وَإذْ يبدو أنَّ أدونيس قدْ انتهَى صُوفيًّا ، على مُسْتَوَى الأدَاءِ ، وَخُصُوصًا في كتاباتِهِ الأخيرَةِ ؛ فهَذَا يعنِي أنَّه انتهَى عموديًّا (تاريخيًّا) ، مُتطابقًا مَعَ جُذورِهِ الشَّرقيَّةِ ، اعتمَادًا على حقيقةِ إنَّ التَّصوُّفَ قدْ نشأ وَتَرَعْرَعَ في الشَّرقِ العَربيِّ ، تُصَاحبُهُ قائمَةٌ منْ المُتصوِّفينَ الشُّعرَاءِِ وَالنُّثَّارِ ، يقِفُ على رأسِهِمْ الحَلاَّجُ ؛ الَّذي حَجَزَ له مكانَةً فريدَةً ، على رَأسِ هَذِهِ القائمَةِ ، وَهَلْ يُمْكِنُ أنْ ننسَى جُمْلَتَهُ الخَالدَةَ ؛ الَّتي قالَهَا عندَمَا مَسَحَ السَّيَّافُ وَجْهَهُ بسيفِهِ المُلْتَهِبِ ؛ ليتدفَقَ الدَّمُ بعُنْفٍ غاسِلاً وَجْهَهُ ، حَيْثُ قالَ في حِيْنِهِ :
” هَذَا دَلالُ الجَمَالِِ “
إنَّ التَّصوُّفَ يحتلُّ أقْصَى اليَمِينِ ، إذَا جَازَ لنَا التَّعبيرُ ، وَاليمِينُ بالمَعْنَى الإسْلامِي ” كِتَابُهُ بيَمِيْنِهِ ” ، هُوَ غيْرُ المَعْنَى السِّياسِيِّ المَقِيْتِ في الشَّرقِ العَربيِّ ، وَهَذا نابعٌ منْ حقيقةِ إنَّ التَّصوُّفَ يُحِيلُ إلى حَالةٍ عرفانيَّةٍ هيَ الحُضورُ أوْ اسْتِحضَار المُقدَّسِ ” التَّجلِّي ” ؛ وَمِنْ ثمَّ الفنَاءُ فيْهِ عنْ كلِّ شَيءٍ ، وُصُولا إلى مَعرفتِهِ ” تَوْحِيْدِهِ ” ؛ باعْتِبَارِهِ الوجُودَ الحَقَّ ، وَهَذَا يتسَاوقُ مَعَ درجَةِ استنباطِ رسُومِ الشَّريعَةِ وَعقائدِهَا ، إنَّ الدِّينَ وَالسِّحرَ وَالتَّصوُّفَ وَالشِّعرَ ، وَإنْ تبدو مُتَعَارضَةً إلاَّ إنَّ منبعَهَا وَاحدٌ ؛ ذلكَ هُو ” الاستبطَانُ ” أوْ ” الوَحْيُ ” في الدِّينِ ، وَ” الحَدْسُ ” في الفلسَفَةِ ، وَ” الجِنُّ ” في السِّحرِ ، وَ” الإلهَامُ ” وَ” الشَّياطِينُ ” في الشِّعرِ ، وَ” الاتِّحَادُ ” وَ” الفَنَاءُ ” في التَّصوُّفِ ؛ إذنْ فلا غَرَابَةَ أنْ نجِدَ مَنْ يُقرِّرُ أنَّ : الكَاهِنَ وَالمَجْنُونَ وَالشَّاعرَ وَالسَّاحرَ كَانُوا وَثيقِي الصِّلةِ بعضهم ببعضٍ ، بحُكْمِ كَوْنِهِمْ هَمْزَةَ الوَصْلِ بيْنَ عَالمِ الرُّوحِ وَعَالمِنَا هَذَا .
وَعلى أقْصَى اليَسَارِ تقومُ السِّرياليَّةُ ؛ وَهِيَ حَرَكَةٌ غربيَّةٌ ، نشَأتْ على يدِ أندريه بريتون وَأصْدقائِهِ ، وَتدعو إلى تحريرِ الفِكْرِ وَتجاوُزِ العَقلِ وَالنِّضَالِ ، ضِدّ الأفكارِ وَالقِيمِ المَوْروثةِ ؛ حَيْثُ اختارَتْ الحُلمَ كسِلاحٍ ؛ فضْلاً عنْ اللاوَعْي ، وَالكتابَة الآليَّة ؛ الَّتي تتطوَّرُ ذاتيًّا ، تاركةً اليَدَ تتحَرَّكُ فوْقَ الوَرَقِ ، وَقدْ أدْخَلَ السِّرياليَّةَ إلى مِصْرَ الشَّاعرُ والكاتِبُ : جورج حنين ، وَقَامَ بتأسِيسِ جَمَاعَة ” الفنِّ وَالحُريَّةِ ” ، في عام 1937 ، انطِلاقًا منْ الأفكارِ السِّرياليَّةِ ، ثمَّ هُنالكَ مجلَّة ” حِصَّة الرَّملِ ” ، وَهِيَ المُمَثِّلُ الرَّسمِيُّ للسِّرياليَّةِ في مِصْرَ . إنَّ السِّرياليَّةَ هِيَ اسْتدعَاءُ اللا حُضورِ أوْ غِيَاب المُقدَّسِ المُتعَالِي أوْ تغييبِهِ وَإنكارِهِ ؛ أيْ إنَّهَا حَالةُ غِيَابٍ ، وَهِيَ نقيضُ الحُضورِ أوْ الاسْتِحْضَارِ الصُّوفيَّةِ ، إنَّ الغيَابَ وَالحُضورَ هُمَا صِفتَا المُقدَّسِ المُتَعَالِي ؛ الَّذي يتوَاجَدُ أوْ يكونُ في مُلتقَي الأقْصَيينِ : الصُّوفيَّةِ وَالسِّرياليَّةِ ، إنَّ اصْطدَامَهُمَا ؛ أيْ اصْطدَام حَالتيْ الحُضورِ وَالغيَابِ ، يُنْتِجُ اللامَعْقُولَ .
إنَّ السِّرياليَّةَ هيَ الحُريَّةُ المُطْلَقَةُ عِندَ سلفادور دالي ؛ حَيْثُ يقولُ :
” أنَا أرْفُضُ الانتِمَاءَ إلى أيِّ شَيءٍ ، أنَا السِّريَاليُّ الوَحِيْدُ ، غَيْرُ المُنْتَمِي .”
ثمَّ يقولُ أيضًا :
” إنَّ المُلتَزِمِيْنَ هُمْ الخَدَمُ ، وَأنَا أريدُ أنْ أبْقَى سَيِّدًا على الدَّوَامِ .”
فالسِّرياليَّةُ عِندَ دالي تجمَعُ مَا بَيْنَ نقِيْضَيْنِ ؛ هُمَا القَدَاسَةُ وَالتَّهريجُ ؛ لِذَا يُطالِبُ مُحَاورَهُ الآن بوسكيه بألاَّ يدعوَهُ بهلوانًا ؛ بلْ أنْ يدعوَهُ ” دالي المُقدَّس ” ، كَمَا يرفُضُ أنْ ينظُرُ إليْهِ كمهرِّجٍ ؛ حَيْثُ يعتقِدُ أنَّ ثمَّةَ فرْقًا دقِيقًا بيْنَ المُهَرِّجِ وَالبَهْلَوَانِ ، لا يُمْكِنُ أنْ يُلمَحَ بسهولةٍ .
