قـطـرة…
أنا قطرةُ الخوفِ التي سقطتْ من سرير
وانزلقتْ في ظلام
…
الحياةُ تتعقّبُني مثلَ صقر
وبجدٍّ تصيحُ ورائي:
أنا أبوك!
فلتكُنْ أنتَ أمّي!
كلّمـا…
كُلّما وضعتُ قدَمَيَّ على تُرابِهِ
أوشكَ الطّريقُ- أوشكتْ روحُ الطّريق–
أن تقول
“تريّث! إلى أينَ تمضي؟!”
…
وكلّما عاد الطريقُ- عادتْ روحُ الطريقِ لاهثةً –
ليسَ من تعبٍ
انتصبتْ بأذُنيْنِ ترتعشانِ في غبارِ ريح
تحتَ ظلٍّ بهيئةِ امرأة..
مـَنْ ؟
مَنْ يمشي معي كَتِفاً لكتف،
ويغرقُ مثلي في الطّريق؟
مَنْ يضعُ قدَمَيَّ في ليلٍ وفي نهار
صارخاً:
“أسْرِعْ لنصِل“!
ومع كلِّ هَبَّةِ ريح
يَمدُّ خيالي
فأرى الأفقَ محدودبَ الظهر،
والعالمَ في قاربٍ بعيد
على أملِ البحر..
أحلام…
أفتلكَ أحلامٌ عمياء
رفعتْنا عالياً
في المَهبّ
…
وكطيورٍ تائهة
ها نحن نتقاطعُ طائريْن
أنتِ إلى الأرض البعيدة،
وأنا إلى الأرض الأبعد
…
أهكذا كُتِبَ على الحبّ أن ينشق نصفيْن
ليغرسَ بذرتَهُ الشقيّة،
نصفاً هنا
ونصفاً هناك…
اذكريني…
اذكريني وأنت تذهبين بعيداً، أيّتُها الأيّام…
بعيداً بذرّات حياتي الصغيرة..
اذكري عجينةَ ظلامٍ خرجتْ في نهارٍ قديم، وحين سقطتْ بعثرةِ ضوء
حَمَلَها عاثرُ حظّ
…
اذكري عاثرَ الحظِّ راحلاً إلى الدّموع بعجينة ظلامٍ كئيبة، هائماً على سكَكِ الثعابين في قطارٍ من النيران، باحثاً عن كلمةٍ مناسبةٍ لرجاءٍ صغير
يحملُهُ إلى الله
….
اذكري الرّوحَ الخرساءَ
ترفعُ إصبعاً في الفراغ، وتركضُ خلف ريشة ..
…..
اذكريها وهي تدورُ على بعضها، وتُطفئُ قبلتَها بالتراب،
وهي تدفعُ السّريرَ إلى النوم لتتجرّدَ للأرق في اللّيالي الطويلة،
وهي تتخبّطُ في سلامِ الحروب، وتسرقُ رغيفَها الأسودَ من الجحيم
حيثُ الأفاعي ترفعُ الأبواقَ وتقرعُ الطبول لنشيدِ الحتوف..
ها هو العالمُ، بفرحِهِ العتيق،
كما عهدتِهِ، أيّتها الأيّام،
يجلجلُ بنشيد مجدِهِ، ويحطّمُ كلَّ شيء، حيثُ تسحقينَ، بأقدامِ ساعاتِكِ اللاهية، الوجوهَ والأرواحَ، وتنثرينَ الأوقاتَ، بلا حساب، على المدنِ والمقابر…
…
اذكرينا بهدايا الأشباح
هنا حيثُ نرتعشُ مرّةً أخرى، مثل يماماتٍ تائهاتٍ،
نفتحُ راحاتِنا للمطرِ، ونكلّمُ الأفقَ البعيدَ ليُلهمَنا حكايةً جديدة..
……
اذكرينا
معلّقينَ على حبلِكِ المرتجف في الهواء الصّارخ
نتطلّعُ في الفراغ بأفئدة من تراب
….
ما الذي جئتِ تفعلينَهُ أيّتُها الأيّام؟
ما الذي سترَيْن
غيرَ أشباح هائمين بعجائنِ ظلامٍ تائهات؟
…..
منْ بعثَ بكِ
لتدوري هذه الدّورةَ اللاهثة؟
أ يّةُ قوّة تسكنُ قلبَكِ، أيّتُها الأيّام؟
أيّةُ روحٍ ترفعُ جناحَكِ الخفّاق؟
…
اذكريني وأنت ترفعين نفايتي إلى غابة العدم،
وحين تعودين خفيفةً كالأشباح
من أجل حياةٍ صغيرةٍ لشقيٍّ مثلي
….
اذكريني
وأنت تروحين وتجيئين مخترقة، كالأبد، كلّ شيء…
السّـرير…
كلُّ حياتِنا تحدث على سرير
مرّةً واحدةً وإلى الأبد..
كلُّ شيءٍ، هناك، تحتَ ختمِ اليَقظةِ والنوم، وجدَ روحَهُ القليلةَ، وتشبّث بحياتِهِ بين ضوءٍ وظلام..
