* * *
قارئ (ممدوح رزق) سوف يتمتع بجانب قراءته قصصاً تعتمد على ذات فردية، والإبحار في وجودها بالمعنى الوجودي الباحث في كينونته وماهيته في هذه الحياة المهولة، ودروبها العجائبية والغريبة عن الإحاطة، من خلال موقف درامي طازج يحسب للكاتب أنه له وحده، ولا شبيه له في كتاب قصصنا في الوقت المعاصر، سيحصل قارئه على كم من المعرفة، الفلسفية والتاريخية والجغرافية، والسينمائية، والفن التشكيلي أيضاً، إلى جانب مخاطبة قدرته على استيعاب التكنولوجيا الحديثة خاصة ثورة الاتصالات، على الإجمال تقوم قصصه على لعبة (الافتراضية) وكأن الحياة التي يوجد فيها هذا القاريء هي افتراضية محضة، فلا يقين على أنها حياة يمكنك فيها أن تصنع تاريخاً متراكماً، وتدعي الفخر به، كل شيء فيها غير ممسوك في قبضتك لأن الموت يلاحق هذا التاريخ، فلا تركن إلا إلى النسيان في تعاقب فصول هذا التاريخ.
يلف كل ذلك روح ساخرة تمكننا نحن القراء من عدم السقوط في القنوط، ولكنها مع ذلك تبعدنا عن الوهم .. الوهم بأي شيء يمكنه إبعادنا عن تلك النقطة المركزية.
في قصة (فيس بوك) أولى قصص المجموعة تذكرت على الفور نصاً شعرياً لـ (ممدوح رزق) كنت قد قرأته في أحد تلك المواقع التي تقدم نصوصاً قصصية وشعرية، والنص الشعري كان يحكي عن هذه الحياة الوهمية ـ وهي حقيقية في ذات الوقت ـ عبر الهوتميل تجري المحادثة بين أحدهم في مصر، وبين إحداهن في بلد خليجي، وتصبح أكاذيب الاثنين هي الحياة، والكاتب يدلنا على هذه الخدعة عبر كتابة تقول الحقيقة المجردة، وهي أن الفتاة سوف تموت بمرض عضال، وأن الشاب لديه مشاكل اجتماعية، ولكن الكذب يمكن له أن ينشيء حياة طالما كانت الافتراضية هي ما نعيشه، أما قصة (فيس بوك) فهي قائمة على الاستدعاء، فمن الأفلام يستدعي ضمير المتكلم ـ المولع به (ممدوح) فمعظم قصصه بهذا الضمير ـ بعض مشاهد من أفلام معينة يُفترض بالقاريء أن يكون قد شاهدها، المقصود منها التأثير الذي يُحدثه المعادل الموضوعي في كتابات أخرى لكتّاب آخرين، وهذه إحدى التقنيات التي يجيدها كاتبنا ويقيم عالمه من خلالها .. الخيبة تلاحق بطل النص ولا ينفعه تذكره لكل هذه المشاهد السينمائية، وكأنها تزيد هذه الخيبة بحدة التناقض بين المعرفة وبين السلوك.
في قصة (ماريا نكوبولس) تواجهنا هذه الموهبة الطبيعية وعلاقتها بالمنطق البيولوجي والحضاري على حد سواء، والفرضية في النص تتبعها فرضيات أخرى طريفة، أهم ما في النص التزييل بهوامش تزيد من حدة السخرية من موقف الناس تجاه الشيء المخالف للعادي أو المتصالح معه، في هذه النقطة تتحرك نوازع البشر إلى المقاومة، وما المقاومة إلا نوعاً من الحماقة البشرية، ولذلك تتسع الهوة في جوهر الوجود الإنساني ذاته، حيث محاولة تأجيل ما لا يُؤجل في قصة (أشياء الزمن)، ومع ذلك فهذا الوجود دائماً ما يوجد فيه قوة دافعة ذاتية على الاستمرار، وما ظهور الأسنان في فم طفل الراوي إلا استمراراً للحياة بقوانينها، في الخلفية 25 يناير تعبيراً تم اقتناصه لاستمرارية هذا التوالد من رحم العدمية التي تُشكل روح الموقف الوجودي.
يمكننا القول إن القصة عند (ممدوح رزق) هي ساحة تعبيرية عن الهوية، يلجأ دائماً إلى ما يشبه التقرير للبحث النفسي وعبر النوستالجيا والواقع أيضاً، ويتلمس في تقريره بشتى المعارف والقراءات التاريخية والطبية والكشوف الجغرافية والمرضية كل ذلك في إسلوب كتابة لا فصل فيه بينه وبين القاريء، وكأنه يكتب عند نقطة معينة من حديث يدور بينهما، وها هو يكمله، مزيحاً تلك المسافة التقليدية بينه وبين القاريء، ربما في بعض الأحيان تطغى معرفية الكاتب، فهي تقوده دوماً.