وَلكنْ مَاذَا عَنْ اللغَةِ ؟ ، إنَّ اللغَةَ بوَصْفِهَا أداةً بيدِ الشَّاعرِ ، تُمثِّلُ إشكاليَّةً كبيرةً لدَى الشَّاعرِ وَاللغَةِ نفسِهَا ، كيفَ ؟ ، إنَّ إشكاليَّةَ اللغَةِ عندَ الشَّاعرِ القديمِ تتمثَّلُ في موسِيقاهَا أوَّلاً ، وَدلالتِهَا ثانيًا ، وَقدْ يكونُ للجَانبِ المُوسِيقيِّ دَورٌ أكبرُ مِمَّا للدَّلالةِ في هَذِهِ الإشكاليَّةِ ؛ لارْتباطِهِمَا بالإيقَاعِ ، وَمِنْ ثمَّ بالوَزْنِ ؛ كصُورَةٍ صَوتيَّةٍ هندسِيَّةٍ ، تتكرَّرُ بأعْدَادٍ مُتناسِبَةٍ على مُسْتَوَى البيْتِ ؛ كصَدْرِ وَعَجُزٍ ، في الشِّعرِ الكِلاسِيِّ ، أوْ بأعْدَادٍ مُختلِفَةٍ في كلِّ شَطْرٍ ، على مُسْتَوَى شِعْرِ التَّفعِيلةِ ، وَلكِنْ في الشِّعرِ الحَديْثِ أوْ قصيدَةِ النَّثرِ، تنكفِئُ المُوسِيقَى للوَرَاءِ كإيقَاعٍ ؛ حَيْثُ يعمَلُ المُورفيمُ كوِحْدَةٍ إيقاعيَّةٍ على خَلْقِ إيحائِهِ كصُورَةٍ بَصَريَّةٍ ، وَليسَ مُؤثِّرًا سَمْعِيًّا ، فيُحِيلُ إلى شَبكَةٍ منْ العِلاقاتِ المَادية ؛ حيْثُ تقومُ الجُملَةُ بدورٍ خَطيْرٍ في إنتَاجِ شِعريَّةِ هَذِهِ النُّصوصِ ، وَالشِّعريَّةُ هُنَا تَعْمَدُ إلى تثويْرِ اللغَةِ وَإنشَاءِِِ عِلاقَاتٍ جَديدَةٍ ، تتوسَّلُ الاسْتِخْدَامَ الحَاذقَ وَغَيْرَ العَاديِّ لملفوظاتِ اللغَةِ نفسِهَا ؛ حيْثُ يكونُ للانزياحِ دورٌ كبيرٌ في إنتاجِ هذِهِ العِلاقَاتِ . إنَّ عَزْمَ الشَّاعرِ المُحْدَثِ أنْ يُفْرِغَ مَعَانيه في وِعَاءِ اللغَةِ ، أوْ لنقُلْ المَعْنَى إلى القَارئ أوْ المُتلقِّي ، باسْتِخدَامِ أبنيَةِ اللغَةِ ، يُمثِّلُ إشكاليَّةً أخْرَى ، منْ أسْبَابِها القَارَّةِ اللغَةُ ذاتُهَا ؛ فالمَعْنَى الأدَبِيُّ يتشظَّى إلى مَعَانٍ ، وَالقَبْضُ نحويًّا على مَعْنَى معيَّنٍ تتبعُهُ تشْظِيَةٌ للمَعْنَى نفسِهِ دلاليًّا ، سببُهَا الانزياحَانِ : الزَّمَنِيُّ وَالمَكَانيُّ لهُ ، وَهَذا مُرتبِطُ بالحقائقِ العَمُوديَّةِ (التَّاريخيَّةِ) للغَةِ ، وَكذلكَ لحقائقِهَا الأفقيَّةِ (التَّزامُنيَّةِ) منْ جِهَةٍ أخْرَى .
إنَّ المُقدِّمةَ أعْلاهُ ؛ كمِهَادٍ نظريٍّ للصُّوفيَّةِ وَالسِّرياليَّةِ وَاللغَةِ ، يبدو ضَروريًّا ، لمُتابعَةِ تجربَةِ الشَّاعرِ المِصْريِّ شريف رزق ، منْ خِلالِ مُنْجَزِهِ الشِّعريِّ ؛ الَّذي تمخَّضَ – حتَّى الآنَ – عنْ ثلاثَةِ دَواويْن شِعريَّةٍ هِيَ : ” عُزْلَة الأنقاضِ ” 1994، ” لا تُطفِئ العَتْمَة ” 1996، وَأخِيرًا ” مَجَرَّة النِّهايَاتِ ” 1999 ، وَعلى الرَّغمِ منْ أنَّ تأطيرَ هذِهِ التَّجربَةِ ، وَمنْ ثمَّ تشْرِيحهَا ، سيكونُ عَسِيرًا ، في مُقاربتِنَا هذِهِ ؛ لأنَّ التَّجربَةَ في طَوْرِ النّموِّ وَالتَّكامُلِ ، على الرَّغمِ مِنْ تميُّزِهَا الأدائيِّ ، وَاشتغَالِهَا في أعْمَاقِ اللاشُعورِ وَالحُلْمِ ؛ لذَا فمقاربتُنَا تُحَاولُ القبضَ على عَالمِ شريف رزق الشِّعريِّ ، منْ خِلالِ مُتابعَةِ بعضِ المَلفوظَاتِ ؛، كالجَسَدِ وَالجُثَّةِ وَالرَّأسِ ، وَتمظهراتِهَا في مُنجزِهِ المَذكورِ ، وَهُو مَا تيسَّرَ بيْنَ أيدينَا الآنَ .
