المراكبي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الليثى الشرونى

أربعون عاما قضاها زاهر المراكبى داخل مركبه فى خدمة أبناء جزيرته المعزولة عن المدينة ، ينقلهم ذهابا وإيابا لقضاء حوائجهم أو لبيع منتجاتهم من الخضروات والفاكهة والجبن والألبان ، يستيقظ المراكبى عند طلوع الفجر ، يصلى صلاة الصبح داخل مركبه ويؤدى الأوراد الصباحية التى تعلمها من عمه الشيخ عثمان البرهامى ، ينزل للعشة الصغيرة المبنية من أفلاق النخيل وجريده ، يشعل النار فى موقده المصنوع من الطين الممزوج بدهس البهائم ، يضع كنكة الشاى عليها ، قبل ان تفور لتعبق المكان برائحة الشاى الطازجة يكون احضر أصابع الصوانى التى تعطيها له نسوة الجزيرة ، يصب الشاى فى الكوب ويغمس هذه الأصابع فتخرج مبتلة فيقضمها ويعاود ذلك مرات ومرات  ، بعد أن يفرغ من ذلك يكون أول زبون وصل مع انفلاق الضوء فى السماء .

ــ صباح الورد يا حاج زاهر

ــ صباحك نادى ومرزوق ياابن العم

هذه هى الصيغة التى يرد بها تحية الصباح ، الناس تحب سماعها منه كل صباح وكأنها هى مفتاح الرزق بالنسبة لهم ، ليس العدد هو الذى يجعله يبحر بمركبه للشاطىء الآخر ، مركب زاهر المراكبى يعد الجسر الذى يربط جزيرته بالمدينة ، كان قد ورث هذا المركب عن أبيه والذى ورثه عمن قبله ، عمره تجاوز الستين بقليل ومازال يعمل على المركب ، لايمل ولايزهج ، يجد متعة فى نقل أهله للبر الثانى ، منذ أربعين عاما لا يسأل أحد عن فلوس مقابل نقلهم ، لكنه أحيانا  يطلب من احدهم أن يجلب له كيلو سكرأو ورقة شاى أو حتى موس حلاقة ، نسوة الجزيرة يرسلون له الطبيخ والخبز وما يحتاجه من طعام ، أحيانا يأكله مع من يكون معه على ظهر المركب ، كل سكان الجزيرة يعرفون زاهر المراكبى ، فى ليالى طوبة الباردة يلتحف بالبردة الصوف داخل مركبه ، بيته داخل الجزيرة مغلق منذ أن توفيت زوجته أثناء ولادتها الأولى ، ماتت ومات معها طفله الأول ، بعدها عزف عن الزواج ، نصحه الكثير أن يتزوج لكنه رفض واعتبر المركب هى زوجه وأولاده ،  يحب زاهر المراكبى سيرة أبى زيد الهلالى ، الراديو الذى اشتراه له العمدة رجب من مصر يتابع من خلاله سيرة إبى زيد الهلالى ويسمع نشرات الأخبار ، يؤنس وحدته فى الليالى الطويلة ، الكثير من شباب الجزيرة ياتون له ليلا فى أيام الصيف ، يسمعون معه السيرة  ويستمتعون بهواء النيل الطرى ، أحيانا يسهرون حتى طلوع الفجر ويكون قد غفل منهم  ، فى الأيام العاصفة يتوقف المركب عن العبور ، خوفا من الغرق ، بعدما حدثت له حادثة ذات يوم عاصف وكادت تغرق لولا لطف الله ورحمته ، حتى الموظفين وطلبة المدارس يتغيبون عن العمل والمدارس فى الأيام العاصفة ، منذ فترة طويلة يطالب أبناء الجزيرة بإنشاء كوبرى يربطهم بالمدينة وخاصة أن المسافة قصيرة ولاتتعدى 400متر .

المرة الوحيدة التى غاب فيها زاهر المراكبى عن المركب هى الأيام التى ذهب فيها لأداء فريضة الحج منذ سنوات قريبة ، استطاع أن يحوش من القروش القليلة التى يأخذها من الناس مبلغا ساعده على الحج ، درب بعض الشباب لقيادة المركب خلال فترة غيابه وأوصاهم بعدم العبور أثناء العواصف .

تأتيه أخبار الاجتماعات والشكاوى التى يرسلها أبناء الجزيرة للمسئولين حول إقامة كوبرى ، عندما يسمع هذه الأخبار ، يتكور فى نفسه قائلا :

ــ يعنى مش حيبقالك لازمة يازاهر .

