في ذلك العام، 1993، صدرت مجموعتي القصصية الأولى «مرافئ للرحيل»، وكتب كلمة الغلاف خيري عبد الجواد، وأعطاني صورة من تقرير كتبه عنها إبراهيم عبد المجيد بمحبة كبيرة. خيري عبد الجواد وأحمد رزرور يرتبطان بذكرى قديمة، بالعدد الخاص بالأدب المصري الحديث في مجلة «48» الصادرة في حيفا، ربيع 1989، وأسهمت فيه بمقال لا أحب الآن أن أتذكره.
خرجنا من هيئة الكتاب، وأخبرني خيري بقرب صدور المجموعة القصصية الأولى لسمير عبد الفتاح «سبع وريقات شخصية لعامل التحويلة المنتحر». ولم يستغرق توثيق الصداقة كثيرا، فتآلفت مع سمير، وشجعته على الكتابة في «الأهرام المسائي» فكتب إضاءات عن كثيرين، ومنهم بعض كارهي البشر ممن لم يكن لهم كتاب منشور، ولكن سمير بإخلاصه للفن والجمال كان يرصد الموهبة، ويدعم بالكلمة الطيبة صاحبها، ولو كان فظا خشن الطباع.
لم تجمع إضاءاته النقدية التطبيقية في كتاب، رغم إعلان ناشر صديق، صديق لكلينا، عن الكتاب ومؤلفه في الصفحة الأخيرة لإصداراته، وآثر سمير أن يواصل الكتابة، وأصدر مجموعات قصصية وروايات منها «تطهر الفارس القديم» و«حارس الغيوم» و«خيانة شرعية». كتابة مقتصدة، غير مترهلة، متقشفة أحيانا، تنجو من غواية التفاصيل، وتنتصر لفن القول.
نشرت لسمير فصلا من روايته الجديدة «الحائط الأخير»، في «الأهرام المسائي»، ثم أبدى رغبته في نشرها في «روايات الهلال»، وتكلمنا بشأنها، وقلت له إنك تستسلم لوهم المرض، وقال إنه لا يحتمل فكرة المرض نفسها، وكان صوته عفيا في المكالمة الأخيرة قبل يومين اثنين من الرحيل، وهو يكره طيف الموت، ولم أنتبه لغيابه عن جنازة أو عزاء، ولكن المقال الذي كتبه، ونشر بعد وفاته في مجلة «المجلة» (سبتمبر 2014) عن أحمد زرزور يفسر لي هذا الخوف، ففي السطور الأولى يقول سمير عبد الفتاح: «أكره الموت كرها لا يحد، ولم يحدث يوما أن شاركت في دفن صديق»، أو حضور عزاء، باستثناء «العزاء الوحيد» في يوسف إدريس بمسجد عمر مكرم، وجنازة «نسيبه» خيري عبد الجواد.
بعد رحيله اكتشفت أن ما كتب عنه لا يليق بجهوده. كان العزاء يشبه سمير الذي مضى خفيفا زاهدا، كما عاش خفيفا زاهدا لا ينظر إلى ما حصده غيره، مستحقا أو غير مستحق. حتى الذين سهر ليكتب عن أعمالهم المبعثرة في صحف ومجلات لم يشيروا إليه، ولا ذكروه، ومن حسن حظه أن الموت حجب عنه هذه الحقيقة، رحمه الله.
رواية «الحائط الأخير» ـ التي صدرت في سلسلة «روايات الهلال» منتصف ديسمبر 2014 ـ تبدأ بقول مولانا جلال الدين الرومي: «المرء مع من لا يفهمه.. سجين»، ولكن الرواية تخلو من سجن، ولم يدخله يوما أي من بطليها، وهما محاربان سابقان شاركا في حرب أكتوبر 1973. كلاهما غريب، يبحث عن الآخر، في محاولة لاستعادة زمن، وترميم ذاكرة، ثم يعثر أحدهما، في بيت أشبه بمتاهة قوطية، على الآخر، كان سجين جسده الذي التهمت الحرب بعضه، وسجين قصر وضحية أخت قاسية في غموضها.
يتحرر المحارب القديم المعاق من سجنه المزدوج، ويقود سيارته، في مغامرة تنتهي بهما إلى مدينة السويس، ويفاجآن بتحولات تفضح خديعة الانفتاح الاقتصادي. لا يميل السرد إلى التقرير المحايد، ولا الشعارات الزاعقة، بل يصنع من المرارة مشاهد موجعة، وهما ينكران قبح الواقع: «هل هذه هي السويس بالفعل؟ السويس التي ضحينا بحياتنا وراهنا بعمرنا من أجل أن تكون أم المدن؟».
لا يأسى الصديقان على ما فات، رغم الوعي بأن الخسارة فادحة، والتضحيات كنستها بلا رحمة ريح الانفتاح، ولم يبق إلا «الجدار الأخير»، الذاكرة. إنها رواية مشغولة بالحنين.
*صدرت الرواية عن سلسلة “روايات الهلال”