في دِيوانِ ” عُزلَة الأنقاضِ ” ؛ وَهُو الدِّيوَانُ البِكْرُ للشَّاعرِ ، تفاجئُنَا ثُريَّاهُ (عنوانُهُ) ، أوْ عتبتُهُ ؛ فهِيَ ثُريَّا جَامِعَةٌ لمجموعَةٍ منْ النُّصوصِ الفَرعيَّةِ ، في مَتْنِ الدِّيوانِ ؛ حيْثُ يُمثِّلُ كلُّ نصٍّ جُزْءًا منْ هذِهِ الأنقاضِ ، إلاَّ إنَّه منْ الضَّروريِّ الانتبَاه لحقيقَةِ كَوْنِ مَلفُوظِ (الأنقاضِ) ، يدلُّ على كلٍّ مَسَّهُ التَّخريْبُ وَالتَّدميرُ ؛ فالجَسَدُ الحَيُّ هُو الجُثَّةُ ، عندَمَا يمسُّهَا المَوْتُ وَالخَرَابُ ؛ أيْ إنَّ أنقاضَهَا لا يُمكِنُ الاستفادَةُ منْهَا لبناءِ جَسَدٍ آخر ؛ لذَا فلا نستغربُ حيْنَ يقولُ الشَّاعرُ :
” وَحْدِي
سَأخْرُجُ ، منْ دَمِي
هَذا المَسَاء
وَأشْهَدُ الـ ـ ـ ـ ـ صَّدعَ الأخِيْر ” (ص :7)
وَلاشَكَّ فإنَّ الدَّمَ : “الحَيَاةَ ” أحَدُ مقوِّمَاتِ الجَسَدِ الضَّروريَّةِ ، وَهُوَ جُزْءٌ منْ أنقاضِهَا ، عندَمَا يمسُّهُ التَّخريبُ وَالتَّدميرُ ، إنَّ أنقاضَ الشَّاعرِ المتوزِّعَةَ في الشِّتاتِ ليسَ لهَا سِوَى الصَّهيلِ :
” تَصْهَلُ أعْضَائِي
في الشِّتاتِ .” (ص :8)
وَقدْ تقومُ أعْضَاءُ الشَّاعرِ بحَرَكةٍ مِيكانيكيَّةٍ مُريبَةٍ :
” لَعلَّهَا أعْضَائِي
هَذِهِ الَّتي تدفَعُ التَّوابيتَ
في الهَوَاءِ .” (ص :10)
أوْ تختلِط الرُّؤيَا عليْهِ ؛ لتُصْبحَ السِّحابَةُ جُثَّةً (جُثَّة الشَّاعرِ) ؛ حيْثُ سيكونُ للحَيَاةِ وَالمَوْتِ طَعْمٌ وَاحِدٌ ، أوْ هُمَا حقيقةٌ وَاحِدَةٌ بوَجْهَيْنِ :
” هذِهِ السّحَابَةُ جُثَّتِي
تَتَفَصَّدُ كائناتٍ وَأنقَاضْ ” (ص :10)
إنَّ الشَّاعرَ – وَهُوَ يخرُجُ منْ دمِهِ ؛ ليصِفَ لنَا أعْضَاءَهُ وَجَسَدَهُ – يكونُ في مَوْقعٍ (مُتعَالٍ) ، وَهَذا المَوقعُ يضْمَنُ لهُ رُؤيَةً كونيَّةً أفضَلَ ، وَالبصِيْرَةُ تتَّسِعُ ؛ فيرَى الشَّاعرُ أنَّ الكوْنَ يسِيرُ سَيْرًا حثيثًا نَحْوَ المَوْتِ ، إنْ لمْ يكُنْ قدْ مَاتَ بالفِعْلِ ، ضِمْنَ حَرَكتِهِ المَحْسُوبَةِ ، ذَاتَ الإيقَاعِ الوَاحِدِ ؛ فالصُّورُ المُوقَّعَةُ الَّتي يُبْصِرُهَا الشَّاعرُ صورًا حقيقيَّةً ، على الرَّغمِ منْ فنتازياتِهَا أوْ غرائبياتِهَا :
” ها أنَذَا أعَرِّيكِ يَا جُثَّة الليْلِ .” (ص :12)
فالإنسَانُ ظبيٌّ في غَابَةِ الحَيَاةِ الدَّامِسَةِ :
” شَرَكٌ آخَرٌ للظَّبيْ .” (ص :12)
كَمَا أنَّ أقواسَ البَرْقِ المُلتهِبَةِ ، هيَ مَنْ يَذْرَعُ مَسَافَةَ الشَّاعرِ :
” يذرعُنِي البَرْقُ . ” (ص :13)
كذَلكَ فإنَّ ضَرَاوَةَ المَشْهَدِ تخلِطُ عَرَقَ القاتلِ بدمِ القتيْلِ ؛ لتُغيِّبَ حقيقةَ الرُّؤيا ، وَتُضَيِّعُهَا :
” لمْ أعُدْ أُميِّزُ
في ضَرَاوَةِ المَشْهَدِ بَيْنَ
القاتِلِ وَالقَتِيْلِ .” (ص :14)
إنَّ يَرَاعَ الشَّاعرِ يعزِفُ صورًا للأنقاضِ مرسُومَة بفتنةٍ باهِرَةٍ :
” أرَى انفجَارَكِ الشَّامِلَ في جَسَدِي :
مَنَازلُ تَطَّايرُ
، نِسْوَةٌ يَصْرُخْنَ في وَهَجٍ
غُبَارٌ
، وَصِبْيَةٌ يأتُونَ مِنْ نَارْ .” (ص :15)
إنَّ هَذا المَشْهَدَ الدَّمَويَّ الرَّحْبَ يصِيرُ الشَّاعرُ إزَاءَهُ مُنتظِرًا قيامَةً قدْ لا تَجِيءُ :
” سَأقعِي هُنَا
في انتِظَارِ القِيَامَةِ .” (ص :17)
في نَصِّ ” ثعالِب المَدَى المَفْتُوح ” ، يَصْحَبُنَا الشَّاعرُ عَمِيقًا ؛ لنغُورَ مَعَه في اسْتِبطَاناتِهِ ، وَشَطَحَاتِهِ ؛ حيثُ تفقِدُ الأشياءُ خَصَائِصَهَا ؛ فالصِّنَارَةُ تتحوَّلُ إلى شَارَةٍ ، وَالخَرَابُ كبيرٌ ، بحَجْمِ صَحَرَاء مُقدَّسَةٍ :
” وَكَمَنْ يَحْمِلُ صِنَّارتَهُ الأخِيرَةَ ، شَارَةً
وَيَذْرَعُ الصَّحَرَاءَ ، حَافيًا
عُدْتُ
أُدَحْرِجُ الخَرَابْ .” (ص :21)
أمَّا رَأسُ الشَّاعرِ ، فهيَ قذيفَةٌ نَاضِجَةٌ :
” رَأسِي قذيفَةٌ ناضِجَةٌ
في فَضَاءٍ شَرِهِ المَرَاعِي .” (ص :41)
وَينبَسِطُ جَسَدُ الشَّاعرُ مِثل وَليمَةٍ :
” جَسَدِي وَليمَةُ المَوْتََى
وَمَرْعَى الظِّلالْ . ” (ص :23)
وَتقومُ قرقعَةٌ في عِظَامِ الشَّاعرِ تُماثلُ قرقعَةَ كوْكبٍ مُنْهَارٍ ، لعلَّه يكونُ الأرْضَ :
” ظِلالُ مُحْيي الدِّينِ بنِ عَرَبيِّ خَضْرَاءُ
، صُفُوفًا تُغادِرُ المَدَى المَفْتُوحَ
فيمَا في عِظَامِي قرقعَةُ
الكَوْكَبِ المُنْهَارِ .” (ص :25)
يبدو وَاضِحًا منْ الرّمُوزِ اللغويَّةِ أعْلاهُ ، حَجْمَ الرُّؤيَةِ وَالمَعْرفَةِ ؛ الَّتي يقومُ بها لا شعورُ الشَّاعرِ ؛ حيْثُ يبدو أنَّ معرفَةَ الشَّاعرِ لا حُدودَ لهَا ، تكادُ تقصُر اللغَةُ عنْ مُشَاهَدَاتِ شَاعِرِنَا وَمَوَاجِيدِهِ ، وَقدْ عَبَّرَ النَّفَّريُّ عنْ هذِهِ الحَالِ ، بقولتِهِ المَشْهورَةِ :
” كُلَّمَا اتَّسَعَتْ الرُّؤيَةُ ضَاقتْ العِبَارَةُ .”
وَسَنلحَظُ ذَلكَ كَثِيرًا في تَجربَةِ شريف رزق الشِّعريَّةِ .