في قصة (هومر سيمبسون) نفس المنحى الافتراضي، ولكننا هنا مع اتساع عين الكاميرا واللجوء إلى شخصيات من فرط افتراضيتها تقع في وهم واقعي لوجودها، من نتاج كتّاب سابقين وسيناريستات آخرين، شخصيات كارتونية يستدعيها الراوي وكأنه يدفع نفسه دفعاً لأن يكون افتراضياً، وتسقط كل دعاوي التشبث بفكرة ما في حياة يعتبرها رحلة تشبه الفيلم الكارتوني، وليس من الحكمة أن ننغلق على ثبات الفكرة في وجودنا، فلا شيء يمكن أن يكون أبدياً يُعلق على حائط الحياة ويظل له من الوجاهة والمنطقية حضوراً فاعلاً في الحيوات الأخرى.
يستكمل الكاتب كل ذلك في نصه (ثغرات الخلود) بلا تورية مع هذه المفارقة (غير الفارقة) ولكنها تكمل صورة الفقد أمام سير الحياة وتغيرها وتبدلها وتحولها، وتبدو تلك الحيلة النفسية للاحتفاظ بذكرى شيء ما حالة عبثية كاملة الجوانب.
في قصة (رسم الهواء) يكون أكثر وضوحاً وتجلياً، وما تلك العبارة الأخيرة إلا ضربة على الصدغ (هل فهمت الآن ماذا تعني محاولة استعادة الماضي؟!).
في قصة (المرض) كتابة وجودية بامتياز حيث نرى معنى أن يمرض الجسد، وحالة الاندماج الجسدي والنفسي والعصبي معاً في كتلة واحدة يتمنى الإنسان لحظتها أن يكون نموذجاً لا يصيبه العطب، لحظات الصحة هي المؤامرة الصامتة لانهيار آت، وكأن المرض هو الهزيمة المعلنة بينما الصحة هي الهزيمة الأشد خطراً، وآليات القص هنا لا تخرج عما اعتاده (ممدوح) من اقتناص اللحظة والشغل عليها بطريقته الهادئة التي تعتمد تراكماً يعتمد على الزمن النفسي دون أية مفاجآت خارج حدود اللحظة المكتوب فيها وعنها.
في قصة (تخفيف العمى) الذي يخفف العمى هو العمى نفسه، يقدم الكاتب أو الراوي أو الضمير الذي يكتب به النص مفهموماً آخر يُضاف لما سبق عن التعلق الواهي بأشياء ربما تكون صغيرة ولكنها جوهرية لمن يتعلق بها، إلى جانب تلك المفارقة داخل المفارقة في النهاية فضمير الأنا وربما كان الآخر، وهذه لعبة ـ كما أوضحنا سابقاً ـ يجيدها (ممدوح رزق) بامتياز في كافة نصوص (مكان جيد لسلحفاة محنطة) .. والعنوان أي عنوان المجموعة لم يرد كنص في المجموعة، ولكنه لافت من وجهة نظر النصوص هو تعبير عن نظرة للحياة وعلاقات هذا الكائن الإنساني الذي ينظر إليه على أنه سيد هذا الكون وهو في الحقيقة أضعف مما هو متوقع شبيه بسلحفاة محنطة .. نظرة (ممدوح) نظرة ساخرة ومريرة، ولكنا يمكننا الاقتناع بها، ولا نملك إلا الموافقة.
في قصة (عيد الأم) تمضي تلك النظرة القريبة من العدمية من خلال التفكير المسبق لما سوف تحل عليه الحبيبة بتغير ملامح الجسد وعوامل الزمن ورغم الحب والمعايشة، الهروب من مجرد سماع أغنية فايزة أحمد عن الأم هو قمة تلك النظرة التشاؤمية نحو عاديات الزمن.
في قصة (وردة) تدوير الحياة ـ وممدوح له قصة في نفس المجموعة بذات العنوان ـ تدوير الحياة رغم كل ما بها لمحاولة جعلها مقبولة وميسرة للمضي فيها.
في قصة (لا شيء بعد الموت) رغم صدمة العنوان، والإيحاء بما سوف يأتي بعده، إلا أن (ممدوح رزق) يفاجيء القاريء بشيء آخر هو رحلة الإنسان العجوز عندما يواجه العدم من حوله في مقابل ما تعيه الذاكرة والتي يمكنها أن تمشي على الأرض وتحيا، فتكون رحلة ما بين العجز الآن، والطفل الذي كان، أي أن الحياة تسير في طريق واحدة لا مناص من مسايرتها.
