(1)
فيلم “بنات اليوم” بالنسبة لى أهم بكثير من كونه فيلما غنائيا قدم فيه عبد الحليم حافظ مجموعة من أروع أغنياته بتلحين عبد الوهاب ( من أهواك الى ظلموه و ياقلبى ياخالى وعقبالك يوم ميلادك)، ولكنه نموذج مبكر وناضج للدراما الرومانسية الإجتماعية التى تخصص فيها تقريبا يوسف عيسى (أحد أهم كتاب السيناريو المصريين المنسيين)، والتى تعاون فيها مع المخرج الراحل الكبير هنرى بركات. أساس الدراما هو تحليل نماذج من أجيال الخمسينات الأكثر انفتاحا وجرأة، بينما تبدو علاقة حب البطلين (عبد الحليم وماجدة) إحدى الخطوط المحورية فقط، هناك تشريح جديد تماما للعلاقة بين الرجل والمرأة فى ظل مجتمع يحاول أن يتغير، الشخصيات مرسومة بعناية لدرجة أنك تظن أنها مأخوذة عن أصل روائى، ربما يكون الفيلم قد ساهم أيضا فى فتح المجال أمام الفيلم الغنائى ( الذى كان يعتمد غالبا على قصة خفيفة وحبكة بسيطة) لتقديم موضوعات تكاد تكون شائكة فى زمنها، وربما يكون هذا الفيلم هو الذى شجع عبد الحليم على تقديم “الوسادة الخالية”، الذى ينتمى أيضا الى اللون الإجتماعى الرومانسى.
بينما تلعب علاقة الحب بين الشاب الرومانسى (عبد الحليم) والفتاة الرومانسية (ماجدة) دور وتد الخيمة التى تحمل الدراما، فإن بقية العلاقات شديدة الأهمية أيضا: هناك أولا العلاقة الجديدة تماما فى زمنها بين الأب (سراج منير) وبناته الثلاث، ليس فقط فى التعامل معهن، ولكن فى معالجة مشاكلهن، وهناك علاقة أحمد رمزى (نصف الرومانسى نصف الشهوانى) مع كاريمان (الفتاة اللعوب التى تذهب بحريتها الى النهاية)، وهناك نموذج الفتاة السطحية قليلة الخبرة آمال فريد فى علاقتها المرتبكة مع خالد (عبد الحليم)، وهناك علاقة الأختين معا، ونتيجة ارتباطهما بشخص واحد، ليس معتادا أن يكون الفيلم الغنائى بمثل هذا الثراء الدرامى، نجح هنرى بركات كالمعتاد فى إدارة ممثليه، منح الفيلم طابعا حميما وبسيطا ومؤثرا، علاقات الفيلم ربما كانت تستأهل نهاية مفتوحة، ولكن السينما الغنائية تغلبت فى النهاية،ومع ذلك فقد وصلت الى المتفرج جرأة التناول، وبعد أن ولدت شخصيات مختلفة عما اعتادت أن تقدمه السينما، كما إنها وصلت على جناح وصوت أكبر وكالة للنشروالإذاعة فى العالم العربى : عبد الحليم حافظ.
(2)
“آيس كريم فى جليم” فيلم جيد ومتميز فى رأيى مع بعض الملاحظات، عمل مختلف، وفيه بصمة خاصة، الأغنيات أيضا لها شكل وطعم ولون (انا حر، ح اتمرد ع الوضع الحالى، رصيف نمرة خمسة،يا دانة، بس انت تغنى واحنا معاك)، فيلم عن جيل جديد آخر يريد أن يتحقق فى بداية التسعينات متحديا بدايات الركود والملل والعادى فى عصر حسنى مبارك، هناك مشاهد جيدة جدا بالذات فى علاقة الشاب سيف (عمرو دياب) مع المغنى الضائع زرياب ( على حسنين فى أحد أجمل أدواره)، ليس فى الفيلم صعود أو نجاح كامل لهذا الجيل الجديد على طريقة الأفلام الغنائية القديمة، ولكن هناك محاولة لانتزاع الفرصة بالغناء سواء على محطة المترو أو على الشاطئ، سيف سينتقل من كشك مغلق فى شارع 9 الى الفضاء المفتوح، يستخدم المخرج عدسة واسعة تجعل الكشك أقرب الى العالم الواسع، فكرة انتزاع الميكروفون ستتحقق بشكل أقوى واعمق فيما بعد فى فيلم “ميكروفون”، ولكن يظل “آيس كريم فى جليم” من أهم الأفلام التى رصدت بداية تمرد جيل بأكمله، وأدانت المحاولات المضادة لإحباط وقتل المواهب، هناك سحر خاص وحالة مدهشة صنعها خيرى بشارة، وهناك طموح فى تحقيق ما يقترب من الأفلام الميوزيكال الأمريكية (أغنيات كبديل عن الحوارات مثل أغنية سيمون فى بيتها وهى تقلد مادونا، وأغنية لجيهان فاضل تعبيرا عن حيرتها فى الإختيار بين اثنين يعشقونها، أو أغنية حسين الإمام “افهم فنون اللعب وما تبقاش غبى”) ولدينا أيضا صورة رائعة صنعها طارق التلمسانى، المشكلة الواضحة فى بعض الحوارات المباشرة التى لم يستطع أن يتخلص منها مدحت العدل، ولكنه عوضها بالأغانى الجميلة.