في نَصِّ ” الجُثَّة المُضَاءَة ” ، يتجَاوَرُ وَيتوافَقُ فِعْلانِ مُرِيعَانِ ؛ هُمَا مُدَاوَاةُ الجرْحِ بأعْشَابٍ مُشتعِلةٍ وَانْفِلاتُ صَرْخَةِ الشَّاعرِ في عُمْقِ الكَوْنِ :
” أمْلأُ جُرْحِي بأعْشَابٍ مُشْتَعِلَةٍ
فيْمَا
تفِرُّ الصَّرخَةُ منْ قاعِي إلى
بَابِ السَّمَاءْ . ” (ص :33)
فالذَّاتُ المُتعاليَةُ للشَّاعرِ تكشِفُ عنْ عِلاقاتٍ سِحريَّةٍ بيْنَ جُثَّةٍ مُضَاءَةٍ : جُثَّةِ الشَّاعرِ ، وَأنقَاضِ الكَوْنِ ؛ حَيْثُ نُبْصِرُ :
” عُوَاءٌ ، منْ ظُلْمَةِ البَحْرِ
وَأمِّي تَذْرَعُ السَّمَاءَ
بحَمَامَاتِهَا ، وَسِلَّتِهَا الزَّرْقاءِ
تُوزِّعُ الكُمثرَى وَالبُذورَ
الحَرَائقُ تنهَضُ في كُرَّاسَتِي ، فيْمَا
الأمْوَاجُ تدْفَعُ أشْجَارَ الرِّمَالٍ .” (ص ص :33 – 34)
أمَّا الفَضَاءُ فهُوَ نَادلٌ بَسَّامٌ :
” يُقبِلُ الفَضَاءُ ، بفُوطتِهِ الزَّرقاءِ
كَنَادلٍ بَسَّامٍ
وَيُسْقِطُ قهوتَهُ عليٍّ .” (ص :34)
وَالقهوَةُ تشِي بظلامٍ دَامِسٍ ، وَسَهَرٍ طَويْلٍ ، كَمَا أنَّ بقيَّةَ أنقَاضِ الكَوْنِ ؛ مِنْ أرْضٍ وَسَمَاءٍ وَليْلٍ ، تحتويْهَا صَوْرَةٌ مُؤثِّرَةٌ تُلامِسُ الحُلْمَ ؛ بسِرْياليَّتِهَا ذَاتِ الإيقاعِ الدَّاكِنِ :
” السَّمَاءُ تدْفَعُ أبْرَاجَهَا الحَمْرَاءَ
وَثيرَانَهَا المُضِيْئَةَ في أمْوَاجِهَا
وَالليْلُ يهتزُّ ، كَبَحْرٍ مَنْقُوشٍ بِالمُزَارِعِيْنَ
فيْمَا الأرْضُ تدورُ بأجنادِهَا النَّائمَةِ وُقوفًا .” (ص: 37)
وَجُثَّةُ الشَّاعرِ صِنْوٌ لحُطامٍ دَامِسٍ ، مَزْرُوعَةٌ في جُمْجُمَتِهَا عَينانِ مُحْتَلِمَتانِ :
” سَيِّدَةٌ مَنقُوشَةٌ في قُبَّعَةِ الغُبَارِ
تَتَمَلَّى حُطَامِي
وَعَينَيَّ المُحْتَلِمَتيْنِ . ” (ص : 37)
في نَصِّ ” نجْمَة المُحَارب ” ، يعترفُ الشَّاعرُ بأنَّ جُثَّتَهُ حَيَّةٌ ؛ أوْ بينَ الحَيَاةِ وَالمَوْتِ ، وَلرُبَّمَا في غيبوبَةٍ ، لا يُحِسّهَا إلاَّ المُتَصوِّفة ، في حَالةِ شَطْحِهِمْ :
” إنَّمَا الشَّيءُ المُخِيفُ حَقًّا
أنَّنِي لمْ أكُنْ حَيًّا
وَلامَيِّتًا تمَامًا
في ظَهِيرَةٍ دَائبَةٍ
جُثَّة حَيَّة مَفتُوحَة على الخَوَاءِ
وَغَيْبَةِ الجُنُودِ السّكارَى ” (ص :62)
لذََا فإنَّ بصِيرَةَ الشَّاعرِ تَرَى الجَسَدَ وَقدْ تَحَوَّلَ إلى جَسَدٍ للعَابريْنَ وَالبَحْرَ جَسَدًا لدمِهِ ، وَإذْ يَرْقُدُ الجَسَدُ في أريكةِ الفَضَاءِ يكونُ الجُرْحُ ثُكنَةً يَسْكُنُهَا الجُنُودُ :
” كََانَ جَسَدِي يَمْلأُ الفَضَاءَ برَقدتِهِ العَمِيقَةِ
وَالجُنُودُ يَنْهَمِرُونَ منْ جُرحِ جَنْبِي فُرَادَى
وَجَمَاعَاتٍ .” (ص :77)
لكِنَّ الشَّاعرَ يتسَلَّلُ خُلسَةً منْ هَذا الجَسَدِ الثُّكنَةِ :
” بَيْنَمَا أخْرُجُ منْ جَسَدِي ، وَحِيدًا
على هَيْئَتِي في العَاشِرَةِ .” (ص :77)
حَيْثُ كانَتْ جُثَّةُ الشَّاعرُ ترُومُ الرُّجُوعَ إلى البيْتِ ، دَليلُهَا النَّخلُ وَالحَمَامُ ؛ لكِنَّ الجُثَّةَ (جُثَّتَهُ) تعرُجُ للأعْلَى المُقدَّسِ ، وَمنْ هُنَا تنشأ المُفَارَقةُ الشِّعريَّةُ ؛ فالرُّوحُ تذهَبُ إلى البيْتِ (الأرْضِ) ، وَالجَسَدُ يطيرُ في رِحَابِ السَّمَاءِ :
” كُنْتُ أصْرُخُ ، في الجُنودِ ، أنْ يُبْعِدُوا الشَّمسَ
عنْ جُثَّتِي الطَّائرَةْ .” (ص :77)
في دِيوَانِ ” لا تُطْفِئْ العَتْمَة ” ، يَسْرِي بنَا الشَّاعرُ نَحْوَ آفَاقٍ أكثر إظلامًا ؛ فالثُّريَّا تتضَمَّنُ دََعْوَةً صَريحَةً لعَدَمِ إطْفَاءِ العَتْمَةِ ؛ فالشَّاعرُ قدْ أدْمَنَ العَتْمَةَ ، وَأمْسَى خبيرًا بهَا ؛ فالعَتمَةُ تقودُ إلى الرُّؤيَا الوَاضِحَةِ ؛ كَمَا أنَّ الظَّلامَ حَاضِنةُ المسْكُوتِ عنْهُ وَالمُغَيَّبِ وَالأسْرَارِ وَالكَلامِ غيْرِ المُبَاحِ ، إنَّ الشَّاعرَ يُبْصِرُ نفسَهُ الدِّيناصُورَ الأخِيْرَ ؛ حَيْثُ إنَّ الدِّيناصُورَ الأخيْرَ هُوَ امتدِادٌ عَمودِيٌّ (تَاريخِيٌّ) للإنسَانِ الأوَّلِ ؛ فالدِّيناصُورَاتُ قدْ فنِيتْ منذُ مليون عامٍ ؛ نتيجَةً لارْتِطَامِ أحَدِ الشُّهُبِ بسَطْحِ الأرْضِ ؛ وَبالتَّالِي فقدْ اسْتَلَمَ الإنسَانُ الرَّايَةَ منْ آخرِ دِيناصُورٍ :
” عليَّ الآنَ أنْ أنْهَضَ
في (عُزلَةِ أنقاضِي)
أنَا الدِّيناصُورُ الأخِيْرُ
أشُقُّ الضَّبَابَ
أشُدُّ الغِطَاءَ
عَنْ المَوْتِ الَّذي يَسْكرُ
في وُعُورَةِ الطَّريقِ
أَعْوي .” (ص :10)
لكِنْ مَنْ يدرِي ؛ فالإنسَانُ يبدو كأنَّهُ يسِيرُ إلى نهايتِهِ ، بمَحْضِ يديْهِ :
” طَلْقَةٌ
لابُدَّ منْ طَلْقَةٍ
هَذِهِ طَلْقَتِي .” (ص :11)
وَمنْ يهدِي الطَّلقَاتِ للإنسَانِ غيْرِ الإنسَان :
” وَحْدِي
أنَا الَّذي الطَّلَقَاتُ دَائمًا في انْتِظَارِي .” (ص :11)
إنَّ الشَّاعرَ يَرَى أنَّ الفَرْقَ بيْنَ الجَسَدِ (الحَيَاةِ) وَالجُثَّةِ (المَوْتِ) هُوَ طَلقَةٌ تمَخَّضَ عنْهَا عقْلُ الإنسَانِ ، فيَا للبرَاعَةِ !! :
” جُثَّةٌ
لابُدَّ منْ جُثَّةٍ
هذِهِ جُثَّتِي
لابُدَّ منْ جُثَّتِي
