وهذا غيض من فيض في محاولات تجريد الليالي من عربيتها،وردها إلي أصول هندية أو فارسية أو ماشابه ذلك،وأنا لست مشغولا هنا بالدفاع عن عربية ألف ليلة وليلة،بقدر ما يعنيني أن ما كتبته منصورة عز الدين لا يمثّل نوعا من العطف علي الليالي،بقدر ماهو استطراد واكتشاف لأفق معقد ومركب وجدلي لهذه الليالي، والتقطت حكاية الأميرة زمردة،وجبل الزمرد،وجبل قاف،لتخوض تجربة،وتكاد تكون مغامرة فنية بكافة المقاييس في مجال الرواية، واختارت الاشتباك الفني واللغوي والحكائي مع الليالي،دون أن تتورط في التماهي اللغوي معها،أي حاولت التخلص من عفوية الحكاية، ومن البدائية التي جاءت بها اللغة في الليالي الأصلية،وراحت لتنشئ عالما خاصا،ولكنه يتداخل مع الأساطير التي تداولتها الأجيال البشرية علي مدي قرون،وكانت الشخصية الرئيسية “بستان البحر”هي الي تنشئ وتدير وتحكي وتضبط الحكاية عندها،وتخلق لها كافة الأركان التي تجعل منها مستقلة تماما عما تم تداوله من قبل،”بستان البحر”منذ البداية تقدم نفسها علي أنها منذورة لشئ غامض، وما عليها سوي المضي قدما والتوحد مع المصير الذي هي منذورة له،”بستان البحر”هي البطلة التي تدير مسرح الأحداث من البداية للنهاية، هي لا تتقمص شخصية شهرزاد، ولا يوجد أي هاجس للتسرية عن آخر،أو إرضاء سيكولوجية أي “شهريار”هنا،بل إنها تجعل دور المرأة وفاعليته وحضوره حاسما، وكذلك وقدرتها علي اتخاذ القرار وتغيير مسار الأحداث دائما بيدها،”بستان البحر”التي ولدت في إيران،لاب مسكون بهاجس البحث والتنقيب عن حكاية جبل الزمرد،بعد انقراض وارثي شفرات المعرفة الحكاية هذا الجبل وأميرته زمرد،ووالدها ياقوت،ولم تبق غير” بستان البحر”أو “باغ داريا”،وبعد رحلات علاجيةمن إصابة العمي التي ابتلتها وهي في عمر السابعة،وبعد رحلات دراسية متعددة،جاءت إلي القاهرة لتستكمل بحثها الماراثوني عن حكاية جبل الزمرد.
ولم يكن التوقيت الذي اختارته الكاتبة للبحث عن أصل الحكاية المحذوفة من كتاب الليالي الأصلي،اختيارا عشوائيا،إنه اختيار مقصود،دون أن تجعله يطل علي أحداث الرواية بثقل، إنه في أعقاب الخامس والعشرين من يناير،عندما كانت الأحداث في مصر قادرة علي التغيير والتبديل والكشف عن وجوه أخري لم تكن معروفة للقاهرة،والجدير بالذكر أن الراوية لديها وعي مفرط بذاتها الباحثة والانسانة والأنثي،فتقول في مطلع الرواية:”اسمي بستان!..
من يعرفونني جيدا،وهم قلة،يسمونني “كاهنة الأبيض والأسود”!..الآخرون يرونني غريبة الأطوار.لو قدّر لكاتب أن يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء،أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء،إلي آخر هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر،غير القادرة علي التقاط مايتأجج داخلي، لن يتمكن أحد من اكتناه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه،كما لن يكون علي علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون،ولها نذرت حياتي،لذا عليّ أن أكون الكاتبة،أو بالأحري الحكاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية وضمّ أجزائها معا،حكاية لست بطلتها،لكنها لن تكون من دوني”.
