أحسست وأنا أدفع الدخان مباشرة من أنفه دون بلعه بطعم غريب وحريف في أعلىأنفي وحلقي. كنت منذ سنوات طويلة قد اعتدت على ابتلاع الدخان واليوم أشعر كأننس أدخن لأول مرة، وتذكرت أيام المدرسة حين كنت صغيراً، واعتقدت أن التقنية هي مجرد أداة أو واسطة ستجرف لي بعد ذلك سيلاً من ذكريات كثيرة مثل مع من من الأخدان كنت أدخن، من منا فعل مثل الكبار وأخذ يتحدث ويضحك والدخان يتدفق ثم ينحبس وينقبض بين فمه وأنف، من منا عرف كيف ينتقي الضوء المناسب حتى تظهر الخيوط الأخيرة الضعيفة من الدخان حين يفقد الآخرون الأمل في رؤيتها وفي أي الأماكن كنا ندخ. في دورات مياه عمومية لها رائحة نفاذة أم تحت أيكة مترفة بغصون أثيثة، أم في شوارع هادئة لها إسفلت صقيل أم في مقاه صاخبة ضاجة أم في دور سينما مظلمة. لكنني لم أتذكر شيئاً ووقفت ذاكرتي على التقنية الأولى ورائحتها وطعمها الحريف القابض في أنفي وحلقي معاً.
ثم قلت بعقل متمرس على الجدل الجاف ـ وهي حيلة ألجأ إليها كثيراً عندما أشعر أن الأمور ستنتهي إلى مشاعر درامية غير محمودة العواقب ـ كيف تكون التقنية بهذا العقم فهي لا تسمح بغير ذاتها كأنها تخدع من يقع في شركها وتعده بأشياء اخرى لكنها لا تفعل في اللحظة الأخيرة فقط.
أم أن التقنية بها شبه من التنطع، والتنطع كما يقولون في قواميس اللغة هو التكلف والتعمق في غير موضعه..
كأن هناك مواضع عميقة بذاتها وطبيعتها وهي الجديرة فقط بالحديث عنها وهي لا تتطلب كثيراً من الجهد بل يكفي أن يمر إنسان بجانبها فيجد كنزاً ثميناً عميقاً فيغرف منه كيف يشاء ومن يعلم قد يصبح أديباً
لكن كيف وأنا أقترب من الثلاثين لم أجد موضعاً واحداً عميقاً أستطيع الحديث عنه..
أم أن المواضع العميقة بذاتها وطبيعتها موجودة في أشياء أخرى غير الإنسان
قلت ما هذا التطير، أنا لم أتجاوز الثلاثين عاماً وأتحدث عن المواضع العميقة.
من أدراني، لعلها تأتي في عمر متأخر وحتى يأتي هذا العمر رجعت إلى ابتلاع الدخان مرة أخرى ورضيت مؤقتا بالعمق الظاهري الملموس والمتعين الذي مفاده أنني أسحب نفساً عميقاً من الدخان داخل صدري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نص من مجموعة “تدريبات على الجملة الاعتراضية”.