شاهدت الفيلم وقت عرضه فى سينما ريفولى، فى أول مشاهدة لم أسمع شيئا لأن جمهور عمرو دياب كان يصفق وقوفا عندما يغنى، وكلهم دون سن العشرين، أعجبنى هذا التجاوب، كنت سعيدا بحالة البهجة فى الصالة، ولكنى لم أستطع التركيز، فى المرة الثانية التى شاهدت فيها الفيلم كان الأمر أفضل، وخصوصا عندما بدأ الجمهور ينتبه الى أغنيات عبد الحليم الوطنية، وعندما بدأ يتفاعل مع المشاهد التسجيلية التى دمجها خيرى بشارة فى الفيلم، لن أنسى فى المرتين حفاوة الجمهور وتصفيقه مع ظهور ممثلين كانا وقتها فى خطواتهما الأولى : أشرف عبد الباقى فى دور الشاعر السياسى الشاب، والراحل الموهوب علاء ولى الدين الذى ظهر فى مشاهد معدودة أثار فيها الضحك، شهد الفيلم أيضا مولد جيهان فاضل التى لم تحقق حتى الآن ما يعادل موهبتها الكبيرة، أما المرة الثالثة اللى شاهدت فيها الفيلم فكانت بأمر أختى التى لا أستطيع أن أرفض لها أى طلب بدخول الفيلم الذى تختاره، كانت من جمهور عمرو دياب، فشاهدتُ الفيلم معها للمرة الثالثة، لم أجد تكرار المشاهدة مزعجا بأى حال من الأحوال .
يكفى “آيس كريم فى جليم” أنه قدم شكلا مغايرا للفيلم الغنائى، يكفيه تلك الروح المتفائلة التى تصل إليك مع كلمات أغنية النهاية :” آيس كريم فى ديسمبر/ آيس كريم فى جليم/ الناس حاسين بالبرد/ وفى قلبنا شم نسيم”، أغنية متحدية وجميلة، وجيل جديد يعلو صوته بالغناء يريد أن ينتزع الإعتراف: ” لوشمس الدنيا دى غابت/ أنا شمسى تشق الغيم”.
(3)
تبدو موهبة محمد رضا الكبرى فى قدرته على أن يقدم تنويعة خاصة به لشخصية ابن البلد الظريف بعد أن انطبعت فى الأذهان بصورة وهيئة وأداء باذخ الموهبة والحضور عبد الفتاح القصرى، المعلم بأداء محمد رضا أصبح أكثر ضخامة، لديه أيضا نفس التلاعب واللفظى الذى يظهر الجهل والكثير من التعالم والإدعاء، هناك أيضا الكثير من “التطجين” واللخبطة أثناء الحديث، ولكن رضا أضاف لمسة خاصة تتمثل فى تحويل المعلم الى طفل كبير، كلمة ترضيه وكلمة تغضبه، لديه أيضا ضعفه الواضح تجاه الجنس اللطيف، ليس سهلا أن تصنع شيئا مختلفا عن القصرى، ولكن رضا نجح فى ذلك، وكوّن ثنائيا مع هدى سلطان، ومع نبيلة السيد، معّلم مختلف مثل طفل كبير.