هكذا تضعنا بستان أو الكاتبة منذ البداية أمام عدة حقائق سوف تنبني أعمدة الرواية كلها عليها،الأولي أن بستان لن يستطيع أي كاتب اكتشاف ما بداخلها،وماتنطوي عليه من أسرار وحكايات،فالكاتب الذي سيصفها سوف يكتفي،أو يقتصر علي الظاهر منها فقط،ولن يقدر علي إدراك ماهو عميق ومستتر،الحقيقة الثانية،إن “بستان البحر”هي الوحيدة التي ستكتشف بقايا الحكاية المجهولة أو المحذوفة لأسباب تكاد تكون غامضة،فهي الوحيدة كما يأتي في موضع آخر التي تقدر علي قراءة الكتابة المنقوشة علي الجلود وغيرها من مقتنيات الأب الذي رحل منذ سنين،ولذلك فكانت بستان علي مدي الرواية كلها،تخرج من الواقعي إلي الأسطوري بيسر شديد،للدرجة التي تجعل القارئ يلهث خلف الحكاية التي أصبحت تفرض نفسها عليها كلما تقدم في الرواية،وآثرت الكاتبة التي تشتبك مع النصوص التراثية المتعددة، أن تبدع بطريقتها الخاصة وبأسلوبها الخاص وبلغتها الروائية المعاصرة،.
وفي كل ذلك نجدها تستدعي عناوين كتب قديمة وحديثة،وكأنها في حقل معرفي وبحثي محض، بعيدا عن الحقل السردي الذي يشمل الحكاية كلها،ولذلك فهي تقدم الرواية نفسها بفقرة من “تفسير القرطبي”حول تعريف جبل قاف،الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية،هذا التعريف يقول:”واختلف في معني قافماهو؟،فقال بن يزيد وعكرمة والضحاك:هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء اخضرت السماء منه،وعليه طرفا السماء،والسماء عليه مقببة،وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل”،وكذلك تتبع هذه الفقرة،فقرة أخري من نص ألف ليلة وليلة،لتزيدنا عمقا بأن الرواية سوف تخوض في مجال بحثي عميق،ولكن هذه الاستدعاءات المتعددة التي تلقي بها الكاتبة وتبثها في كل مساحات الرواية،تدخل ضمن البناء الروائي،وضمن متن الحكاية ذاتها،حتي هذه الانتقالات الواضحة بين المعاصر الواقعي،وبين الأسطوري المتخيل،تأخذ شكلها السردي الروائي الممتع.
رغم أن الحكايات الأسطورية مفعمة بخيالات كثيفة،ولكننا نجد أنفسنا أمام لوحة روائية منسوجة بدقة شديدة، عملا بالمقولة القديمة”أوصيك بالدقة لا بالوضوح”،وهنا نلاحظ أن المشهد رغم دقته المفرطة،إلا أن الوضوح يصاحبنا كلما قرأنا فصلا جديدا في الرواية،وكلما استجدت علينا شخصية أخري،وإذا كانت بستان البحر المنذورة للحكاية هي التي تصدرت المشهد الأول في الرواية،وهي التي أعطتنا إيحاءات أسطورية حول تكوينها وثقافتها ومهمتها الكبيرة،فهناك “هدير”،هذه الفتاة التي ستظهر لنا في الفصول الأولي من الرواية،وتكاد تسير تحت سيطرة بستان البحر،وهي التي أضاعت خاتم الزمرد الذي كانت تملكه والدتها نادية، وكانت وقتها في السادسة من عمرها،ولكن العناية البستانية،كانت تراقبها وترعاها حتي أدركنا وجودها في ذلك الوقت الذي أرادته الراوية لبدء الحكاية، أي عام 2011،عام الخلخلة والتمرد والانتفاض والتغيير.