لأدْخُلَ عَاصِمَتِي الأخِيْرَةَ .” (ص :11)
فالإنسَانُ ؛ جَسَدًا كانَ أوْ جُثَّةً ، منْ تُرَابٍ ، وَالتُّرَابُ كَانَ أجْسَادًا للأسْلافِ ، وَمنْهُ كَانَ الجَبَلُ ، وَهُو للشَّاعرِ :
” وَحْدَكَ ، أيُّهَا الجَبَلُ
مِثْلِيَ
سَاهِرٌ
تَحْمِلُ آلافَ الجُثَثِ .” (ص :16)
وَإذَا كَانَ أبُو العَلاءِ قدْ طَالَبَ الأحَياءَ بأنْ يُخفِّفُوا الوَطْءَ ؛ فإنَّ أدِيْمَ الأرْضِ منْ أجْسَادِ مَوْتَانَا ، فإنَّ شَريف رزق يُكرِّرُ هذِهِ الدَّعوَةَ ؛ الَّتي يبدو كأنَّ الأحْيَاءَ لمْ يعبئُوا بهَا :
” خَفِّفْ الوَطْءَ
دَعْ الأمَوْاتِ في نَوْمَاتِهِمْ
لا يَرْجفُون .” (ص :16)
إنَّ الشَّاعرَ يُفكِّرُ في عَاصِفَةٍ تكنُسُ العَتْمَةَ :
” أفكِّرُ في عَاصِفَةٍ تكنُسُ العَتْمَةَ .” (ص :16)
إلاَّ أنَّه يُبعِدُ قَمَرَ الوَحْشَةِ ؛ كيْ لا يُطْفِئْ العَتْمَةِ :
” إليْكَ عنِّي
يَا قَمَرَ الوَحْشَةِ
لا تُطْفِئ العَتْمَة .” (ص :16)
إنَّ الشَّاعرَ يدورُ ضِمْنَ دَائرَةٍ مَرْسُومَةٍ ، حَوْلَ نِقاطٍ ثلاثٍ ؛ هيَ : الذَّاتُ الإنسَانيَّةُ ، ثمَّ الجُثَّةُ ، ثمَّ الجِسْمُ :
” لمْ يَعُدْ في جُثَّتِي دَرْبٌ ألوذُ بِهِ ، وَأفردُ
فيْهِ جِسْمِي ؛ كيْ يَنَامَ .” (ص :39)
إنَّ أعْمَقَ طعنَةً هيَ طعنَةُ الشَّاعرِ نفسَهُ ؛ لذَا فهُوَ يقولُ مُفتخِرًا :
” يَا لرَوْعَتِي
في بَرِّيَّةِ المَوْتِ
أعْمَقُ طَعْنَةً مِنِّي ! .” (ص :44)
إنَّ رُوحَ الشَّاعرِ تجوبُ الهَوَاءَ هُلامِيَّةً وَخَفِيفَةً ، يتشظَّى الجَسَدُ في الجُثثِ ، وَيتفسَّخُ الوَقْتُ رَوَائِحَ مُمِيتَةً :
” يَا لرَشَاقتِي !
هُلامِيًّا
خَفِيفًا
أجوبُ الهَوَاءَ
وَالوَقْتُ : يتفسَّخُ – في – تحْتِي
نَاشِرًا رَوَائِحَهُ المُمِيتَةَ .” (ص :50)
عِندَمَا يكونُ الجَسَدُ شَمسًا ، فلابُدَّ منْ إبعَادِ الشَّمسِ عنْهُ ، وَلمَّا يعلمُ الصَّبَاحُ بوجودِ شَمْسٍ أخْرَى ؛ هيَ جَسَدُ الشَّاعرِ ؛ فلمَ لا يَسْألُ عنْهَا :
” الصَّبَاحُ ، هَذَا الصَّبَاح
يَسْألُنِي عَنْ جَسَدِي
جَسَدِي الغَارِقِ في الأمْسِ
أمْسِ المُزْدَانِ بأمْس .” (ص :51)
وَلكِنْ ليسَ هُنالكَ سِوَى الجَسَدِ مَا يُغطِّي الجَسَدَ ، وَشَهَوَاتٍ كالخيولِ :
” مَا على جَسَدِي سِوَى جَسَدِي ، وَثَمَّةَ شَهْوَتِي
خَيْلٌ تفِرُّ منْ الضّلوعِ .” (ص :72)
وفي الوَقْتِ الَّذي تصُبُّ السَّمَاءُ عويلَهَا على جَسَدِ الشَّاعرِ ، يمنَحُ الرَّملَ اندِلاعَهُ ، وَكذَلكَ يُعْطِي المَدَى عُشْبَ صَهِيلِهِ ، فيتسَاءَلُ الشَّاعرُ مَذْهُولاً :
” هَلْ هَكَذا يأتِي الخُروجُ ؟
أكلُّ هَذَا العَصْفِ لِي
كيْ لا أرَى
؟ .” (ص :72)
وَحَيْثُ إنَّ الشَّاعرَ قدْ أنْهَى الدِّيوَانَ بسُؤالٍ وَعَلامَةِ اسْتِفْهَامٍ ؛ فإنَّهُ يُفْسِحُ المَجَالَ ، وَاسِعًا لِلتَّلقِّي ؛ كيْ يقومَ بملءِِ البَيَاضَاتِ وَالتَّأويلِ .
في دِيوَانِ ” مَجَرَّةِ النِّهَايَاتِ ” ، وَهُو المُنْجَزُ الشِّعريُّ الثَّالِثُّ ، لِشَريف رزق ، ليسَ منْ المُصَادفةِ أنْ يكونَ غُلافُ الدِّيوَانِ ، لوحَةً للرَّسَامِ السِّريَالِي : سلفادور دالي ، وَقدْ قُلْنَا في التَّقدمَةِ إنَّ التقاءَ السِّرياليَّةِ بالصُّوفيَّةِ يُولَدُ اللامَعقولُ وَالغَرَائبِيُّ ، وَهَلْ هُنَاكَ أعمقُ منْ لُغةٍ الصُّوفيَّةِ في القبضِ على صُورِ العَالمِ السِّرياليِّ ، الَّذي يُبْصُرُهُ الشَّاعرُ في رِحْلتِهِ نحْوَ الجَحِيْمِ ؟ ، وَمَا الشَّاعرُ إلاَّ نقطة هَذا الكَوْنِ وَسُرَّتِهِ ، كَمَا يقولُ حافظ الشِّيرازي ، في تَصْديرِ الدِّيوَانِ :
” وَارْتَضَيْتُ عُزْلَتِي
كَمَا ارْتَضَاهَا الفِرْجَارُ
يَدورُ حَوْلَ مُحِيْطِهِ
وَلكِنَّ القَدَرَ جَعَلَنِي ، في النِّهَايَةِ
كَالنُّقطَةِ
في وَسَطِ الدَّائرَةِ .” (ص : 5)
وَحيْثُ نتتبَّعُ هَذِهِ الرِّحلةَ يكونُ القلبُ هُوَ مَصْدَرُ رُؤيَا الشَّاعرِ ، وَليسَ العَقلَ ؛ فالطُّرقُ تجَاهَ مدينَةِ الحُلْمِ تشظَّتْ فيْهَا الدّروبُ في ضُلوعِ الشَّاعرِ ؛ وَهَذا يقودُ حتمًا إلى تعدُّدِ مُستوياتِ الرُّؤيَا :
” وَهَاهِيَ الطُّرقَاتُ الَّتي ظَلْتَ تَعْبُرُ
قدْ تَشَظَّتْ
كَحزمَةٍ منْ نيازِكَ ، في ضُلوعِكَ .” (ص : 5)
وَتفترِضُ الرِّحلَةُ ابْتِدَاءَ الفَرَاغِ ؛ حَيْثُ ينعدِمُ كلٌّ منْ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ :
” عَمَّا قليْلٍ سَيبتدِئُ الفَرَاغُ
، وَينتهِي الوَقْتُ
( وَلا أعْنِي بذلكَ مَجَازَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ ، أوْ نبوءَاتٍ مَا ) .” (ص : 7)
إنَّ الشَّاعرَ يُحاولُ خَلْقَ لحظَةٍ إيهاميَّةٍ لإقنَاعِ المُتلقِّي بأنَّهُ يَرَى الحقيقَةَ ، وَيصِفُهَا كَمَا هِيَ ؛ وَلكِنَّ التَّلقِّي لا يحفلُ بالحَقائقِ بقدْرِ احتفائِهِ بشَعْرَنَةِ هذِهِ الحَقائِقِ ؛ ليفترَقَ النَّصُّ الشِّعريُّ ضِمْنَ شِعريَّتِهِ عنْ النُّصوصِ اللا شِعريَّةِ .