قبل عبد الفتاح القصرى كان هناك من لعب دور المعلم الظريف: محمد عبد القدوس، والد إحسان عبد القدوس، ابتكر شخصية المعلم كُندُس، وفوزى الجزايرلى لعب شخصية المعلم بحبح، كان هناك بالمقابل المعلم الشرير بأداء المشخصاتية عبد العزيز خليل ومحمود المليجى وزكى رستم ومحمود إسماعيل، ولكن عبد الفتاح القصرى هو الذى أكمل ملامح شخصية المعلم ابن البلد الظريف، رسمها شكلا ومضمونا، من المشية الى طريقة الكلام، وجعل لها شعبية جارفة، ثم جاء محمد رضا الذى استهلكها تماما، بعده كانت هناك محاولات طفيفة من ممثلين آخرين مثل على الشريف وإبراهيم عبد الرازق وسيد عبد الكريم .. الخ، ولكن ببريق أقل، من الواضح أن الشخصية نفسها تراجعت فى المجتمع فتوارت عن الشاشة مؤقتا فى انتظار موهبة استثنائية تقدمها فى شكل جديد .
(4)
فيلم “الساحر”، آخر أفلام رضوان الكاشف، هو أحد أبرز ما أطلقت عليه أفلام الواقعية المتفائلة، لا تغفل تلك الأفلام تفاصيل التفاصيل عن معاناة شخصياتها المهمشة، ولكنها تبرز بروح ساخرة قدرة هؤلاء الغلابة على التكيف، والتحايل على المعايش، بل والسخرية من تلك الظروف، وتنتهى هذه الأفلام عادة نهاية متفائلة، بطل الساحر (محمود عبد العزيز فى ثانى أفضل أدواره السينمائية بعد الكيت كات الذى كان من نماذج الواقعية المتفائلة المبكرة)، لا ينشر فقط البهجة فى كل مكان رغم ظروفه الصعبة، ولكن اسمه نفسه “منصور بهجت”.. الفيلم يحمل أيضا عنوانا فرعيا هاما للغاية هو “نظرية البهجة”، أى أن الفيلم بأكمله عن جيل المهمشين لكى يغلفوا معاناتهم بالبهجة وبالكوميديا السوداء. منصور ساحر شعبى، ولكن سحره الأكبر فى أنه ما زال قادرا على أن يعيش ويضحك، النماذج التى تعيش حوله يمتهنون أشغالا منقرضة مثل صاحب الكارو الذى يمتلك حصانا هزيلا (محمد يوسف)، وشوقية ( سلوى خطاب) القادمة من عصر منقرض لإعداد العرائس، لكن الصراع المحورى يبدأ فى الفيلم مع اصطدام طبقة المهمشين بطبقة المرتاحين، جميل راتب مليونير يعانى من الفراغ، لديه ايضا همومه الصغيرة، كانت لى ملاحظة اساسية على سيناريو سامى السيوى، إنها العلاقة العنيفة بين منصور بهجت وابنته الصغيرة والجميلة التى يخاف عليها (منة شلبى فى أول أدوارها)، يمكن أن يتعامل الآباء فى تلك الفئات الفقيرة بهذه الدرجة من الغيرة والتضييق على بناتهن الجميلات، ولكن حل هذه المعضلة جاهز، وهوإعطاء الفتاة لأول عريس، إزاحة المسؤولية بطريقة شرعية، ولكن السيناريو احتفظ بغيرة الأب على ابنته، ورفضه فى نفس الوقت لزواجها من شاب فى مستواها (سرى النجار)، وهو تناقض صارخ وغير مفهوم، المهمشون لايملكون ترف الرفض كما رأينا فى الفيلم، وخصوصا أن الأب سيعود فى النهاية للموافقة على الشاب بنفس الدافع، وهو “تستير” أبنته الجميلة، التى تعرضت لإغواء الشاب الغنى.