نجد “هدير”تذهب إلي جدتها”شيرويت قنديل” في حي “المنيل”،وتنشأ علاقة ودية بين الفتاة والحفيدة،رغم اختلاف الطبائع،لاختلاف الجيلين،فشيرويت سيدة ارستقراطية قديمة لكنها قفزت من شبابيك هذه الارستقراطية،لتنضم إلي أحد الأحزاب الشيوعية السرية،وتجرب السجن أثناء انضمامها لهذا الحزب،و لها تاريخ يساري ونضالي عريق،وانفض من حولها كل معارفها وأصدقائها،لذلك فهي تمارس ضمن تقاليدها اليومية قراءة صفحة الوفيات في الصحيفة القومية، لتكون علي علم دقيق ويومي بانهيارالعالم الذي كانت تعيش فيه،وهي منظمةبشكل واضح،حركات يومها معلومة إلي حد كبير،تتناول الإفطار في توقيت معين، وتتصفح أو تقرأالجرائد في وقت معلوم،وهي تستمع إلي موسيقي ربما لا تناسب هدير،أما هدير فهي لا تنتمي إلي هذا العالم القديم،أمها تركتها لتذهب إلي حبيبها وزوجها الجديد،كذلك كان أبوها سبق أمها وتزوج ورحل إلي الإمارات،وظلت هي لتواجه مصيرها بحريتها الكاملة،كانت تفكر في الرحيل إلي استوكهولم،ولكن السفارة لم توافق،فلم تعطها التأشيرة،وعادت إلي المنزل لتدخل غرفة أبيها القديمة لتدخن سيجارة حشيش،ورغم كل هذه الاختلافات تتكون علاقة لطيفة بين هدير وشيرويت،فالأخيرة بحكم تربيتها اليسارية القديمة،فهي تعرف معني الحرية والانفتاح علي الآخر،إلا أنها كانت تثير اندهاش هدير عندما تبدي إعجابها بالمرحلة الملكية في مصر،لذلك تحاول شيرويت أن تسعد هدير بمنحها تذكرة طيران إلي المكسيك،وتخمن هدير بأن جدتها تريد التخلص منها، فأرسلتها إلي هذه البلاد البعيدة،ولكنها تدرك هناك أن هذه الرحلة كانت حدثا مهما في حياتها،وهناك تلتقي بشخص يدعي”كريم خان”، ويخاطبها في اللقاء الأول باعتبارها ملكة شرقية،ويستدرجها إلي حوارات لا تدرك هي مغزاها،ولكنها تتعلق به،وتكاد تحبه،وتضبط نفسها وهي “غيرانة”عليه من صديقته “بوسي”،وتسخر منها بينها وبين نفسها وتقول بأن اسمها يصلح لقطة.
ولكن تتوطد العلاقة بينها وبين كريم خير،للدرجة التي يشير إليها بأن تبحث عن شخصية اسمها “بستان البحر”،عندما تعود إلي القاهرة،وازديادا في “تغميض”الحكاية لا يعطيها عنوانا،ولا رقم تليفون،وعندما تسأله:”كيف ستصل لهذه الشخصية في هذه المدينة الواسعة؟”،يخبرها بأن اسمها سيدل علي مكانها، وبالفعل تعود هدير من رحلتها،وتظل تبحث عن بستان البحر،ولكن دون جدوي،حتي تيأس،وتعتقد أن كريم خان لم يكن جادا،وفي تلك اللحظة،يتصل بها كريم من هناك،ليرشدها للذهاب إلي مشتل بهذا الاسم في الزمالك،وتذهب إلي هناك،لتلتقط رقم تليفون،وتتردد في الاتصال،ولكنها تتصل،فترد عليها بستان نفسها،وتعطيها عنوانا في وسط البلد،وبعد بضعة آليات تشبه مايحدث في الروايات البوليسية المشّوقة،تلتقي هدير ببستان،هدير مندهشة وقلقة ومرتابة وغير مطمئنة لكل مايحدث،وعندها أسئلة عديدة حول كل الترتيبات التي لا تعلم كيف حدثت ولماذا.
أما بستان الواثقة من نفسها،والهادئة،والتي تعطي شعورا كهنوتيا صارما لهدير،لكونها تعيش بين اللونين الخالدين، وهما الأبيض والأسود،هدير الحائرة،وبستان التي تملك يقينها بأنها تسير قدما نحو تحقيق الحكاية،واستكمالها بتفاصيلها المتعددة،وتدير كافة أشكال روايتها،عبر دروب وأزقة وعرة،ففي الوقت التي كانت بستان تسرد حكايتها هي المتعددة الوجوه،كانت علي الطرف الآخر تحكي حكاية الأميرة “زمردة”،ابنة الملك ياقوت،والذي خطف أمها “نورسين”من منطقة”جلستان”،ولكن زمردة التي أصبحت الثمرة بين الملك ياقوت،و “مخطوفته” نورسين،ولدت بكماء خرساء،فأحضر لها حكيم الجبل ،وظل هذا الحكيم يلقي دروسه ومعارفه وحكمته وفلسفته للأميرة الصغيرة،وعندما شعر بعدم جدوي مايفعله،وصار يعتقد بأنه يهين علمه بدرجة كبيرة،وفكّر للحظة أن يترك هذه المهمة ويحدث مايحدث بعد ذلك من الملك ياقوت،عند هذه النقطة نطقت زمردة،وباحت له بأن كل ماقاله لن يذهب سدي،ولن تلقي به إلي البحر.
