ويبدو لي أن جمالية الديوان تتشكل في المسافة ما بين وعي الفكرة ووعي النص، ورغم أن الوعيين يكمل أحدهما الآخر ويفيض عنه، فإن الذات لا تنخرط في الموضوع أو المشهد بشكل مباشر، وإنما تراقبه وتحتويه وتدل عليه بحدس الفكرة وقوة التأمل، وتستعيده بوصفه حالة شعرية قابلة لإعادة القراءة وطرح الأسئلة من جديد. ومن ثم ليس ثمة فكرة منتهية أو مكتفية بذاتها، وإنما تنبع حيويتها وطزاجتها من قدرتها على التعايش والوجود داخل النص الشعري نفسه.
نرى ذلك على نحو جلي في القسم الأول من الديوان «عيون تتبعني في المنام»، حيث تطالعنا قسمات وملامح من تداعيات ثورة 25 يناير (كانون الثاني) في مصر. وسوف نلاحظ أن الثورة تحضر في النص بقوة الفكرة، إلا أنها مع ذلك تتوازى مع فعالية المشاركة في المشهد. وربما يحيلنا هذا إلى آلية أخرى من آليات التواصل والتلقي، يمكن أن أسميها «حميمية التعاطف».. فالثورة لم تكن في الميادين وحدها وإنما امتد لهيبها إلى فضاء النص، حتى وهو محض نقطة خرساء فوق سطح الكتابة.
في هذا المستوى الأول من 3 مستويات حكمت مدار قراءتي للديوان.. أتصور أن قصائد هذا القسم انشغلت بـ«فكرة الثورة» على حساب التفكير بالثورة.. وهو ما انعكس بشكل أساسي على سكونية اللغة في بعض القصائد، ومراوحة الصورة الشعرية في منطقة وصفية محايدة، في مقابل حدث استثنائي متفجر، مسكون بمفاجآت واحتمالات وتحولات شتى، كسر متاهة التاريخ واللغة والخيال، وفرض لغته وإيقاعه الخاصين على نسيج المشهد كله.. تبرز هذه المفارقة، على سبيل المثال في قصيدة بعنوان «الحرية» حيث تقول الشاعرة:
“سننتظر متلهفين
غدا ستأتي مع الصوت العالي
مع الثورة التي تَعْقِصها جديلة الانتظار
تسلب لبّ النيل الذي أدركه الصمم
تسلب ملامح الغريب
وتهدي العابرين إلى حياة جديدة”
بيد أن هذا التراوح بين غواية الثورة كقيمة وحلم، وبين تحولها إلى شكل وطريقة في التفكير والإبداع سرعان ما تحسمه الشاعرة لصالح النص الشعري، وتحديدا في قصيدتين مفارقتين، حيث تتخذ من تيمة توالي التكرار مقوما فنيا لتكثيف المشهد وتصعيد توتره دراميا وجماليا، في شكل ضربات شعرية موجزة وواخزة. إن النص في هاتين القصيدتين يحيل إلى نفسه، إلى غضبه وسخطه وتمرده، ويتحول إلى مرآة، تختزل تداعيات المشهد في إيقاعه الخارجي الصاخب، وتحوله إلى ما يشبه الوثيقة الشعرية.. فعلى هذا النحو من السلاسة والعفوية تطالعنا القصيدة الأولى وهي بعنوان «كان النظام يسقط»:
“كان التصفيق يجذب الصراخ
كان الصراخ يجذب رجال الشرطة
كان رجال الشرطة يضربون المتظاهرين
كان المتظاهرون يجذبون نغماتهم إلى الميدان
كانت النغمات مصدرا لجذب الرصاص
كان الرصاص جزءا من أشياء أخر..