الفيلم مع ذلك يمتلئ بالإيجابيات أولها فى رأيى الرسم البارع لشخصيات المهمشين، بما فى ذلك الصياد الفقير الذى فشل فى أداء واجباته الزوجية، هناك أيضا الروح الساخرة والمواقف الكوميدية الجيدة ا مثل ارتداء منصور بهجت/ بهجة لبدلة ضابط للمشاركة فى فرح لأحد السلفيين، ومنها دخول منصور وشوقية لصالة السينما، ليكتشف وجود الحارة تقريبا بداخلهأ، ويضطر الى قراءة فاتحة ابنته فى السينما) ، هناك كذلك لحظات شجن لامعة أبرزها فى مشاهد منصور مع شوقية البائسة التى أرادت الإنتقام من طليقها بشراء سكين لقتله،، توزيع الأدوار عموما كان رائعا مثلما هو الحال فى أفلام الكاشف الروائية الثلاثة كلها، حتى الأغنية وظفت بشكل جيد، الأغنية مزيج من العالمين ، عالم بهجت وعالم الناس المودرن، وهى فى رأيى تعبر عن هذا التنافر المقصود، هما عالمان لن يلتقيا أبدا، وهذا ما يحدث بالفعل ، الأغنية فيها عنصر تلفيق أظن أنه مقصود ، شكل مودرن وكلام شعبى …
(5)
يمثل فيلم “سهر الليالى” الذى أخرجه هانى خليفة، محطة هامة جدا فى مسيرة الأجيال الأحدث من صناع السينما، وخصوصا بعد ثورة المضحكين الجدد، التى قفزت بالأفلام الى خانة الملايين سواء من حيث تكلفة الإنتاج، أو أجور الممثلين، أو الإيرادات، والتى فتحت المجال لكثير من الأفلام الأولى لمخرجيها، بعضهم استمر، وكثيرون ذهبوا الى دائرة النسيان، حقق “سهر الليالى” بنجاحه الفنى والجماهيرى اللافت ما يشبه الصدمة، الشركة المنتجة ترددت طويلا فى عرضه، كانت الساحة محتكرة إما بأفلام الضحك (لا نقول الكوميديا وهى دراما أكثر تعقيدا من مجرد الإضحاك)، أو بأفلام الأكشن (أحمد السقا بالتحديد)، ولكن “سهر الليالى” دراما اجتماعية تدور فى عالم تركته السينما منذ سنوات ثم استعادته من جديد بلمسة رومانتيكية واضحة، أعنى بذلك أن تامر حبيب يختار شخصياته من نفس الطبقة المخملية المرتاحة التى تناولتها قصص إحسان عبد القدوس (عندما شاهدت الأفيش لأول مرة أمام سينما مترو قبل نزول الفيلم تصورت أنه إعلان عن ديفيليه/ عرض أزياء)، ولكنه يغلّف الأحداث بإطار رومانسى، مجرد حكايات حب متعثرة، الشخوص مرسومة بدقة وبراعة، كل النماذج عاطفية، ربما يكون تامر هو أكثر مؤلف قدّم الرجال وهم يبكون أمام الكاميرا بسبب الحب، ولكن “سهر الليالى”، فيلمه الأنضج والأفضل، يتجاوز ذلك الى انتقاد موسسة الزواج نفسها، يراها عقدا مشتركا يستمر أحيانا تحت ستار الخداع والغش، فى المشهد الأخير، يرقص الجميع على أغنية “ياسهر الليالى” ، ولكنهم يمارسون أيضا ما تعودوا عليه، حتى الوحيد الذى احتفظ بعزوبيته، ثم تزوج أخيرا وهو سامح/ شريف منير، يلقونه فى الهواء، ليصبح معلقا مثلهم بين السماء والأرض، السخرية هنا من مؤسسة الزواج التى لا تغير أصحابها، ولا تجعلهم أكثر نضجا، هذه إحدى أكثر مناطق “سهر الليالى” جرأة فى مجتمع يجعل من الزواج مشروعه القومى الوحيد.
بسبب قوة أداء ممثلى الفيلم الشباب (بلا استثناء مضافة إليهم انتصار فى دور هام)، فإنك لن تشعر بطول الحوار، هانى خليفة نجح فى تقديم مشاهد مميزة للغاية، من الواضح أن كل ممثل وممثلة أحب دوره، ربما كان الدور الأصعب من نصيب جيهان فاضل التى قدمت أفضل أدوارها على الإطلاق، من العناصر الرفيعة صورة أحمد عبد العزيز وموسيقى هشام نزيه، قدم تامر حبيب بعد هذا الفيلم، عملا ظريفا من أفلام الكوميديا الرومانسية هو “حُب البنات”، وعملا سيئا للغاية زادت فيه جرعة البكاء والنحيب هو ” عن العشق والهوى” الذى لم يكن سوى فيلما عن البكاء ومناديل الكلينكس، وقدم بعدها فيلما يمزج بين الرومانسية والكوميديا والأكشن هو ” تيمور وشفيقة”، ثم فيلما بعنوان “واحد صحيح” الذى يدور أيضا فى نفس العالم المخملى، كانت المشكلة هذه المرة فى ظهور منافس قوى لهذه الأعمال، وهو المسلسلات التركية التى تقدم نفس الحكايات، ولكن فى التليفزيون، يبدو أن تامر اكتشف ذلك، فانتقل بشخصياته الى الشاشة الصغيرة.