أبناء جزيرته الذين يعملون فى القاهرة يبذلون جهودا شديدة لإقامة الكوبرى ، وخاصة الأستاذ مراد ابن جابر الطحان الذى يعمل موظفا فى مجلس الشعب ، تربطه علاقات بالسادة الوزراء ونواب المجلس ، أقسم لأهله أن الكوبرى سيقام خلال شهور قليلة ، وكان لهذا الرجل فضل لدخول الكهرباء للجزيرة منذ سنوات قليلة ، عندما سمع زاهر المراكبى هذا الكلام اصابته حالة من الحزن ، أصبح مزاجه غير رائق ، لكنه لم يتوقف عن نقل الناس إلى البر الثانى .  

فى أحد الصباحات من هذا الصيف الشديد الحرارة ، بعد أن وصل للبر الشرقى ، لمح سيارة نصف أتوبيس تقف بجوار الشاطىء ، نزل منها رجال كثيرون معظمهم يرتدون بنطلونات وقمصان صيفية ، ترجلوا ناحية المركب ، انقبض قلبه وانشغل مع الدفة ، كان بينهم محمود الجدع ، عضو المجلس الشعبى عن جزيرته ، كان يتحدث معهم ويشرح لهم طبيعة المكان وشدة احتياجات أهل الجزيرة للكوبرى ، نزلوا جميعا على ارض الجزيرة لمعاينة المكان ، بالرغم من حالة القلق التى تسيطر على مشاعره إلا أنه لن يتوقف عن نقل الناس شرقا ثم غربا ،  لكنه على غير العادة ، كان صامتا ووجهه حزين ، لم يتحدث مع احد ، ينظر لطيور النهر وهى تسبح حول المركب ولسان حاله يقول :

 ــ يبدو أن المصيبة جاية جاية .

بعد أن انتهوا من المعاينة ، اختاروا مكانا قريبا لبناء الكوبرى من منطقة عبور مركب الحاج زاهر ، أى على بعد أمتار قليلة عن موردة البلد وهى الطريق الرئيسى الذى يصل بك إلى بيوت الجزيرة من النيل ، كما أوصوا بضرورة توسيع هذا الطريق حتى يتم رصفه بالإسفلت ، بعد ذلك توجهوا إلى مندرة الجزيرة ، امتلأت(الدكك) بأهل الجزيرة ، وكانت النساء تقف خارج المندرة تطلق الزغاريد والأطفال الصغار يجرون هنا وهناك فرحين ،  أكد الأهالى على احتياجهم الشديد للكوبرى ، بعد صلاة الظهر قدم الاهالى طعام الغدا للضيوف الذين شعروا بأهمية الكوبرى للجزيرة المحرومة من تقديم الخدمات بسبب عدم وجود طريق برى يربطهم بالمدينة ، حتى بيوت الجزيرة ما زالت مبنية من جواليس الطين ومسقوفة بجريد النخيل ، الجزيرة تحتاج لمشروع مياه الشرب و رصف الطرق ومشاريع أخرى تؤدى لخدمة الاهالى  .

    مرت أسابيع قليلة وبدأت الشركة المنفذة فى حشد معداتها الثقيلة لتنفيذ الكوبرى ، دب الخوف فى قلب الحاج زاهر من جديد بعد ان بدأ العمل فى الكوبرى وأصبحت أعصابه متوترة ، لا يضحك مع أحد كما كان ، بدا شكله شاحبا ، قبل افتتاح الكوبرى بأيام ، وجد الأهالى الحاج زاهر ممدداً داخل العِشَّة ، جسده ساكن ، عيناه مغمضتان ، انطلق الخبر فى الجزيرة ، الحاج زاهر مات ، تجمع الأهالى عند العِشَّة ، الكل يبكى ، عويل النساء ييقظ سكون النيل ، حتى شراع المركب أصبح حزينا ، بعد الانتهاء من عملية الغسل والتكفين داخل العشة ، حاولوا حمل النعش إلى مقابر الجزيرة ، لم يستطع احد حمل النعش ، أصبح ثقيلا جدا ، قال قائل :

ــ الحاج زاهر يحب أن يدفن مكان العشة بجوار المركب .

ــ بلاش كلام جهل .

هكذا نطق أحد الشباب من أصحاب اللحى ، احتد عليه آخر .

ــ  الحاج زاهر سيُدفن هنا ، مدد ياشيخ زاهر .

هاجت الجزيرة وماجت وانتشر الخبر فى إنحاء الجزيرة بل والقرى المجاورة ، جاء الكثير عبر القوارب إلى الجزيرة كى يشهدوا هذا الحدث ، تحول عويل النساء إلى زغاريد وفرح ، شمر السباب عن سواعده ، تم حفر القبر داخل العِشَّة ، بعد العصر كان الحاج زاهر مدفونا فى قبره مكان العشة ، يوم الاحتفال بافتتاح الكوبرى كان مقام الحاج زاهر واقفا مكان العشة ، رشوا جدرانه بالجير الأبيض ، قال أحد أبناء الجزيرة أنه شاهد الحاج زاهر يبحر بمركبه ليلا مابين البر الغربى والشرقى بالرغم من بناء الكوبرى .

مقالات من نفس القسم