ذاكَ الحَيَوانُ المخصيُّ _ السّرير _ المُبقّعُ بغبارِ الأيّام، على ظهرِهِ تتقارعُ الفصولُ وتغتسلُ من الأدران..
الذي، بخفّةِ لسانِ الضفدع، يُطلقُ أوّل الكلماتِ، وآخِرِ الكلمات، وفي فراغٍ بين كلمتيْن تُكلّمُنا حياتُنا ولا نفهمُ شيئاً… مرّةً واحدةً وإلى الأبد..
ليسَ الفزعُ الأسودُ بلْ أُمُّهُ السّوداءُ من يحكي الحكاية المبعثرةَ التي تعبرُ وجوهَنا كُلَّ سرير!
السّرير بروحِهِ الممددة تحتنا
الذي يتغاضى دوماً ولا شيءَ يعنيه…
الوديعُ يحملُكَ على ظهره في الغابة… العدوُّ يقهقهُ وسْطِ الغابة بينما الشوكة في عينك…
الذي يجلب الظلامَ كلّما ضربتْ عينَهُ شوكةُ ضوء.
ماذا يقولُ السّريرُ حين يصرخ؟
السّريرُ القديمُ كعظامِنا القديمة…
أنا الذي لا شأن لي في ذلك الزمانِ الصّغير مرةً سقطت من سرير أمّي.. ظلّت أمّي في النوم على السّرير، لعلّها كانت نائمة… لعلّها انتظرتْ أن أعود إليها على السّرير، لعلّ صبرها اتسع مثل قلبها وذهبتْ عنها حدودُه، لعلّها نسيتني تماماً… لعلّها، بلا أمل، لبثت بدموعها على السرير، فهناك الإله يقفُ كالحجر الأسود ويسدُّ يديْها عن صرختي، أنا، الذي أغمض الظلامُ عينيَّ في الفراغ بين السرير والأرض رجوتُ أمّي أن تعيدني إليها على السّرير فلم تفعل…. الأرض التي وقع جسدي عليها ولم يعنها سقوطي، فجمدتُ عليها يقظاً بلا عينيْنِ في الظلام.. ما هذه الأرضُ التي سقطتُ عليها من السّرير؟ لِمَ هي ليست أرضَ الغرفةِ التي أنامُ فيها على سريرِ أمّي، ما هذه الأرض؟ وماذا يريد هذا الظلامُ الذي بركَ على صدري بقناعِهِ الأسود، وأنساني قدميَّ؟ لماذا تستطيل قوائم السّرير هكذا، وتستطيل فيرتطمُ صدرُ السّريرِ بالسقف………
ما هذه الحكاية التي أسمعها؟ لماذا لا أستطيعُ أن ألمسَ هذه الحكاية بالأصابع؟ ومن يناديني باسمي هنا وهناك في حكايةٍ يتعيّن عليّ أن أسمعها إلى هاويتها…
مَنْ يُثرثرُ بلا نهاية؟
….
تلك السقطة في الظلام من السرير الذي رفعَ أمّي إلى السّقف… تلك الهوّة من الظلام والفراغ والحكاية المبعثرة هي العالم الذي حدثت فيه حياتي كلّها مرّة واحدة وإلى الأبد…..
نقّار خشب…
هذا الذي يقفُ معي
في الظّلِّ وفي العراء
هذا الذي عاش كنقّارِ خشب
على شجرةِ حياتي
كم يُحزنني، اليومَ، أن أراه
مجرّدَ نقّارِ تُراب
على ما يُشبهُ شجرتَهُ القديمة؟
الثرثار…
طيلةَ ما لا يُرى من الأعوام،
الأعوام التي عميتْ وأصابها الجربُ في الهاوية،
كنتُ أقفُ على بابه وأسألُهُ كلمةً واحدةً من لسانِهِ الكليم
كلمةً كيفما يشاء،
كلمةً بأيِّ لونٍ
حتى لو كانتْ أَمَةً غريبةً ضربتْها شموسُ الأعرابِ في بواديهم
كلمةً أحملُها إلى البيت
لنُنجبَ عائلةً صغيرةً
من كلامٍ صغير
لهذا العالمِ الثرثار!
رسم…
هنا !
حيثُ الأرضُ لا أرض !
والسّماءُ لا سماء !
هنا !
حيثُ العالمُ تقطّعتْ بهِ السُّبُلُ عن روحِهِ،
وعميتْ عيناه..
هنا !
نزلَ رسّامٌ هوائيٌّ لا يقَرُّ له قرار
وبإصبعٍ كمنقارِ صقر
رَسَمَ رسْماً ضائعاً على التُّراب
ثمَّ اعتلى الرّيح وصرخ في بوقِها المغبرّ:
” تلكَ حياتُكَ.. على التّرابِ أيُّها التّائه !
وعليكَ أنْ تلقطَها
ذرّةً
ذرّةً
وتحملَها إليّ ” !