(6)
عن قصة لنجيب محفوظ، يقدم عاطف الطيب أحد أفضل وأهم أفلامه :” الحب فوق هضبة الهرم”. ينطلق السيناريو الذى كتبه مصطفى محرم من أزمة على (أحمد زكى) ورجاء (آثار الحكيم) ليحكى عن جيل بأكمله أصبح زائدا عن الحاجة، لا يستطيع التحقق على أى مستوى من المستويات، لا على المستوى الوظيفى ولا العاطفى ولا السياسى ولا حتى البيولوجى، الحد الأدنى من الحياة أصبح نوعا من الترف، حتى عندما يختلس الجيل حقوقه، تداهمه السلطة، يصبح “الحق فعلا فاضحا فى الطريق العام”، يبدأ الفيلم بحلم للشاب على: نراه يطارد الفتيات بنظراته، سيدة تدعوه لركوب السيارة، يقول لها إنه لم يلمس امرأة فى حياته، يحتضنها، نسمع صوت الأم وهى توقظه، أسفل مياه الدش التى يستقبلها على، تنزل العناوين على موسيقى هانى مهنى المثيرة للشجن، وينتهى الفيلم وقد تحول حلم البداية الى كابوس : شرطة الآداب تقبض على رجاء وعلى أسفل الهرم ، رمز الحضارة الغاربة، أيام كان هناك وطن وأسرة، لا يكتفى عاطف الطيب بذلك، نشاهد الهرم خلف القضبان من وجهة نظر على، الوطن بأكمله سجين رغبات مكبوتة لا تتحقق.
يدين الفيلم والقصة معا جيل الآباء، يعتبرهم مسؤولين عن تعاطى الوهم وترويجه حتى استيقظ الجيل الجديد على مأساة، هناك نموذج الكاتب (صلاح نظمى ) الذى يثور عليه على ، وهناك تعقيدات أسرة رجاء فى عملية زواج ابنتهم، كان من السهل لشخصية مثل على أن تحقق نفسها بالإنضمام الى جماعة دينية، ولكنه لم يستطع أن يبتعد عن الحياة، الثنائى زكى وآثار كانا رائعين، ورغم أن أحمد زكى أكبر سنا من الشخصية، إلا أن براعته فى تقديم التفاصيل، وإحساسه المذهل، جعلاه يبدو أحيانا أصغر من آثار الحكيم، كاميرا سعيد شيمى قدمت الحياة بملمسها وألوانها الباهتة، الكاميرا المحمولة أعطت الفيلم مظهرا وثائقيا، استقبل الفيلم بحفاوة مستحقة، وعرض فى أحد أقسام مهرجان كان، ذهب يوسف شاهين لتحية مساعده القديم عاطف الطيب، وصل الى الخواجات المعنى الأهم: هذا مجتمع لا يتحقق فيه البشر، وتشهد حضارته على خيبة الأحفاد، لم يناقش فيلم الفكرة بهذه الجرأة والبساطة والعمق مثلما فعل “الحب فوق هضبة الهرم”، ستمر سنوات طويلة قبل أن تعود فكرة الكبت الجنسى كمعادل درامى لفكرة عدم التحقق بكل مستوياته، ربما يكونون أبناء على ورجاء، وذلك فى فيلم أكثر مرحا وأقل قتامة وأكثر جرأة .. أعنى بذلك فيلم ” فيلم ثقافى” لمحمد أمين.