في قصة (حكاية الرجل الذي كتب قصة قصيرة) بساطة وعمق، بساطة التناول من حيث التكنيك الذي شابه الحكاية وطريقتها في الإعلان عن وقائعها ببساطة تمتزج بشيء من السخرية، وعمق الدلالة في هذا المختلف الذي يؤثر الحياة بلا تساؤل أو تأويل ولا مناقشة.
في قصة (نهاية العالم) نهاية العالم الحقيقية تبدأ في نهاية القصة ذلك الفعل المجنون العدمي، غير المبرر ـ من داخل النص ذاته ـ والمبرر مع ذلك بعد رحلة القراءة في نصوص (ممدوح)، نستطيع أن نقول إنه غير معني بالمغامرة اللغوية، ولكنه يسير بشكل واضح إلى المفارقة، مما يجعلنا نعيد النظر في كل ما سبق قراءته، فالكتابة عنده كتابة خادعة، لا يمكنك أن تقبض على الدلالة وترتاح إلى نتائجها من أول مرة.
في قصة (حاسة الانتقام) لاحظ أنه استعمل تعبير حاسة ولم يستعمل تعبير طبع مثلاً، لأن فعلا الانتقام تصوري، لا يتقدم ليكون فعلاً له وجود إلا في داخل الراوي تجاه البنت، ليصبح الفعل خارج الراوي، لأنه الزمن وما يفعله في الإنسان، وليست مؤامرة الراوي إلا نوعاً من التشفي أمام تجليات الزمن.
في قصة (إعادة التدوير) قصة قصيرة جداً، وفي نفس الإطار السابق، لكن هنا الزوجة ترضخ لمؤامرات الزوج طوال حياتهما الزوجية، ثم تكتمل الرؤية في استمرارية هذا الوضع في قابل الأيام عبر الطفلة، وما ضحكتها في نهاية القصة إلا نوعاً من الرضوخ لنفس المصير.
في قصة (جامع القمامة) وهي تحمل كل ما في القصة القصيرة جداً من إشكاليات، فهي تعتمد في العموم على وجود مفارقة تنهي القص، إما أن تكون هذه المفارقة حاملة ـ مع مفاجأتها للقاريء، لابد أن تحمل قوة الامتداد إلى شتى التأويلات والمجازات وتعدد الرؤى، جاءت النهاية بها متوقعة نسجت من نفس نسيج ما سبقها.
إلى هنا نكتفي من 29عنواناً، ويمكننا أن نجمل ما وصل إلينا عبر وعينا بلا أدنى غرور من جانبنا، ولكن علينا أن نستحضر مقولة (بارت) التي بدأت بها، والذي قال عن (ممدوح رزق) وهذه المجموعة أنه يلعب بالمتاهات صحيح القول، ونوافقه عليه، كما أن الموت حاضر بكثرة ومطروحاً في أكثر قصصها، والزمن كمعيار وجود للكائنات بما فيهم الإنسان بالطبع، وأن هناك لعبة تدور من جانب الكاتب بمراوغة مفرحة، ولعل ذلك يجعلنا نفهم لماذا كانت معظم النصوص مكتوبة من خلال فرد، ذات، وحركتها في هذا العالم ومواجهته أحياناً بانكسار ورضوخ، وأحياناً بالثورة عليه ولكنها ثورة لا تُشكل حلاً وإنما تزيد من حدة مواجهة الذات وانسحابها داخلياً، تراكم مشكلاتها، قلنا أن (ممدوح) يتسلح بمعرفة واسعة، ولكنه في بعض الأحيان يقحمها في نصوصه، اللغة لديه لغة حيادية في الغالب، أي أنها لا تلجأ إلى المجازية أو التفاصح، ولكنه يستخدمها استخدام الوسيلة لا الغاية، (ممدوح رزق) يواجهك بتجريبيته، والنظر إلى ما تم إنجازه من كتابات سابقة عليه أو حالية بكسر المعتاد وتلك الروشتة الجاهزة عن الكتابة، مثيراً أسئلة كبيرة عن أصل الوجود، وهي أفكار لا تشغل حيزاً كبيراً في إبداع كتّابنا، (ممدوح رزق) عندما تقرأ نصوصه تصير في حالة شك دائم مما يجري حولك أو مما سبق من معلوم بالضرورة لديك، يُصدر إليك قلقاً، وفي اعتقادي أن هذا النوع من الكتابة هو ابن لعالمنا القائم على العلم والنقد، أو هكذا ينبغي أن يكون ونكون نحن.