وكان موتي
كانت قنابلُ غاز ودموع
كان جرحى
وكان (بلطجية) ينحازون إلى النظام
وكان النظام يسقط، يسقط
يسقط النظام”
وفي قصيدة «ثمة امرأة» ينجح إيقاع توالي التكرار في التقاط المشهد من زاوية أخرى، ويعيد بناءه بوصفه حالة مفتوحة بتوترها الخاص على البدايات والنهايات، بينما تكشف شعرية الفكرة عن حوارية حارة تومض خيوطها بخفة في تضاعيف النص بين الخاص والعام. ومع توالي التوتر في حركة المشهد تبدو هذه الشعرية وكأنها بمثابة المفتاح الذي يمنح الخاص صفة العام والعكس صحيح أيضا، تقول القصيدة:
“ثمة امرأة تعوي من الألم
ثمة خوفٌ في قلبها
ثمة جوارحُ تنزف في الطريق
في الأسفل ثمة رجالٌ محمومون
ونساءٌ محمومات
وأطفالٌ دون الصخب يترجمون أجسادهم صراخا
ثمة شوارعُ وإسفلتٌ
وينابيع دماء تتفجر بعروق الطرقات
ثمة من يقول إن وطنا تحرّر من مأزق”
ومن اللافت أيضا في هذه القصيدة هذا التخفي الشفيف للذات الشاعرة في أجواء النص، وكأنها راوٍ يربط بين خيوط الوصل والقطع في نسيج المشهد، ويشدها إلى النقطة الفاصلة بين قوس البداية والنهاية، سواء في الداخل الشخصي المثقل بنثار من العواطف والانفعالات، أو في الخارج الموّار بصراخ الثوار والجموع، حيث تتابع القصيدة:
“وأنتِ بجانب نافذتك تكرين العالم مرة واحدة
ترمين الحاضر في لمة يدٍ
عالمي وتدٌ راسخٌ، قلتِ
وعالمكِ حركة في الكون
ستكونين في براءة الدم إذن
دليلا على وضوح الرؤية
ستشبكين وطنك حين تسمعين رجلا يصرخ أمامك
وأنت في النافذة: الشعب يريد”
ويرتكز المستوى الثاني في قراءتي للديوان على ما يمكن أسميه أيضا «فكرة المعرفة»، وهي معرفة لا تنشغل كثيرا باليقين، وإنما تغامر بالسؤال كعتبة أساسية للفهم والإدراك، فالقصائد، مثلما تشير عناوينها، تخاطب الكون، وتبحث عن شكله ومعناه، تبحث عن سلم الوعي وسنة الكلام، وتفتش عن نقطة النور في رونق الحكاية ومعنى الحال. تمهد الشاعرة لكل هذا بالتساؤل عبر ومضة شعرية خاطفة حول حقيقة الوجود. وكما تقول: «وجودنا ملغز، أم أننا نتوهم»، ثم تصعّد التوتر ومحاولة زعزعة اليقين بومضة أخرى تربط فيها – بشكل مضمر – فكرة إدراك الكون بفكرة إدراك الإنسان لنفسه. قائلة: «هل الكون مُفَسّرٌ دوننا». ثم توسع فضاء السؤال برؤى تتنوع من قصيدة لأخرى.. ففي قصيدة بعنوان «كعبارة عميقة» تقول:
“كملاكٍ أبيض السريرة
كملاكٍ صغيرٍ ضال في البرية
أتحرق لمعنى لا تتعقبه الشرور
ألمس الأشياء
أسكن الأماكن
أستنشقها كعبارة عميقة
منها
تتكون غريزة البقاء والشهوات
ولا تتوقف عند خلق الإنسان”
من المهم هنا، أن نتأمل جليا «كاف التشبيه» فهي تلعب دورا جوهريا في التخفف من ثقل اليقين، ومحاولة زحزحته إلى منطقة السؤال، حيث تمام المعرفة هو النقص نفسه، وأنه في الكون، مثلما في العاطفة والحب، وفي الشعر لا إجابات مكتملة، بل هناك سعي دائما إلى أن نلمس الأشياء في ذاتها، وليس كما تدل عليها خبرة البشر والسنين.. وربما لذلك تحدّد لغويا كاف التشبيه صفة المشبّه به، وتترك العلاقة بينه وبين المشبّه مفتوحة على مشاغل الذات ونوافذ التأويل.