(7)
طفل كبير له ضحكة تستدعى كل مخزون البهجة. هذا هو حسن فايق فى كلمات قليلة، التناقض الواضح بين الهيئة المهيبة، وروح الطفل الغاضب، هو الذى يجعلنا نضحك عندما نراه، موهبة فطرية وحضور خارق، لا يمكن أن تكرهه أبداً حتى فى أدواره الشريرة القليلة، بدأ حياته كمونولوجست، اشتهر له مونولوج عن الكوكايين وأضراره، لابد أنه كان خفيف الظل جدا، يكفى أن يخرج على الناس بملامح وجهه الكاريكاتورية، جاء الى السينما ناضجا مثل كل جيله، بعد أن اشترك فى أكثر من فرقة مسرحية، أشهرها فرقة الريحانى، احتكر تقريبا أدوار الأب أو الجد العصبى، صاحب القلب الطيب، إذا تجسدت الضحكة إنساناً فإنها ستكون بالتأكيد حسن فايق.
(8)
هناك نوع من الممثلين يجب ألا يتدخل المخرج فى أدائه، لابد أن يترك له حرية الحركة بل والإرتجال، من هؤلاء زينات صدقى، التى أجبرت المخرجين والمؤلفين على أن يكتبوا لها أدوارا كوميدية، رغم أنها كانت تقدم أدوارا جادة فى بدايتها، ورغم أنها بدأت حياتها كراقصة وليس كممثلة.
زينات هى خلاصة بنت الحارة المصرية التى تعوض قلة جمالها بلسان لا يتوقف عن الكلام، لاحط كيف تستخدم كل جزء من وجهها، وليس من جسدها فقط: حركة الحاجب، حركة الفم يمينا ويسارا، حركة اليد الى أعلى الجبهة، ثم استمع الى الإيقاع الذى تصنعه للعبارات، متى تتوقف فى فاصل صمت، ومتى تلقى العبارات وراء بعضها وكأنها تلقى قصيدة عصماء، سبقتها الممثلة المكلبظة خفيفة الظل إحسان الجزايرلى فى دور بنت البلد الظريفة والجدعة، ولكن زينات انفردت بأداء دور العانس أو الباحثة عن عريس، مما أكسبها لمسة إنسانية إضافية، الاثنتان إحسان وزينات كن من المرتجلات، تضفن الى الحوار، الأولى سمينة والثانية نحيفة، قرر كتّاب الأفلام أن يكتبوا لها مشاهد خاصة تتسم بالسجع (شرّب نفسك/ وكّل نفسك/ إدفع أجرة بيت نفسك)، زينات بالتحديد كانت تختار ملابسها وقبعاتها وإكسسواراتها الغريبة، لايمكن أن تتصور أن يكون سيناريو شارع الحب أو ابن حميدو قد كتب دون تخيّل زينات مسبقا، يقول أحمد رمزى إن أول مشهد له فى السينما كان أمام زينات صدقى فى فيلم “أيامنا الحلوة”، كان يطلب منها فقط أن تخيط زرار قميصه، ففوجئ بها تخطفه منه قائلة: “هات يا منيّل” ..فسقط من الضحك، وباظ المشهد.. يروى أنها عندما التقت السادات ( وكان ومن أشد المعجبين بها) فى فرح ابنته فى السبعينات، تكعبلت قدمها، وكادت تسقط، فقالت لمن خلفها على البديهة: “كدة يا ولية.. كنتى ح توقعينى ع الجدع”، فأطلق السادات ضحكته المجلجلة المعروفة. تأثرت بأداء زينات الذى يعتمد على تلقائية اللحظة ممثلات بعدها أشهرهن وداد حمدى ونعيمة الصغير، أعتقد أيضا أنهن كن من المرتجلات مثلها. فى مقاطع الإلقاء العادية، التى تبتعد عن النبرة العالية التى اشتهرت بها، هنا فقط يمكن أن تلمس حزنا دفينا فى صوتها، ثم سرعان ما تنساه، تنطلق فى عرضها المنفرد، لتجعل من إيقاع الردح الشعبى، فنا ووسيلة للتعبير، ولكن وراء الكلمات قلب أبيض من البفتة، وإنسانة غلبانة تريد أن تعيش، إنها تؤمن فقط بالمثل القائل:” إلحقوهم بالصوت قبل ما يغلبوكم”.
