«الدولة» التي تأسست قبل أكثر من 5100 عام ولم تتغير حدودها صارت دينا، هي «الدين» بالألف واللام. عصمها «الدين» من خطر التفكك، فظلت متماسكة، تحتفظ بالحد الأدني لمعنى «الدولة»، أيا كانت دموية الغازي القادم عبر الحدود، أو خسة الخائن الذي يمهد له الطريق.
مصر «الدولة» أكبر من حاكمها وأبقى، ولأنها كذلك فلا يصيبها صداع بسبب انتقاد الحاكم، ولا تسعى للانتقام، لأنها كبيرة، والكبير يتقن اختيار أعدائه. في العالم العربي محميات ترتعب من قصيدة تنتقد شيخا في القصر أو في القبر، ولا تتردد قوانينها في الذهاب بالشعراء ـ الذين يتبعهم الغاوون ـ إلى السجون، أو المنافي بعد سحب الجنسية. وفي الوقت نفسه يستقوي على مصر مستشرقون عرب، على طريقة الروسي القديم، أيام خروتشوف، حين استعرض شجاعته برفع صوته أمام الكرملين، وهو يشتم الرئيس الأمريكي.
صلاح عبد الصبور كتب عام 1954 قصيدة «عودة ذي الوجه الكئيب» عن جمال عبد الناصر شخصيا، ولم يتردد نجيب محفوظ في إدانة عبد الناصر الذي رفض فكرة منع نشر «أولاد حارتنا»، و«ثرثرة فوق النيل»، وعرض «ميرامار» و«شيء من الخوف». وبعد هزيمة 1967 كتب أحمد فؤاد نجم قصيدته اللاذعة «الحمد لله خبطنا» يهجو عبد الناصر، وختمها بقوله: «وإن شا الله يخربها مداين عبد الجبار». أما نجيب سرور فسخر في «الأميات» من عبد الناصر، وضحك قائلا إنه: «قرأها، وقال: سافل وابن كلب، بس دمه خفيف!». انتقدوا ولم تذهب بهم كتاباتهم إلى السجون؛ فمصر «الدولة» أكبر من حاكمها وأبقى.
مصر كبيرة، «دولة العميقة»، وقد ابتذل المصطلح كأنه يخص دولة مبارك. المعنى أكبر من ذلك وأعمق، هي دولة لها قوانين بيروقراطية تزيد على 4700 عام، لوائح أكبر من الحاكم نفسه. طلب أنور السادات الملف الخاص بمصطفى أمين، وكان ينفذ حكما بالسجن المؤبد، بعد اتهامه في قضية تجسس عام 1965، وجيء له بصورة من الملف، فقال لرئيس جهاز المخابرات العامة: «أريد الملف الأصلي، لا نسخة منه». فرد عليه ببضع كلمات: «يا أفندم، الجماعة في الجهاز يقولون إنه هذا ممنوع». انتهى الحوار، وانتصر القانون على الرئيس. في زيارة مناحيم بيجن لمصر طلب زيارة قاعدة عسكرية بحرية، ولكن قائد القاعدة رفض، وقال للسادات: «ممنوع يا أفندم، هل سمحوا لسيادتك هناك بزيارة قاعدة عسكرية بحرية إسرائيلية؟»، واحترم السادات لوائح «الدولة». ومن القصص الطريفة أيضا أن السادات كان يحب الشيخ سيد النقشبندي، وهو صاحب الفضل في ابتهال: «مولاي إني ببابك قد بسطت يدي، من لي ألوذ به إلاك يا سندي» الذي لحنه بليغ حمدي، وأراد السادات اعتماد الشيخ النقشبندي قارئا للقرآن، ولكن لجنة الاستماع في الإذاعة أخبرته أن الرجل مبتهل وليس قارئا، وأمام إلحاح السادات قالوا له: «اعتمده يا أفندم بقرار جمهوري»!
مصر كبيرة، وفي أسوأ أحوالها تبسط يديها ويتسع حضنها حتى لغير أبنائها، فيصيرون أكثر وفاء وانتماء. جرجي زيدان، مؤسس «الهلال»، استوعبت مصر طاقته وموهبته في ظروف مشابهة لما تمر به الآن. في عام 1883 كانت مصر جريحة، مضى أشهر على الاحتلال البريطاني، ورائحة البارود تذكر بهزائم وخيانات، وشهداء في مقدمتهم محمد عبيد، قضوا بعد أن صهرت جلودَهم سخونة المدافع. لا تنسى مصر أن لها دورا، وأنها كبيرة. كانت بلاد الشام، تحت الاحتلال العثماني، قد ضاقت بأمثال جرجي زيدان طالب الطب في بيروت، فادخرت له الأقدار ما هو أفضل، كان ينوي مواصلة الدراسة في مدرسة طب قصر العيني بالقاهرة، بدعوة أو ترحيب من مديرها عيسى باشا حمدي (1844 ـ 1924)، المؤسس الثاني للمدرسة بعد كلوت بك. وصل جرجي زيدان إلى الإسكندرية بعد ثلاثة أشهر من ضرب الأسطول البريطاني لها، وغادر إلى القاهرة.