إنَّ الشَّاعرَ يَسْتخدمُ الاسمَ : (شَريف) ، كَصُورَةٍ بَصَريَّةٍ ، (دَالاً) على جَسَدِهِ ؛ الَّذي يتحوَّلُ إلى (مَدلولٍ) ، وَهَذا يعنِي أنَّ الاسمَ وَالجَسَدَ يُشكِّلانِ علامَةً أوْ إشَارَةً ، إنَّ الذَّاتَ الشَّاعرَةَ تتعامَلُ مَعَ الجَسَدِ بصِفتِهِ مَدْلُولاً ، منْ خِلالِ الحَالاتِ الرُّوحيَّةِ وَالنَّفسيَّةِ الَّتي تُؤسِطرُهُ ؛ فالذُّهولُ وَالهَذَيَانِ وَالجُنونِ ، هِيَ تمظهرَاتٌ مُختلفِةٌ للجَسَدِ ؛ فالشَّاعرُ يعمَدُ حِينًا إلى تهشِيْمِ ثنائيَّة (جَسَد – شَريف) ، وَحِينًا يُعِيدُ تشكيلَ العَلامَةِ ، وَهِيَ مُعرَّضَةٌ للتَّهشِيمِ المُسْتقبلِيِّ ؛ حيْثُ فنَاء الجَسَدِ ، بصفتِهِ (مَدلولاً) ؛ ليحِلَّ مَحَلَّهُ الاسمُ (شَريف) ، بصِفتِهِ (دَالاً) ، وَهُوَ يُحٍِيْلُ إلى غيَابٍ أوْ فنَاءِ الجَسَدِ :
” نَحنُ في أوَّلِ الرًّؤيَا ، وَمَوْتُكَ لنْ ينُوبَ عنْكَ في هَذَا المَسَاءِ
سَنزدَرِدُ الفَنَاءَ ، على مَهَلٍ
مَعًا مَعًا ، يَا شَريفُ .” (ص : 17)
إنَّ الرِّحلةَ تقودُنَا إلى مَدينَةٍ غَريبَةٍ :
” بنَّاءونَ ، وَشَحَّاذونَ ، وَحَدَّادونَ ، يدقُّونَ الأعْمِدَةَ في الهَوَاءِ المُواجِهِ ، سَيَّارَاتُ نَقْلٍ فارِغَةٌ ، وَسَيَّاراتٌ أخْرَى تَزْدَحِمُ بِالفَرَاغِ ، أطْفالٌ يتبوَّلونَ على أناشِيدِ الأمَّهاتِ ، ثُغَاءٌ ، وَبَائِعَاتٌ يخْطُرْنَ على شَهَوَاتِ الرِّجالِ البنَّائينَ ، وَهُمْ يَسْتَرِيحُونَ في الهَوَاءِ المُواجِهِ
، قُرْفُصَاء ، وَيُدخِّنونَ لُفافَاتٍ تُضِيءُ بِضَوْئِهَا الخَافِتِ – على الوجُوهِ النُّحاسِيَّةِ – أشْوَاقًا تُضِيءُ .” (ص :24)
وَقٌبيلَ مُنْتَصَفِ الرِّحلةِ يفترقانِ ؛ حيْثُ تنْهَارُ الصُّحبَةُ ، بيْنَ الذَّاتِ المُحَلِّقَةِ للشَّاعرِ وَالجَسَدِ الشَّارِدِ :
” حَيَّرتَنِي في شُرودِكَ ، أَلَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَْبرًا ؟ ؛ فأمْهَلْتَنِي ، وَارْتَحَلْنا، جَمِّعْ عِظَامَكَ هَذِه وَاتَّبِعْنِي ، تَقَدَّمْ ، لا تُدَمْدِمْ في شُرودِكَ هَكَذَا ، أنْتَ إسْطَبْلٌ ، فَغَادِرْ ، إذًا : هَذَا فِرَاق …” (ص : 27)
إنَّ هَذا المَقْطَعَ يُحِيلُنَا إلى مَا حَصَلَ بيْنَ مُوسَى وَالخَضرِ- عليهما السَّلامُ – كَمَا هُوَ مُثْبَتٌ في سورَةِ الكَهْفِ ؛ حيثُ قالَ مُوسَى : ” هلْ اتَّبِعُكَ على أنْ تُعلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا ؟ ، قَالَ إنَّكَ لنْ تَستطِيعَ مَعِيَ صَبْرا ” ، وَعِندَمَا فشِلَ مُوسَى(ع) في الاختبَارِ قالَ لهُ الخَضرُ(ع) :
” قَالَ هَذَا فِرَاق بينِي وَبينَكَ ، سَأُنبِّئكَ بتأويْلِ مَا لمْ تَسْطِعْ عليْهِ صَبْرَا .” ، انظر الآيات (60 – 80)
إنَّ الاخِتلافَ بيْنَ مُوسَى وَالخَضرِ هُوَ اختلافٌ مَعرِفِيٌّ ؛ فالأوَّلُ ينظُرُ إلى ظَاهِرِ الأمُورِ ، وَالثَّاني ينظُرُ إلى جَوهرِهَا ؛ لذَا فرِحْلَة مُوسَى رِحْلةٌ مَعرفيَّةٌ ، وَكَذلكَ فإن رِحْلَةَ (شَريف) الشَّاعرِ رِحْلَةٌ مَعرفيَّةٌ ؛ أيْ الانتِقَال منْ مُسْتَوَى ثقافيٍّ إلى مُسْتَوَى آخَر ؛ لذَا فالفرَاقُ الَّذي حَدَثَ ضِمْن طُقوسٍ مُعيَّنةٍ يبدو أنَّ (شَريف) الجَسَد ، قدْ نَسِِِيَهَا :
” أنْتَ لاْ تذكُرُ بالتَّأكِيْدِ
يَوْمَهَا ، جَلَسْنَا على هَذِهِ المَائِدَةِ
خَلَعْنَا أعْضَاءَنا عُضْوا فَعُضْوا
وَابْتََسَمْنَا
وَضَعْنَا الأصَابِعَ في هَذِهِ الأطْبَاقِ
أتَيْنَا بِوَرْدٍ
الشِّفاهُ كانَتْ فاكِهَةً
والعُيونُ مَصَابِيح المَسَاءِ
أنْتَ لاْ تذكُُرُ بالتَّأكِيدِ
يَوْمَهَا ، فَرَشْنَا مَائدةً مِنْ لَحْمِنَا
، وَانْتَبَهْنَا إلى جَلَبَةِ المَوْتَى الضُّيوفِ
، وَهُمْ يدخُلونَ علينا مِنْ كُلِّ بابٍ
، … سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ
سَلامْ
أَنْتَ لاْ تذكُرُني يَاشَرِيفُ ؟ .” (ص : 32)