(9)
فيلم “ليل وقضبان” فى رأيى هو أحد أفضل أفلام السبعينات، أى أننا لو سنختار 10 أفلام من هذه الحقبة فسيكون من بينها هذا الفيلم، هو أيضا أفضل أفلام المخرج الراحل أشرف فهمى على الإطلاق. “ليل وقضبان” المأخوذ عن رواية لنجيب الكيلانى عمل نموذجى للدراما الإجتماعية السياسية، موضوعه القهر بتنويعتين فى مكانين: سجن صريح يعتقل ويعذب فيه بدنيا شاب سجن ظلما (قضية سياسية بالتأكيد) ويلعب دوره محمود ياسين، وسجنٌ مجازىٌ هو بيت تعانى فيه نفسيا امرأة شابة من الحرمان والإهمال (سميرة أحمد)، والسجان فى المكانين واحد، مأمور السجن الشرس هو نفسه زوج المرأة ( القدير محمود مرسى فى أحد أعظم أدواره)، يشتبك الخطان فى سيناريو مصطفى محرم البارع الذى لا يهمل الدراسة النفسية لشخصياته، والذى يتابع علاقة المأمور المعقدة بتابعه الخانع (توفيق الدقن فى دور لا ينسى)، وعلاقته مع زوجة وحيدة، وصولا الى نهاية قاسية ودموية. تراجيديا جيدة الصنع، مع فريق تشخيص استثنائى (ربما كان دور الزوجة فى حاجة لممثلة أصغر قليلا من سميرة أحمد رغم أنها تألقت واجتهدت كثيرا فى أداء دور صعب ومركب)، وهناك أيضا فريق تقنى كبير، صورة مصطفى إمام بالأبيض والأسود حيث يتحدد الصراع بصرامة بين الشر والخير، وبين القاهر والمقهور، وحيث العلاقات حدّية، وتكوينات مدهشة يجب تدريسها فى معاهد السينما سواء فى استخدام إطارات النوافذ أو فى مساحات الظلام التى تكتسح النور ليشعر المتفرج أيضا بأنه مسجون ومحاصر ومقهور، وانتقالات سلسة وذكية سواء بين المشاهد أو فى تركيب اللقطات فى مشاهد قوية دراميا (منها مثلا مشهد المواجهة بين المأمور وتابعه توفيق الدقن الذى يتشفى باكتشاف خيانة زوجة المأمور) من خلال مونتاج أحمد متولى، وهناك بالطبع موسيقى فؤاد الظاهرى ذات الطابع الملحمى، والتى تصنع من المواقف مأساة إنسانية كاملة.
لا يمكن أن نفصل الفيلم عن فترة الإضطرابات السياسية التى سبقت حرب أكتوبر، مظاهرات الطلبة الشهيرة، حالة من القلق والتوتر العام بسبب تأخر المعركة، فكرة الحرية التى طرحت بقوة بعد هزيمة 1967، فى كل الأحوال، نحن أمام فيلم منحاز للإنسان، يدين القهر بوضوح، ربما لم يتم التوسع فى الطرح السياسى، ولكنه بالتأكيد عمل جسور فى عصره، وأعتقد أن معناه قد وصل كاملا فى وقت عرضه.
أما مؤلف القصة الأصلية للفيلم والتى عنوانها “ليل العبيد”، فسيدهشكم أنه أديب إخوانى ، نجيب الكيلانى طبيب انتمى للإخوان وسجن وعذب فى عهد عبد الناصر، سافر الى الإمارات ثم عاد الى مصر وتوفى عام 1995، “ليل العبيد” المأخوذ عنها الفيلم أصبحت أشهر أعماله بعد أن قدمتها السينما فى فيلم ناجح وشهير، ولديه روايات كثيرة أخرى جعلته رائدا لما يطلقون عليه الأدب الإسلامى ، عموما فكرة القهر لا تختص بفصيل سياسى معين، والدراما القوية أفضل من الخطب والمظاهرات.
قدم الفيلم مزيجا رائعا بين جيلين من الممثلين : محمود مرسى وتوفيق الدقن مع محمود ياسين والوجه الجديد مجدى وهبة، يقول محمود ياسين إنه ذهل من وجود ممثل عملاق مصرى اسمه محمود مرسى، وشعر بالفخر لأنه وقف ذات يوم الى جواره، إشعاع مرسى خارق، مجرد حضوره الجسدى والبدنى يملأ الصورة، بل إنه عندما يختفى يظل حاضرا كطيف مخيف فى لقاءات الشاب مع زوجته، أضاء الشاب حياة الزوجة المظلمة، ولكنه دفع فى النهاية ثمن النور وضريبة الحلم بالحرية.