هل مصر بعيدة؟ ربما تبحث الآن عن وجهة توليها، ولكنها لا تبعد عن موهوب أو صاحب كرامة، حتى ذلك الشاب الذي لم يمهله القدر ليتخرج في الأزهر، ودفعته الغيرة إلى قتل كليبر قائد الحملة الفرنسية، اتخذ لنفسه مكانة «الشهيد»، وصار سليمان الحلبي ملهما لكتاب المسرح.
في أي وقت، لم تكن مصر بعيدة، ولا متعالية. تأسست «جمعية الهلال الأحمر المصري» عام 1898، على أيدي أعضاء منهم الإمام محمد عبده والخواجة شمعون أربيب وسيدي الحاج محمد الحلو وكيل دولة المغرب الأقصى وأحمد فتحي زغلول رئيس محكمة مصر. أدركت الجمعية أن لها مهام خارج الحدود، وأعيد تأسيسها مرة أخرى عام 1911 على يد الشيخ علي يوسف، بهدف جمع التبرعات لأهالي طرابلس ضحايا الغزو الإيطالي. ورغم إحكام الاحتلال البريطاني السيطرة على الحدود، فقد تنوعت المساعدت وشملت تهريب السلاح والذخائر للمقاومة الليبية. تسلل إليهم عزيز المصري.
مصر كبيرة بالفعل. فيها زحام يمثل «الدولة» ونظام «المدينة»، وفوضى الريف، وفائض من الهموم السياسية والفنون والثقافة والإبداع يشغلها أحيانا عن أدوار هي جزء من مسؤولياتها. يسجل المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة (1907 ـ 2006) عن زيارته للقاهرة عام 1933، أنه رأى «مدينة لأول مرة. القدس ودمشق وحلب وبيروت بدت لي قرى كبيرة جدا بالنسبة إلى هذه المدينة… في القاهرة عرفت معنى المتحف. باختصار بهرتني القاهرة المدينة، وبهرتني القاهرة الجميلة بشوارعها العريضة بقصورها الفخمة بدار الأوبرا… لا يمكنك ـ إذا استثنيت بعض الأحياء البلدية ـ أن تفرق بين السيدة المسلمة والمسيحية».
كانت زيارة نقولا زيادة بعد سنوات اضطراب، تعثرت فيها ثورة 1919، وتنازعها رفاق قدامى، ثم استعان الملكان فؤاد وفاروق بحسن البنا في شق الصف الوطني. لنا الآن أن نتوقف عند دلالة ملاحظة نقولا زيادة، بعد أن زار شيخ العروبة أحمد زكي (1867 ـ 1934): «لم يكن كثيرون من العاملين في مجال الفكر أو حتى في مجال السياسة في مصر، يعرفون ما فيه الكفاية عن قضية فلسطين وما يجري فيها. لكن أحمد زكي باشا ـ شيخ العروبة ـ كان يعرف». (نقولا زيادة: حول العالم في 76 عاما: رحلات مثقف شامي في آسيا وأوروبا والشمال الإفريقي 1916 ـ 1992).
ولكن طه حسين، ولم يكن مشتغلا بالسياسة بل منشغلا بها، نشر في صحيفة «كوكب الشرق»، في 28 أكتوبر 1933 ربما في وقت زيارة نقولا زيادة للقاهرة، مقالا عنوانه «فلسطين». وفي الصحيفة نفسها كتب العميد في 4 مارس 1934، ربما في وقت زيارة نقولا زيادة الأخرى لمصر، مقالا ينتقد تعنت الاحتلال البريطاني، إذ يمنع الفلسطيني أن يدخل بلاده: «فما ينبغي أن يكون الرجل من أهل فلسطين غريبا في مصر وما ينبغي أن يكون الرجل من أهل مصر غريبا في فلسطين».
مصر كبيرة، ولا يكاد قارئ تاريخ مصر يصدق أنها ما زالت تحيا، بعد قرون من الاستعمار والاستنزاف. لا يدرك هذه الحقيقة كثير من أبنائها، بمن فيهم المرضى بالشوفينية. بعد جمعة الغضب 28 يناير 2011 كان العرب، في بلادهم وفي المنافي، يرون جوهر مصر التي يحلمون بها، «مصرهم» القادرة على صنع المستحيل، الناهضة من رماد الموت. قالوا إنهم لن يتحرروا من الاستبداد المحلي، ومن الاستعمار الصهيوني، إلا بعد نجاح الثورة في ميدان التحرير.
كانوا على حق، ولا يزالون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افتتاحية “الهلال” / أكتوبر 2014