في عام 1948، انتقل ستافورد إلى أوريجُن للتدريس في كلية لويس و كلارك التي ظل يعمل فيها حتى تقاعده عام 1980. صدرت أولى مجموعاته الشعرية بعنوان “السفر في العتمة” وهو في الثامنة والأربعين من عمره، وفازت بالجائزة الوطنية للكتاب عام 1963، ثم تلاها نحو خمسة وستين كتابا شعريا ونثريا.
هذه المعلومات ننقلها عن الكاتب الأمريكي مارك ميتشِل الذي يواصل قائلا إن قصائد ستافورد بسيطة بساطة مخادعة. إذ إنها تكشف ـ شأن قصائد سلفه الأمريكي روبرت فروست ـ عن رؤية معقدة ومميزة ناتجة عن نظرة متمعنة. وينقل ميتشِل عن الناقد الأمريكي جيمس ديكي في كتابه “من بابل إلى بيزنطة” ملاحظته أن “المزاج الذي يسيطر بصورة طبيعية على قصائد ستافورد هو مزاج رقيق، صوفي، شبه ساخر، مغرق في الذاتية، حالم، ينهل من أجواء الغرب الأمريكي“.
ولعل من المفيد أن نتذكر هذه الكلمات ونحن نعرض لقصيدة ستافورد الذي توفي في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1993.
***
مجرد تفكير
صحوت في صباح رقيق. اتكأت على الشباك.
لا غيمة، لا ريح.
الهواء الذي تقنصه الزهور لوهلة.
يمامة ما في موضع ما.
قضيت أغلب حياتي تحت الاختبار،
ومُدانًا قضيت بقيتها.
لذلك هذه اللحظات تعني الكثير ـ
من السلام كما تعرفون.
أنزِلوا دلو الذاكرة إلى البئر،
وارفعوه. رقيقة رقيقة هذه الدقائق.
لا أحد يتحرك،
لا خطط.
ليس سوى أنك موجود.
هذه هي الغاية من كل شيء.
***
لعل أكثرنا يعرف من الذي سيأتي عليه حين من الدهر، أو حين خارج الدهر في الحقيقة، يتمنى فيه لو أنه تراب. لعل منا من يؤمن بهذه اللحظة المؤجلة إلى حياة ما بعد الحياة، ولكننا لو صدقنا مع أنفسنا قليلا، لوجدنا أن تلك اللحظة تمر علينا في هذه الحياة التي لم تصفها لغتنا عبثا بالدنيا. الحياة الدنيا.
في الثمانينيات، كان ثمة إعلان تليفزيوني يظهر فيه رجل ممسكا خصلة من شعره، وامرأة ممسكة خصلة من شعرها، مع صوت من خارج الصورة يقول “هناك لحظات في حياة الإنسان يصعب عليه فيها مجرد أن يرى وجهه في المرآة”. ربما لا تكون العبارة بهذه الصياغة تحديدا، ولكننا على أية حال نستدعي من ذاكرة أنهكها مرور عقدين ربما على آخر مرة شاهدنا فيها ذلك الإعلان. كان الحل بالنسبة للرجل والمرأة في الإعلان يتمثل في سلعة ما كفيلة بتغيير الشكل. ولكن مع تطور السلع جميعا، لا تزال تمر على الإنسان لحظات يحقد فيها على الصفحة البيضاء. على التراب. على الحجر الأصم. على الطائر الأخرس المعلق بين السماء والأرض.
هل لكل ذلك علاقة بقصيدة وليم ستافورد؟ نعم، ولا. ولنبدأ بلا
تنتهي القصيدة بقول الشاعر: ليس سوى أنك موجود، هذه هي الغاية من كل شيء. الوجود إذن هو الغاية من الوجود. ومن ثم فالشاعر لا يريد أن يكون ترابا، لا يريد ذلك المستوى من الوجود الأقرب إلى العدم. ليس الشاعر حاقدا على الصفحة البيضاء أو الحجر أو الطائر. إنه فقط ساع إلى تلك اللحظات من السلام “كما تعرفون” التي لا تشغله فيها خطة ولا يجرح الأفق أمام عينيه أحد، بشر كان أم يمامة. وهنا بالضبط تبدأ نعم.
قضيت أغلب حياتي تحت الاختبار، ومدانا قضيت بقيتها. هكذا يقول الشاعر. جملة لا تعني إلا أن الحياة انتهت، أو هذا ما يبدو للشاعر، أو ذلك ما ينشده. في أغلبها كان مختبَرا، وفي بقيتها كان مدانا. لذلك هو يبحث عن لحظة من السلام، لا تظهر فيها غيمة ولا تهب فيها ريح، بل ولا تعبر الأفق يمامة تذكره أنه هو الآخر، وإن اختلفت الطرائق، معلق بين السماء والأرض. ذلك الصفاء الذي يبحث عنه الشاعر ليس من شيم الحياة، ولا الوعي. ومن واقع ما وصلنا عما بعد الحياة نقول إنه قد لا يكون أيضا من شيم الموت والعالم الآخر. تلك الغاية التي يسعى إليها كل شيء هي أقرب ما تكون إلى العدم، أو إلى ذلك المستوى من الوجود الذي يرفل التراب في نعيمه، والحجر، والطائر الغافل.
نعم ولا. تلك هي المسألة. ولم لا نقولها بالضبط كما قالها هاملت. أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة. أوجد أو لا أوجد، تلك هي المسألة. هي الحيرة التي أنطق بها شكسبير بطله الخالد، حيرة الإنسان بين نعيم لا يقدر على تحقيقه إلا الوجود، ونعيم لا يقدر على تحقيقه إلا العدم.