الذي يحدث عندما لا تستطيع كتم سعادتك

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى السيد سمير

" الذكريات زي الريح الشتوية لما بتيجي مهما كانت قوتها مش بتجرح.. هي بس بتطوح الحاجات الحلوة من قدامنا.. الحاجات الوحشة بتبقى دايما تقيلة فبتفضل..

 السبت 5 12 2001 "

………………………………….

بالأمس كانت أولى مرات ذهابي للأوبرا..

بالأمس كانت رؤيتي للأوبرا من الداخل أقل الأشياء التي حدثت لأول مرة من حيث الأهمية..

كانت تجلس في كافيتيريا المجلس الأعلى للثقافة بالأوبرا.. تشرب الكابوتشينو وتنشغل بالاستماع إلى شاب يعزف الجيتار لأصدقائه على منضدة مجاورة ومتابعة قطة صغيرة تقترب من منضدتها بحذر.. الإضاءة الخافتة تمس وجهها الناعم والمقعد الخالي بجانبها يبتسم ويغمزني بعينيه في تحريض واضح.. كما أن الوقت كان قد فات للتساؤل.. كانت هذه الفتاة ذات النظارات الطبية الرفيعة والابتسامة العبقرية قد امتلكتني. ولكن ماذا لو لم أستطع كتم سعادتي فبكيت ثمار مشمش صغيرة أو هممت أن أخبرها بأن “مساء الخير” فانطلقت من فمي المفتوح فراشات كثيرة وردية اللون بدلا من الحروف.. قد تبتسم حينها وتجيبني بسحابة قرمزية أو ببعض الأصداف أن ” مساء النور ” وتدعوني للجلوس.

تقدمت إليها بخطوات بطيئة..

…………………………………..

” في أول حدوتة بتبقى عامل زي اللي بيشوف فيلم لأول مرة..بتبقى مشدود قوي ومش بتفكر غير في النهاية وإية اللي حيحصل..

في تاني حدوتة بتشوف الفيلم للمرة التانية.. بتندهش من كل التفاصيل وبتستمتع بكل الحاجات اللي فاتتك.. بتسيب نفسك خالص وبتتابع انسحابك واحدة واحدة لموج حتكتشف لأول مرة روعة درجة الأزرق اللي في لونه واللي بتزيد كل ما تتقدم.. بس بتفضل كل حاجة عفوية لأنك في المرة دي برضه مش عارف النهاية..

الأحد 3 6 1998 “

 

…………………………………..

بدأ الأمر حين رأيتها في إحدى الأمسيات الأدبية في مكتبة البلد المواجهة للجامعة الأمريكية حيث أذهب دائما.. لأول مرة أهتم بفتاة ضئيلة الحجم ذات صدر ضامر تلقي قصة.. لكنني أدركت أن لكل قاعدة استثناءات.. حين لسع طرف السيجارة المشتعل أصابعي بعد أن وصلت إلى نهايتها دون أن أقربها.. وضعتها جانبا.. وبدأت في التصفيق بحماس.. تحول سريعا إلى صدمة حين رمقني الحضور بمزيج من الاستنكار والسخرية..

– القصة لسة ماخلصتش !..

بدأ الأمر من جديد حين كنت أقف أمام المكتبة أدخن بشراهة وأنظر إلى الطريق في غضب..

– بسسس .. مصطفى مش كدة ؟..

التفت.. يارب السماوات !!.. ألقيت بالسيجارة من فوري تجنبا للمزيد من حروق الأصابع.. كان من الطبيعي أن تبتسم لردة فعلي السريعة..

– أنا آسفة على اللي حصل النهاردة ..

– أنا اللي آسف..

– أنا سما.. بس بجد انت كنت بتصقف قبل ما أخلص ليه؟

هذا الاسم لا تحمله إلا الأميرات.. فأي أميرة أنت.. وفي أي حكاية.. ربما تحمله بعض الملائكة أيضا.. تخيل معي.. ملاك اسمه ” سما ” يكتب القصة ويحب القهوة الزيادة وحين يبتسم يغمر جروح قلبك بالورد الأبيض..ترى ماذا لو قرر هذا الملاك أن يعشق.. هل سيزداد فبراير دفئا وتزهر أشجار التفاح فجأة ويتخفف الناس من أرديتهم الثقيلة ويلقونها جانبا.. نظرت إلى السويتر الداكن الذي أرتديه وابتسمت.. كان لابد أن أكذب :

– القصة عجبتني قوي.. فيها شجن جميل.. دي أكيد مش أول محاولة..

– أنا باكتب من خمس سنين..

نظرت إلى الطريق..

– النهاردة فيه حفلة لفرقة مزيكا جديدة في ساقية الصاوي.. حيقولوا فيها شوية أغاني من تأليفي.. تحبي تيجي ؟..

تتسع ابتسامتها فجأة فتنسحب الأرض بسرعة من تحت قدمي..

– بجد ؟.. أكيد..