(10)
رغم أنه ليس أول فيلم أنتج عن الجاسوسية، فقد سبقته أفلام كثيرة مثل “الجاسوس” و”جريمة فى الحى الهادئ” فى الستينات إلا أن “الصعود الى الهاوية” ما زال هو الأفضل حتى ساعة تاريخه، يرجع ذلك فى رأيى الى التوازن الدقيق الذى حققه السيناريو والمخرج كمال الشيخ بين الخط التشويقى، وخط التحليل الإجتماعى والنفسى لشخصية عبلة كلمل، وهى المعادل السينمائى لشخصية هبة سليم، إحدى أخطر وأعجب العميلات المصريات، فالشائع أن تكون الجاسوسة فقيرة، ولكن هبة كانت من أسرة ثرية، ومحيط معارفها فى نادى الجزيرة، كما أنها شخصية مثقفة ومستقلة، أقنعت والدها بأن تستكمل تعليمها فى باريس فى نهاية الستينات، وبدا كما لو أنها مقتنعة تماما بما تفعل، أفضل ما فعله الفيلم أنه قدمها كنموذج حى من لحم ودم، هى مثلا تكره كل الرجال، ولكن نقطة ضعفها رجل أيضا وهو والدها، كما قدمت شخصية خطيبها أيضا بطريقة درامية مكتملة، رجل أعماه حبه لعبلة عن واجبه، وقال فى التحقيقات إنه لم يكن يشعر بخطورة ما يفعل ( إبراهيم خان فى أفضل أدواره، والشخصية الأصلية اسمها المقدم فاروق الفقى وكان مديرا لمكتب نبيل شكرى قائد الصاعقة)، وكان اختيار محمود ياسين لدور رجل المخابرات موفقا للغاية بحضوره المكتسح صوتا وصورة ( فى الأصل هو رجل المخابرات المصرى الشهير جدا رفعت جبريل الذى حمل لقب الثعلب، وقدم نور الشريف شخصيته فى مسلسل بنفس الاسم).
انطلقت كاميرا رمسيس مرزوق لتقدم باريس بوصفها الجنة والجحيم الأرضى معا، ورغم الإنتقال بين القاهرة وباريس وتونس، إلا أن إيقاع الفيلم متماسك وشديد الحيوية، نجاح الفيلم الجماهيرى الساحق فتح المجال أمام أفلمة وتقديم مسلسلات عن الجاسوسية فى السينما والتليفزيون، كما فتح مجال البطولات أمام مديحة كامل، بعد ان كانت تلعب أدوارا مساعدة فى أفلام مصرية ولبنانية متفاوتة المستوى، عرض الدور أولا على سعاد حسنى، ولكنها خافت من كراهية الجمهور للشخصية، وخصوصا أن القصة كانت معروفة وحيّة (كان إعدام هبة سليم عام 1974، وظهر الفيلم بعد ذلك بأربع سنوات فقط) الحقيقة أن معلومات هبة سليم كانت سببا فى استشهاد الكثيرين أثناء بناء حائط الصواريخ الشهير.
`ذكرى شخصية أخيرة: فى العام 2000 تقريبا، التقيت بالمصادفة سفيرا مصريا سابقا، كان قد ترك السلك الدبلوماسى منذ سنوات، وتفرغ لممارسة هواية الرسم والتصوير، وإقامة معارض فنية للوحاته وصوره، أخذنا الكلام الى حياته الدبلوماسية، فأخبرنى أنه الدبلوماسى المصرى الشاب الذى لعب الدور الأكبر فى سفارة باريس لاستدراج هبة سليم لكى تذهب الى ليبيا حيث يعالج والدها، وليس الى تونس كما ظهر فى الفيلم، قال إنها لم تكن صارخة الجمال، ولكنها كانت شديدة الجاذبية، مثقفة وقوية الشخصية وحادة الذكاء، لم تصدق أبدا أن والدها يحتاجها فى ليبيا، وقررت أن يذهب هو الى باريس حيث الرعاية الصحية أفضل، غنى عن البيان طبعا أن بعض الدبلوماسيين يكلفون بمهام مخابراتية فى كل سفارات العالم، ألححت عليه أن يكتب بعد استئذان المخابرات، فقال إنه سيفعل ولكن فى الوقت المناسب. حتى الآن لم يفعل رغم أنه أصدر عدة كتب عن حياته الدبلوماسية.