عند ذلك كانت سعادة الحكيم سعادة بالغة،وأثبتت الحوادث فيما بعد القدر الذي وصلت إليه زمردة،التي استيقظت ذات يوم فلم تجد أمها نورسين،وهنا قال لها الملك ياقوت “أبوها”بأنها لن تستطيع،أو بمعني أدق لا يجوز لها الخروج من الجبل أو المملكة مستعينة بالعنقاء إلا بعد أن تبلغ الحادية والعشرين من عمرها،ورغم أن جبل الزمرد،الذي تحرسه ملكة الحيّات،ولا يستطيع أحد من الجن أو الإنس الوصول إليه، لأن هناك جبل المغناطيس الذي يقف حاجزا منيعا لوصول السفن إلي هناك،لأن هذا الجبل يجذب المسامير والحديد الذي تصنع منها السفينة،لذلك فأي سفينة تمر من هناك،لا بد أن تلقي مصيرها بكل راكبيها،وفي إحدي الرحلات العابرة،يحدث أن سفينة تتحطم عن آخرها، وتلقي براكبيها ليغرقوا في البحر،ولكن ينجو واحد،تطلق عليه الراوية اسم “الناجي”،ثم يحكي حكايته العجيبة،ونكتشف أن اسمه “بلوقيا”،هذا الذي تستدعي الكاتبة فقرة من ألف ليلة وليلة الأصلية في مستهل الرواية،ولكنه هنا يختلف دوره ووجوده وفاعليته عن وجوده في ألف ليلة وليلة الأصلية.
وتتشابك الحكايات بشكل مثير ومعقد،ولكن بستان تملك كل مفاتيح الحكاية،وهنا يثير وجود بلوقيا الذي هرب من كوخ الراعي،قلقا في الجبل،ويستشعر الملك ذلك،وعندما سأل عن سرّ هذه التغيرات التي تحدث في الجبل،قيل له بأن غريبا يوجد في الجبل،فيندهش لكيفية وصول هذا الغريب إلي هذا المكان المحصن،وتبدأ رحلة البحث عن هذا الغريب،حتي يتم العثور عليه، ويندهش الملك من وجود هذا الغريب،ولكنه ينصت إلي حكايته،ويعرف صنعته بأنه صائغ،ويعرف قيمة المعادن،وفوائدها الجمة، ويمكن له أن يضعها في أشكال مبهرة،ويسأله عن أهمية الزمرد،فيقول له بأنه يستخدم كنوع من الأدوية السحرية في معالجة بعض الأمراض المستعصية،ويدرك الملك أهمية بلوقيا،فيستبقيه.
ويتجنب قرار التخلص منه لحين،وتظل الراوية أو بستان تحكي الحكايات الأسطورية الممتعة،واللافت للنظر هنا،وبعيدا عن أي ادعاءات نسوية،نجد أن كافة أطراف الفعل في الحكاية كلها،تقودها المرأة.
فالراوية والباحثة هي بستان البحر، والبطلة الرئيسية ومتن الحكاية وعمودها الأول هي زمردة،وقبلها أمها نورسين،ثم تبرز هدير كإحدي الشواهد المهمة في استكمال الأسطورة،ومعها أمها نادية،وجدتها شيرويت،ولا ننسي أن حامية جبل قاف الخرافي نفسه،هي ملكة الحيات،وتأتي حكايات الرجال كلها عطفا علي حكايات النساء،ليصير لدينا قناعة،بأن زمردة وبستان وهدير وشيرويت ونادية وملكة الحيات،علي اختلاف أدوارهن وطبائعهن وقصصهن في الرواية،وكأنهن بدائل غير مدركة لشهرزاد،ولكن بستان البحر الشخصية لا يقتصر دورها علي السرد والحكي فقط،بل يتجاوز هذا بمنحنا قدرا كبيرا من المعرفة الخاصة،فهي طوال رحلة البناء والسرد تفصح عن مكنونات ثقافية ومعرفية شديدة العمق،وتخبرنا بستان البحر بأنها تعرف منطق الطير لفريد الدين العطار،وكذلك أشعار سعد الشيرازي.
وفي بداية الرواية ورحلة البحث تذهب إلي أحد المحافل العلمية،وتعترف بأنها مهما حصلت من علوم فالأمر دوما أكثر اتساعا من ذلك،فتكتب وهي ذاهبة إلي هذا المحفل:”لطمأنة نفسي رحت أفكر في طفولتي،في رحلاتي مع أبي إلي شيراز،كنت أحس عندما أزورها أني علي وشك الخطو في أرض مسحورة،تغمرني السكينة،فيما يستغرق أبي في تأملاته أمام قبر سعدي،يجلس بالساعات محدقا في نقطة متخيلة أمامه،أحاكيه كأنما أتدرب بدوري علي الصمتوتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوي العالم الأكبر!.