نسير سويا.. الليل الأزرق وأصوات آلات التنبيه والأسر المتسكعة أمام الفتارين المضيئة والفتيات اللاتي يحملن الآيس كريم يزدادون ابتعادا كأنهم وهم.. للمرة الأولى لم ألتفت إلى العاشقين الذين يتسكعون بالعشرات في وسط البلد ولكنني للمرة الأولى أيضا كنت متأكدا أنهم ينظرون إلينا.. أتخيل أصابع يدينا وهي تتشابك في رقة فتزداد نعومة الإسفلت تحت قدمي كأنه موج من زهور..

…………………………………..

” أكتر حاجة بتسعدني لما حد يقول لك وحشتيني.. كإنه بيوصل لك وردة مني.. عارف إنك أول ما حتصدقي حترجعي لي فوق سحابة ورد.. ساعتها حاطلع الدموع من التلاجة.. وأجيب رجليا اللي كنت راميهم واحدة تحت السرير والتانية مش عارف فين.. وأعيط وأرقص للصبح ..

 الخميس 17 8 2000 “

…………………………………..

عثرت بالأمس بينما كنت أرتب أدراج مكتبي على مجموعة من الأوراق القديمة.. مشاريع قصص.. قصائد لم أرض عنها.. خواطر كنت أتحدث فيها عن أناس بأسمائهم فلم أنشرها.. لسبب ما كنت أعشق وقتها الكتابة بالعامية دون غيرها.. شردت في الحروف التي تعود لسنوات عديدة عميقا في الروح.. اكتشفت أننا لم نعد نعثر على أشياء جديدة.. إننا فقط نعيش نفس الأشياء من جديد ولكن بصورة مكبرة أو مصغرة.. أبتسم.. ولكننا لا نتعلم أبدا.. أتوقف طويلا أمام إحدى الأوراق :

” وقتها كنت حاسس كإني لامس الأرض بالعافية.. فيه حاجة ناعمة قوي بتشدني لفوق بعنف.. حاسس كإني لو سرحت شوية ممكن ألاقي نفسي باطلع على سلالم غير مرئية بتزحلق.. بتزحلق لفوق.. بفعل جاذبية السما !..

 الثلاثاء 14 1 2003 “

حين وضعت الورقة على أنفي توقعت أن تغمرني رائحة الفل..  

…………………………………..

شارع 9 في المعادي مكان رقيق يصلح للحب.. يكفي أنه أول الكائنات التي تطل عليها يوميا فتمنحه أولى ابتسامات الصباح التي يظل بها دافئا حتى نهاية اليوم.. ربما كان هذا ما يجعله يملؤني بإحساس مجنح بأن الأشياء غير القابلة للتحقق قد أصبحت أقل بكثير..

نسير وقد تشابكت أصابعنا.. كنت متأكدا أنني لو أغمضت عيني الآن ستفعل هي الأخرى مثلي.. وسيتفادانا سائقو السيارات والمارة والأشجار وستبتعد الجدران وإشارات المرور والأرواح الوحيدة كي تفسح لنا الطريق.. لماذا لا أزال أناديها باسمها.. لا أذكر أننا قد صارحنا بعضينا بأي مشاعر.. هي تعرف.. أنا الذي كنت محتاجا إلى إخبارها.. ولكن ماذا لو لم أستطع كتم سعادتي فانكشف مكان القمر المختبئ في جيب قميصي أو نبتت لي أجنحة بيضاء..

تحت شجرة فل نزعت نظارتها برفق ومررت سبابتي على خدها الأيمن هابطا وصاعدا في تموجات ترسم ” بحبك “.. رفعت رأسها إلي فجأة بينما كنت أضع نقطة الباء الثانية.. عيناها صافيتان شفيفتان كبحيرة عذبة فوق قمر بعيد عن مجال الجاذبية.. غاصت شفاهنا في قبلة طويلة لم تتوقف إلا حين سمعت صوت نهنهتها الخافتة..

– مالك ؟

دخلت في حضني وأغمضت عينيها بعنف..

– اوعى تسيبني..

…………………………………..

” سبب من الأسباب اللي خليتني أحبك :

تفتكري ممكن يكون شكله إية الطفل اللي باباه صوت بيانو.. ومامته الخط الموف اللي في قوس قزح؟..

 الأحد 9 4 2006 “

…………………………………..

تباغت جسدي رعدة خفيفة إثر ملامستي لنسمة باردة مفاجئة آتية من نافذة المترو.. أدرك أننا قد خرجنا من النفق فأتنهد بعمق.. أبتسم بنشوة صافية وأنا أتخيل جزيئات الهواء البارد وهي تطرد بابتسامة تشف هواء النفق الحارق المكتوم.. حين سألقاك هذه المرة سأعترف بأنني قد كذبت عليك مرة أخرى.. حين كنت أشاركك امتصاص قطع السكر بدلا من إذابتها في القهوة على مقعدين متقابلين في مكتبة البلد.. وسألتني بمرح :

– انت ماحطتش سكر خالص في القهوة.. حتشربها سادة ولا إية ؟!..

– ساعات باشربها كدة..

 

نتبادل الابتسام أنا وصورتك المنعكسة أمامي على زجاج المترو.. بينما قطعة سكر بيضاء أخيرة تذوب في روحي.. ببطء.       

مقالات من نفس القسم