إنَّ الشَّاعرَ لهُ جَحِيْمَهُ الخَاصَّةَ ، وَهِيَ امْتدادٌ لِجَحِيمِ دَانتي ؛ بمَرْجِعيَّتِهِ المَسِيحِيَّةِ ، وَجَحِيمِ المَعَريِّ ؛ بمَرْجِعيَّتِهِ الإسْلامِيَّةِ ، إنَّ جَحِيمَ أبي العَلاءِ مُحاَكمَةٌ للزَّمَنِ ، بصِفتِهِ فَوْضَى مَأسويَّة ، تُحِيْقُ بالوجُود الإنسَانِيِّ ، أمَّا جَحِيمُ دَانتي فهِيَ مُحَاكَمَةٌ لعَصْرِهِ ، بكُلِّ مَا فيْهَا منْ مَظَالم وَانتهاكاتٍ ، كانَتْ الكَنِيسَةُ قدْ اقترفتْهَا في حِيْنِهِ ، وَالجَحِيمَانِ يُؤسِّسَانِ لمرحَلةٍ ثقافيَّةٍ أعْلى ؛ أيْ يعمَلانِ قطيعَةً مَعَارفيَّةً مَعَ مَا سَبَقَهُمَا منْ نُصوصٍ ، وَلكِنَّ جَحِيمَ شريف رزق جَحِيمٌ مُعَاصِرَةٌ ؛ تَنِمُّ عنْ مَأسَاةٍ وجوديَّةٍ مُلتهِبَةٍ ، يُصَوِّرُهَا لنَا لا شُعورُ الشَّاعرِ ؛ حيْثُ أبْصَرَهَا ضِمْنَ رياضَاتِهِ الجَسَديَّة وَمَعَاريجِهِ الحُلمِيَّةِ ؛ فهِيَ بدونِ طَوَابق ، وَفيْهَا جُثَّةُ الشَّاعرِ ، وَالكثيرِ منْ المَوْتى :
” أَهَذِهِ جُثَّتِي ؟ اِحْمِلُوهَا مَعِي أيُّهَا المَيِّتونَ – كَقَضَاءٍ نَائمٍ – على الأعْنَاقِ ، وَانْطَلِقوا بِهَا صَامِتينَ ، ” (ص : 35)
إنَّ الشَّاعرَ يرسُمُ وَيُصَوِّرُ أعْمَالاً فادحَةً ، تقومُ بهَا هذِهِ الجُثَّةُ :
” سَتَنْزِعُكُمْ من أعْضَائِكُمْ ، وَتَخْتَفِي ، وَتَتْرُكُكُمْ على المَعَارِجِ تلهَثونَ .” (ص : 36)
وَإذْ تَترُكُهُمْ هُنالكَ ، يَطلُبُ المَوْتَى مِنْهَا أنْ تُعِيدَهُمْ :
“ أعِيْدِيْنَا
سَنَرْمِيكِ أيَّتُها الكَامِنَةُ بِالنَّدى وَالزَّعفرَانِ
، طَالِعِيْنَ على الصَّباحَاتِ الشَّرِيدةِ
، هَادِئينَ ؛ حَتَّى لانُزْعِجَ انْشِغَالَكِ في الأعَالي ، أوْ يُزْعِجَكِ النِّداءُ ؛ ذو الأجْنِحَةِ المُسْتَرِيْبةِ ، وَاللهيبِ ،
وَليْسَ علينا سِوَى مَا عَلَينَا :
حَنُوطُ النِّهَايَاتِ وَأعْوِيةٌ ..
ضَعِيْنَا في غِيَابِكِ .” (ص : 37)
أمَّا الشَّاعرُ ، فتختلِطُ عليْهِ الرُّؤى ؛ حيْثُ لمْ يعُدْ قادرًا على تمييزِهَا ؛ فهِيَ لمْ تعُدْ جُثَّته :
” جُثَّةُ مَنْ يَا جُثَّتِي ؟ .” (ص : 37)
إنَّ الشَّاعرَ وَهُوَ يخرُجُ منْهَا يُطَالبُهُ المَوْتَى بأنْ يُبْعِدَهَا عنْهُمْ :
” : أغِثْنَا يَا شَرِيْفُ ، وَاْرفَعْ هَذِهِ الجُثَّةَ عَنَّا ، هَكَذَا ، هَكَذَا ، وَأَنَا مَاضٍ إلى سَعِيْرِي ، لا أُبَالِي ، مَاضٍ مُضِيْئًا ؛ كَهَوَاءِ القِيَامَةِ ، إلى مَا ليْسَ يَعْرِفُنِي ، قَتِيْلا .” (ص : 41)
وَلكِنَّ الشَّاعرَ يَرَاهَا ، وَقدْ صَارَتْ غَريبَةً عنْهُ ، فيتسَاءَلُ بمَرَارَةٍ :
” جثَّتِي ، جُثَّةُ مَنْ ؟ ” (ص : 42)
وَهَذا مَا تُفْصِحُ عنْهُ رُؤيَاهُ ، في المَشْهَدِ الأخِيْرِ :
” أُرَجِّحُ أنَّنِي لمْ أكُنْ وَحْدِي ، هُناكَ
وَالأرْجَحُ ، أنَّنِي لمْ أكُنْ في جُثَّتِي ، في
هَذِهِ الليْلةَ أيضًا
وَالأرْجَحُ ، أنَّهَا لمْ تَكُنْ جُثَّتِي .” (ص : 45)
إنَّ الشَّاعرَ وَهُوَ في هَذِهِ المَرْحَلةِ منْ الرؤيَا ، يجِدُ نفسَه غيْرَ آسِف عليهِمَا :
“ دَعُوهَا تَتَضَخَّمُ
أَوْ
دَعُوهَا تَتَسَاقَطُ في مَرَاسِيْمِ الفَنَاءِ .” (ص : 50)
في نَصِّ ” أنَا الَّذي ضَاجَعْتُ أنْثَى الشَّياطيْن” يعمَدُ الشَّاعرُ إلى تهْشِيمِ الدَّالِ الصَّوتيِّ (شَريف) ، إلى فونيمَاتِهِ الأوَّليَّةِ ، وَيَضَعُ كلَّ فونيمٍ (حَرْفٍ) ثُرَيَّا لكُلِّ مَقْطعٍ منْ مَقَاطِعِ النَّصِّ المَذْكورِ ، وَقدْ تبدو هَذِهِ رَغبَةٌ مَكبوتَةٌ في لا شُعورِ الشَّاعرِ في العَودَةِ إلى حَالةِ مَا قبلَ الوِلادَةِ ؛ فَهُوَ بعْدَ أنْ أبْصَرَ الجُثَّةَ ، وَقَدْ فنِيَتْ ، أوْ لمْ تعُدْ لهُ بصِفتِهَا مَدْلُولا ؛ فهُوَ بتهشِيمِهِ الدَّالَ ، يكونُ قدْ غيَّبَ العَلامَةَ (الجُثَّةَ – شَريف) بأجْمَعِهَا ؛ سعيًا إلى الرِّجُوعِ إلى حَالةِ مَا قبْلَ الوِلادَةِ (الوَعْي) .