وجهُهُ…
تخيَّلُوا النقطةَ الضئيلة،
فزَّاعةَ الكلمات
في حديقةِ الأصوات،
وختَّانَ أرواحنا على كلِّ سطر
تخيّلوا الوجهَ المتقلّصَ الممسوح
في النقطة الضئيلة
إنّها وجهُهُ هوَ،
حاصدَ الحقلِ الذي نختفي فيه ببلاهة!
صـيد…
وهكذا
قُدّرَ لي أنْ أصطادَ يوماً آخرَ
من الأيّام المتلاطمة في بحر هذا الكون،
يوماً بمجرّد لون جافّ كهذا اللّون
على ورقة جافة كهذه الورقة
حيث أصادقُ
عزائي….
حياةٌ صغيرة…
يكفينا أن نولدَ الآن
في معتركِ الضوء والهواء
هذا الهواء بأسرابِ روائحِهِ المنتفضة
هذا الضّوء بلآلئِهِ الغمَّازة
يحملانِنا إلى بعض
فلا يمحُونا وَهْم
ولا تَغَصُّ بنا حقيقة
ومثلَ فتىً من عُشب
حياةٌ صغيرةٌ تطلُعُ الآن
فتهَبُ العالمَ الكبيرَ عُمراً أطول
في يومٍ أبدِيٍّ
كأنّهُ يومُنا هذا
يومٌ يغتسلُ مع جذورِهِ
ويأنفُ أن يصيرَ ذكرى..
طريق…
وماذا هناك
غيرُ تلكَ الإصبع
تُشيرُ إلينا فنتبعُها،
وذاك الطّريق
سوفَ نصعدُهُ
فينحدر !
أحدٌ سواي…
لعلّهُ أحدٌ سواي
هذا الذي أخذَ وجهَهُ إلى المرآة،
وتضرّعَ إلى المصباح،
ليرى ما رأى،
ثمّ أفرطَ في النوم…
اذهبي مع الرّيح!
اذهبي مع الرّيح يا حياتي!
فلقد سئمتُ أنّكِ عارضةُ أزياءٍ لا ثوبَ لكِ فيها!
….
إنّها ليستْ حياتَكِ أيّتُها الرّوح!
ليستْ حياتَكَ، أنتَ، أيُّها الجسد!
إنّها حياتُهُ هوَ
نهيمُ فيها كالعُميان
بينَ ظلامٍ وظلام
ونحملُها إليهِ كالعبيد!
أطفال…
نحنُ، الأطفال،
نُكسِّرُ ألعابَنا
فيستديرُ العالمُ،
ويحملَنا ملءَ عينيْه…
نحنُ قصصُ اللّيلِ للنّهار،
وقصصُ النّهارِ للّيل
تهبُّ عليها الرّيح
وتنثرُ كلماتِها…
نحنُ أمسُ اللّه
وغدُهُ
ونحنُ مصيرُه…
نحنُ آباءُ الموت
وأُمّهاتُ الحياة…
نحنُ، الأطفال،
نجرُّ وراءَنا الطُّرقَ من أنوفِها
ونعبرُ جدارَ النهاية!
الرّسّام…
حينَ فرغَ الله،
في اليومِ السّادس من رسمِ العالم
لم يضعِ اسمَهُ على اللّوحةِ الكبيرةِ التي رسمها
وحينَ ذهبَ يستريح
من أعباءِ ستةِ أيّامِ الرّسم
رآنا، من هناك، بخيالِنا الطّفل
نرسمُ لوحتَهُ من جديد
ونكتبُ أسماءَنا على كلّ رسم
وفرحَ اللهُ كثيراً
وهو يرى خيالَ أطفالِهِ يلاعبُ خيالَه
على لوحتِهِ الكبيرةِ التي قرّر أن يحملَها بيديْه
لنرسمَ فوقها ما نشاء!
ثُمَّ !
فضّل الرسّامُ الأوّلُ
أن يتنزّهَ سائحاً
في معارضِ رسومِنا !
أيُّها الرّعب…
أنتَ! أيُّها الرُّعب!
ما الذي أتى بكَ إلى هذهِ البلادِ التي ستقضي عليك
يا ربَّ الأهوال!
يا لحظِّكَ العاثر الذي ابتلاكَ بنا!
هذا هو الباب!
احملْ ما تبقّى لكَ في صُرّةِ أهوالك
ولا تَعُدْ!
لأنّكَ لنْ تنجوَ في المرّةِ القادمة!
أيُّها القدِّيس!
لا تَخذلْ وردتي!
قبلةٌ فارعةُ الطّول
تصنعُ يوماً فارعَ الحُبّ!
لقد اغتسلتُ، توّاً، بعَينِ شمس!
فتعالَ إليّ!
أرِني وجهَ قلبِكَ السّعيد!
وأصابعَكَ التي حَلُمتْ في حكايةِ اللّيل!
من أجلكَ أرفعُ هذهِ الكأسَ إلى فمي
وأدعو كلَّ جسدي إلى جسدي!
الضوءُ الذي علّمني أن أُحبَّ كلَّ شيء
سيكتبُ قصّتي الصغيرة
كم يعنيني
أن تكونَ طيراً فيها!