أما المستوى الثالث من مستويات قراءتي للديوان فأسميه «فكرة الذات عن نفسها».. وهنا يقفز بقوة العنوان الذي وسم الديوان، طارحا السؤال مجددا حول وعي الأصل والصورة، وما الذي يحدد ماهية العلاقة بينهما، هل هو التطابق أم الموازاة، أم التشابه، أم الظل والنور، أم فكرة الجمال بحد ذاتها كمطلق يصعب الإمساك بجوهره؟ إن «جمالي في الصور» يقين يكتمل بالسؤال، وهو أيضا سؤال يكتمل باليقين.. وكلاهما (اليقين والسؤال) في الشعر اشتباك لا ينتهي إلى ضفة محددة، حيث تتعدد صور الأنا، في تعارضات الجسد والروح، وفي خبرة الوجود والحياة، وفي متاهة الحضور والغياب، وكأنه لا شيء يبقى سوى ظل الصورة، يومض كأثر، يفتش عن شيء يشبهه أو يدل عليه، حتى ولو كان زفرة ألم ووجع.. وكما تقول الشاعرة:
“يدي تؤنّث سقوطي
.. قدمي لا مكانَ لها
تسقط في المخدر ردحا
تستفيق على من يحبس صوتها في الألم”
هنا يبلغ الوجع ذروته أو نقطته الفاصلة، حين يصبح مؤنثا، أو حين يصبح ظلا لفراغ آخر يشبه الفقد والحنين لشيء ما، وهو فقد لا تفصح عنه الصورة وإنما يبقى مستترا في الخلفية، ملتبسا بمحنة المرض والوجود.
ولأن فكرة الذات المبدعة عن نفسها دائما ملتبسة وشائكة، فإنها تتوسل للوصول إلى ذلك تحت ظلال التماثل مع الأشياء التي تحبها؛ أو الأشياء التي فقدتها وتفقدها، ففيها ترى ملامحها مبثوثة ومخطوفة، وكما تقول: «الصّورة غير الواقع.. جمالها منها لا مني». لكن بعيدا عن التكرار أو إعادة إنتاج المشهد، فإن حيوية الصورة ليست في كونها شاهدا على تغيرات الزمن، أو هي طاقة محو وإثبات، وإنما تظل بمثابة خزنة أسرار وذكريات، وعلامة على أن ثمة كائنا ما كان هنا، لكن ابتعد أو انخطف، ولم يبق منه سوى «ظل الصورة».. ففي قصيدة بالعنوان نفسه تقول:
“هنا جلس على الكرسي
هنا تنزّه وضحك
مرآة الغرفة الأولى التقطت صورا له بملابس مختلفة
مرآة الغرفة الثانية ظلت صورتُهُ فيها
هنا كانت صورته تتكاثر
ظَلَّ ظِلُّ الصورة يتحرك
لم يختبر رحيقها حين خرج
ظلّ صوته يتردد هنا:
المكان يشلّ حركة المفاصل
في ذروة الحب”.
وفي إطار «فكرة الذات عن نفسها» يبرز في هذه القصيدة وغيرها من قصائد الديوان ملمح مهم، يتجسد في التعامل مع مواضعات المكان، حيث تجرده الشاعرة من قناعه كجغرافيا وحيز ومساحة، وتستدعيه من تخوم الذاكرة والحلم كومضات ولطشات وجدانية ذات وقع خاص. فالمكان هو وعاء الروح والجسد، وتتعامل معه الذات كأثر، مسكون بروائح البشر وخطى الإنسان، لذلك أحيانا يتراءى المكان في الديوان كعلامة أو أيقونة، لم يزل ظلها قابعا في حركة العناصر والأشياء، وأحيانا أخرى تحنو عليه الذات كراوٍ أو شاهد يرقب حركتها، ويعينها على لملمة جراحها وأسرارها. ويصل المكان إلى ذروته الدرامية والجمالية حين يتماهى مع الصورة، حين يتبادلان معا لعبة الظل والنور، وكأنهما كتلة في لوحة تتعدد فيها الأشكال والألوان والخطوط..
“مرة سهوتُ
فجاء الموتُ في أثري
كانت الأصداء ترهقني
مشرعة على الأفكار وعلامات الأثر
كنت أعبرُ ولا أنتظرُ
أرتفعُ ولا أسقطُ
سهوا بالغت في الغياب”.