إنَّ الشَّاعرَ في المَقطَعِ المُعَنونِ (ش) ، يتكلَّمُ عنْ رَأسِهِ ؛ فهِيَ تارَةً نخلَةً ، وَتَارَةً شُعْلَةٌ ، وَتَارَةً مَدينَةٌ شَاغرَةٌ ، وَيَراهَا مَمَرًّا للعَوَاصِفِ ؛ وقاذفةً العَوَاصِفَ ، لكِنَّ الجِسْمَ يبقَى في الرَّملِ :
“ تَنَزَّهَتْ العَواصِفُ الَّتي اخْتَرَقتْ فَرَاغَ عَيْنَيْكَ ، في رُبُوعِكَ ، فَبَصَقْتَهَا في جَحِيْمٍ ، يَمْضِي ؛ فَأَسَّسَتَ الصَّواعِقَ ، في الأعَالي . مَاذَا سَيَفْعَلُ جِسْمُكَ الَّذِي يَتَلوَّى – بِدِونِكَ – في الرِّمَالِ ؟ .” (ص : 56)
في المَقطَعِ الَّذي عتبتُهُ الفونيمُ (ر) ، يَسْتدرِجُ الشَّاعرُ رَأسَهُ ، إلى كَمِيْنٍ مُحْكَمٍ ؛ حيْثُ يُنَادِيْهِ بالحَبيْبِ وَبالسَّيِّدِ وَبالحُوذِيِّ ، وَيدعُوه أنْ يَسْتدرِجَ الغَرَائزَ ، وَيدعُوه إلى المَرَاقبَةِ :
” ، وَاسْحَب الْهَوَاءَ المُتَجَرِّدَ النَّافِقَ ، خَلْفَ مَقْطُورِتكَ المَمْلؤةِ بالكَوَابِيْسِ الَّتي تَعْوِي ، إلى أنْ تَعُودَ الأعَاصِيْرُ إلى رُشْدِهَا ، وَلا تَنَمْ أيُّهَا الحُوْذِيُّ ، في هَذِه الليلَةِ المُبَارَكَةِ ، ازْجَرْ حِصَانَكَ ، الذِي يَسْتَدْرِجُ النَّوْمَ فَيَسْتَدْرِجُهُ ، حَتَّى يَغِيْبَ ، وَقِفْ على هَذِه البُقْعَةِ ، وَاسْتَدْعِ الغَرَائِزَ، الليلةَ ، مِنْ أعْشَاشِهَا ، وَارْقُبْ .” (ص : 57)
إنَّ الشَّاعرَ لا يُسَيطِرُ على رَأسِهِ العَنِيدَةِ ، في هَذا المَشْهَدِ الضَّارِي ، فيلتفِت إلى أنَاهُ ، مناشِدًا :
” انْتَظِرْ يَا شَرِيفُ ، تَرَبَّصْ
مَعِي ، وَتَحَسَّسْ مِطَواتَكَ الَّتي كَصَبَاحٍ في بَنْطَلونٍ
، لا تَنْدَفِعْ ، وَتَمهَّلْ مَعِي يَا شَرِيفُ .” (ص : 59)
فقدْ ضَاقَ ذَرْعًا بشَريف العَنيْدِ وَالمُنْدِفعِ وَالمُحَلِّقِ ؛ حيْثُ يتَّهِمُهُ بمُضَاجَعَةِ أنْثَى الشَّياطِيْنِ :
” ، جِئْتُكَ يَا حَبِيْبي ، أنْتَ الَّذِي ضَاجَعْتَ أُنْثَى الشَّيَاطِيْنَ ، لنْ أُمْهِلَكَ الليلةَ ، هَا هُنَا .” (ص : 60)
وفي الفونيمِ الأخِيْرِ؛ (ف) ، يقبِضُ الشَّاعرُ رُوْحَ (شَريف) ؛ مُعلِنًا انتهاءَ الوَقْتِ الأخِيْرِ :
” سَأَقْبِضُ رُوحَكَ الآنَ ، انْتَهَى الوَقْتُ الأَخِيْرْ .” (ص : 61)
وفي النَّصِّ الأخِيْرِ مِنْ هَذا القصِيدِ ؛ المعنونِ بـ ” ارْفعِينا إلى ثُريَّاتِ الجُنونِ”، ينعطِفُ الخِطَابُ انعطَافةً عكْسِيَّةً ، بعروجِهِ المُعَاكِسِ منْ مشْهدِ الجَحِيمِ إلى مشْهدِ الحَيَاةِ :
” الهَوَاءُ خِبْرَتُنَا الأخِيْرَة ُ
سِيْرَتُنَا إلى نِهَايَاتِ البَيَاضِ
نُطَوِّحُ أرْجُلَنَا وَنَجِيءُ
، بِلا أرْوقَةٍ نَمْتَطِيْهَا
، وَلا أقْمِصَةٍ أوْ رِتُوشٍ
، بِلا وَهَنٍ على هَدْمٍ ، وَأحْشَاؤنَا إلى الخَارِجِ
أجْسَادُنَا تَرْشَحُ بِالجَنَازَاتِ
، ولا نَبْتَغِي شَيْئًا ” (ص : 65)
حيْثُ ابتدَأتْ الرِّحلةُ المُعَاكِسَةُ ؛ بسَحْقِ الأسْئلَةِ المُحْرِقَةِ ، ثمَّ الابترَادِ :
” الأسْئِلَةُ الَّتي حَرَّقَتْنَا سَحَقْنَاهَا بِالنِّعَالِ
، وَابْتَرَدْنَا على المَدَاخِلِ
؛ على المَدَاخِلِ الَّتي لمْ تَتَّسعْ لِسِوَانَا
، وَلَمْ نَنْتَظِرْ أحَدَا .” (ص : 66)
إنَّ الرِّحلةَ مُوشُومَةٌ برَائِحَةٍ سِحريَّةٍ وَغَرَائبيَّةٍ :
” الرَّائِحَةُ الَّتي بَزَغَتْ عَلَّقَتْنَا في الهَوَاءْ
؛ في الهَوَاءِ الَّذي لمْ يَنْفَتِحْ لِسِوَانَا
، وَغَادَرَتْنَا خُلْسَةً .” (ص : 68)
إنَّ الاقترَابَ منْ العَالمِ الطَّبيعِيِّ يعنِي الوُصُولَ إلى رِحَابِ الحَيَاةِ ، ببرقِهَا وَعبيْرِهَا وَصَبَاحَاتِهَا وَمَسَاءَاتِهَا وَجُنونِهَا أيضًا :
” هُبُوبُكِ هُبُوبُ الصَّاهِلاتِ على خُطَانَا
، وَلا نَعْلَمُ كَيْفَ الوصُولُ إلى رِحَابِكِ
أدْرِكِيْنَا مَرَّةً
وَارْفَعِيْنَا إلى ثُرَيَّاتِ الجُنُونْ .” (ص : 69)
وَإذْ نُنهِي هَذِهِ القََرَاءَةَ السَّريعَةَ ، نجِدُ أنَّ تجربَةَ الشَّاعرِ شَريف رزق ، ذَاتَ نكهَةٍ مِصْريَّةٍ خَالصَةٍ ، مُتميِّزةٍ بأدائِهَا ، وَخَلْقِ عَوَالمَهَا الفَريدَةَ ؛ عَوَالم تُدْهِشُنا ، وَتُحَلِّقُ بنَا عَاليًا ، وَلا غَرَابَةَ ؛ فهِيَ صُنْعُ خَيالِ شَاعرٍ ننتظِرُ منْهُ الكَثيرَ .
(1999)