ترن جملة الإمام علي في رأسي،فأنغمس أكثر في ذاتي وأجاهد حتي لا أنفصل عما حولي”،وكان قد أنبأتنا أنها ليست منذورة إلا لهذا البحث،حتي أنها تفاجئها في إحدي رحلاتها في بريطانيا لترك بصمة وحفر أثر في مكان هيمن عليها منذ اللحظة الأولي،كل هذا يدلنا علي أن هذه الرواية أولا رواية معرفية،تمتزج فيها صنوف المعرفة الكثيفة والمكثفة ،مع انسياب السرد الممتع والمتخيل في قنواته الطبيعية،ثانيا أنها رواية تبني عالما موازيا للعالم الذي نعيشه علي المستويات الاجتماعية والسيكولوجية،وتخلق مجتمعا زمرديا،علي شاكلة مجتمع شهرزاد في ألف ليلة وليلة-حسب تعبير بوعلي يس في كتابه خيرالزاد من حكايات شهرزاد، لذلك يختلط اسم زمردة باسم شهرزاد بقوة،رغم التباينات والملامح المختلفة، وكذلك الأسباب التي دفعت كلا منهما لإنشاء حكاياتها،مع اعتبار أن بستان البحر هنا توحي بأنها تريد التنقيب عن الحكاية المفقودة في عالم وحكايات شهرزاد نفسها.ثالثا أن الرواية تبني عالما معاصرا حيّا حقيقيا،يرتبط بالواقع المعاصر،وبكل مجرياته وحوادثه الحالية، ولا تستبعد الحديث عن العساكر والشعارات المطروحة في ذلك الوقت،دون أن تكون مثل هذه المفردات طاغية بشكل واضح،فنقابلها بين الحين والحين،في تضاعيف السرد،ولا يفوت الكاتبة أن تترك ملاحظات عميقة علي طرق الكتابة وجدواها وأهدافها وفاعلياتها،وكذلك سنلاحظ أن هناك حكايات ضمنية قائمة بذاتها،ومشتبكة مع حكايات أخري،ولكن لها دلالات حادة،مثل هذا الشخص المخبول الذي كان يفترش الأرض أمام البناية التي كانت تقطن بها شيرويت،وكان هذا الشخص يتحدث عدة لغات ويغني باللغة الفرنسية،وكان هناك ثمة غموض يحيط بقصته.
وكانت شيرويت تعطي له كل يوم طعام الإفطار في رحلتها الصباحية،وهناك تكهنات متعددة للخلفية الاجتماعية والطبقية التي أتي منها هذا الشخص،فكل ماتبقي من سلوكياته يشي بأنه كان ينتمي إلي إحدي الطبقات الموسرة،ولكن لم يستطع أحد التوصل إلي حقيقة قصته،وفي النهاية استيقظ سكان المنطقة ليجدوه مشنوقا علي الشجرة التي كان يجلس بجوارها،وبالطبع فهذه الحكاية رغم تفسيراتها المتعددة،إلا أن إيرادها بهذا الشكل،يشي بجنون العالم،وربما بحكمته،نظرا للحكايات الاخري المسرودة في الرواية، والتي تتجاوز حدود الخيال التقليدي،ليصل إلي خيال وشطح غير محدود،ولكن بستان البحر،والمالكة لكل المفاتيح المؤدية إلي المعني العميق الذي تشير إليه الأحداث،ولا تتركنا الراوية واقفين مدهوشين هكذا،ولكنها تستكمل حكايتها مع هدير،وتعرض عليها العمل،وعندما تقبل هدير العرض،وتدخل مكتبة بستان،هذه المكتبة التي تحييط بجدران الغرفة كلها،وتحتوي علي كتب ومجلدات في جميع المجالات،للدرجة التي تصل إلي كتاب يحكي قصتها وقصة ضياع الخاتم الزمردي منها وهي في السادسة من عمرها،وتكتشف أن بستان البحر تتعقبها كساحرة منذ ولادتها،فهي تعرف كل شئ عنها،وعن أمها،وعن والدها،حتي أنها تعرف ماالذي يجري لأمها نادية في موطنها الجديد “كندا”مع زوجها وحبيب القلب الجديد،والذي تركتها وتركت مصر من أجله،هنا نجد أنفسنا أمام معزوفة روائية شبه مكتملة، معزوفة موازية للعالم الاجتماعي الذي نعيشه،بكل توتراته واضطرابه وتناقضاته واختلالاته المركبة.