يفارقني أبدا، كان لدي كل نهار وليلة إحساس ويقين بحضور هذا الجار المتعذر الإمساك، واليقين أيضا بأنه يستنزف حياتي، ساعة ساعة، ودقيقة دقيقة. كانت استحالة رؤيته تغيظني، وكنت أشعل كل مصابيح منزلي وكأنني سأستطيع اكتشافه في كا هذا الضوء الساطع.
ورأيته أخيرا،
إنكم لا تصدقونني، ومع ذلك رأيته. كنت جالسا أمام كتاب ما، لا أقرأ، ولكنني أتربص، وكل أعضائي متحفزة، متربصا بهذا الذي أشعر به قريبا مني، طبعا كان هنا، لكن أين؟ ماذا يفعل؟ كيف يمكن الوصول إليه؟
أمامي فراشي ذو الأعمدة والخشب السندياني، وعلى اليمين مدفأتي، وعلى اليسار بابي الذي أقفلته بعناية، بالخلف خزانة تحتوي على مرآة أستعين بها يوميا من أجل الحلاقة، ورؤية كيفية لباسي، حيث اعتدت على أن أرى نفسي من الرأس إلى القدمين كلما مررت أمامها.
تظاهرت إذن بالقراءة كي أخادعه، لأنه كان بدوره يتجسس علي، وفجأة، أحسست أنه هنا يكاد يلامس أذني، لقد كنت متأكدا من تواجده خلفي يتابع ما أقرأه.
وقفت والتفت بسرعة كادت تفقدني توازني، وإذن ! … كانت الرؤية واضحة وكأننا وسط النهار … ولم أر نفسي في المرآة ! كانت فارغة، صافية، مليئة بالضوء، ولم تكن صورتي بها … وكنت واقفا أمامها … أنظر إلى الزجاج الكبير، شفافا من أعلى إلى أسفل ! كنت أنظر ذلك بعينين فزعتين، ولا أستطيع أن أتقدم، شاعرا بأنه متواجد بيننا، وأنه ينفلت مني مجددا، لكنني شاعر أن جسده اللامحسوس قد امتص صورتي المنعكسة.
كم أصابني الخوف، ثم فجأة بدأت أرى نفسي عبر ضباب في عمق المرآة، ضباب كأنه عبر طبقة مائية، وكان يخيل لي أن هذا الماء ينزلق ببطء من اليسار إلى اليمين، جاعلا صورتي تتضح ثانية بعد ثانية. كان ذلك مثل انتهاء لحظة كسوف. لم يظهر أن الشيء الذي أخفاني كان يملك تقاطيع جسم محددة بدقة، بل نوعا من الشفافية المعتمة المتضحة شيئا فشيئا.
استطعت أخيرا أن أميز نفسي كليا كما كنت أفعل كل يوم وأنا أنظر إلى المرآة.
لقد رأيته، واحتفظت بفزع ظل يرعشني.
وفي الغد، كنت هنا، حيث رجوت أن يحتفظ بي.
الآن، أيها السادة، أصل إلى الاستنتاج
بعد أن شك الدكتور ماراند طويلا في الأمر، قرر أن يسافر وحده إلى بلدتي.
ثلاثة من جيراني، هم مصابون الآن مثلي. أليس كذلك؟
أجاب الطبيب:” هو كذلك ! ”
لقد نصحتهم بأن يتركوا الماء والحليب في غرفهم للتأكد من اختفاء هذه السوائل. وقد قاموا بذلك. هل اختفت هذه السوائل كما حدث عندي؟
أجاب الطبيب بجدية رسمية:” لقد اختفت ”
إذن، أيها السادة، إنه كائن، كائن جديد، سيتعدد دون شك مثلما تعددنا، وقد ظهر مؤخرا على الأرض. آه ! إنكم تبتسمون ! لماذا؟ لأن هذا الكائن يظل خفيا عن الأعين، لكن عيننا إيها السادة، ماهي إلا عضو بدائي يستطيع بالكاد أن يميز ماهو ضروري في حياتنا، ينفلت منها ماهو صغير، ينفلت منها ماهو كبير، ينفلت منها ماهو بعيد، إنها تجهل الأشياء التي تعيش داخل قطرة ماء، تجهل سكان ونباتات وأرض النجوم المجاورة، لا ترى حتى ما هو شفاف.
ضعوا أمامها مرآة دون طبقة القصدير التي يطلى بها ظهرها، ستعجز عن تمييزها، وستدفع بنا نحوها مثلما يحدث للعصفور المحبوس في البيت عندما يصدم رأسه بزجاج النوافذ. إذن هي لا ترى الأجسام الصلبة والشفافة والتي توجد فعلا، لا ترى الهواء الذي نتغذى به، لا ترى الريح التي هي أكبر قوة في الطبيعة، والتي تطيح بالناس، وتسقط الأبنية، وتقتلع الأشجار، وتهيج البحر ليغدو جبالا من الأمواج تهدم الجرف الصخرية.
ما المدهش في كونها تعجز عن رؤية جسم جديد، يفقد دون شك الخاصية الوحيدة لعكس الأشعة المضيئة. هل ترون الكهرباء؟ ومع ذلك هي موجودة !
هذا الكائن الذي سميته ” الهورلا ” موجود أيضا. من هو أيها السادة؟ إنه الذي تنتظره الأرض بعد الإنسان ! الذي سيزيحنا عن عرشنا، ويستعبدنا، ويروضنا، وربما سيقتات بنا، مثلما نقتات بالأبقار والخنازير البرية.
منذ قرون ونحن نستشعره، نخشاه ونتبأ به ! لقد سكن الخوف من اللامرئي آباءنا دائما.
ها هو قد وصل.
كل حكايا الجنيات والعفاريت، والأجسام التائهة في الفضاء، الشريرة والمتعذرة الإمساك، كانت تتحدث عنه، عنه الذي توقعه الإنسان القلق والخائف منذ أمد.
أقول لكم إنه قد وصل، هو نفسه مايزال يتجول قلقا مثل الإنسان البدائي، جاهلا قوته وجبروته التي سيدركها قريبا، قريبا جدا.
وللختام أيها السادة، هذه مجموعة من الجرائد التي وقعت بيدي والقادمة من ريو دي جانيرو. أقرأ عليكم:
” يظهر أن نوعا من وباء الجنون، يعيث فسادا منذ مدة بمقاطعة سان-باولو. وقد هاجر سكان قرى كثيرة أراضيهم وديارهم زاعمين أنهم متابعون وملتهمون من طرف مصاصي دماء خواف يقتاتون بأنفاسهم خلال نومهم ولا يشربون إلا الماء والحليب أحيانا.
أضيف:” قبل إصابتي الأولى ببضعة أيام، والتي كنت سأهلك بسببها، أتذكر جيدا أنني رأيت سفينة برازيلية ذات سوار ثلاث برايتها المنبسطة البيضاء … كنت أخبرتكم بأن منزلي يحاذي النهر … لقد كان مختبئا في هذه السفينة دون شك …”
ليس لدي ما أضيفه أيها السادة.
نهض الدكتور ماراند مغمغما،
” أنا بدوري لا أعرف إن كان هذا الرجل مجنونا أو أننا مجنونان معا ..، أو .. أن خليفتنا قد وصل حقا.”