هنَا فقط تتبدَّى المشكلَةُ : التَّقسِيمُ السِّيمتريُّ ؛ العَزْلُ الَّذي يبرِّرُ نفسَهُ بالمزيدِ مِنْ التَّصنيفَاتِ ، فيمَا يبدو المُصْطَلَحُ عَصِيًّا على حَفْرِ نفسِهِ على وَجْهِ العُمْلَةِ ؛ فالقصِيدَةُ غضَّةٌ وَمُعْضِلاتُهَا عَصِيَّةٌ على التَّصنيفِ ، وواقعُهَا الَّذي نَبَذَ الآبَاءَ ، لا يتورَّعُ بطبيعَةِ الحَالِ عنْ نبذِ الأبنَاءِ ثمَّ الأحفَادِ .
هَذا وَاقعٌ يؤكِّدهُ رزق في بابِهِ قبلَ الأخيرِ: ” مُشْكلاتُ قَصِيدَةِ النَّثرِ الرَّاهنَةِ ” ؛ فهوَ يَرَاهَا في مَأزقٍ حقيقيٍّ ، وَيرصُدُ ذلكَ على نحوٍ مُحدَّدٍ ، مُتمثِّلاً في : ” تماهِي الأصْوَاتِ في صَوْتٍ واحِدٍ ، الاسْتِسْلام للدَّفق التَّقريريِّ وَالمباشَرَة ، تَجَاوُز قَصَيدَةِ النَّثرِ إلى نثرِ القَصِيدَةِ ، التَّخلي عَنْ مبدأ التَّكثيفِ ” ، وَيُقدِّمُ لنَا رزق ـ في جُرْأةٍ لا يتوفَّرُ عليهَا نقَّادُ أيَّامِنَا – نماذجَ شِعريَّةً دالةً على كلِّ مُعضِلةٍ ؛ لكنَّ المثيرَ وَاللافتَ في الأمْرِ أنَّ الأسْبابَ الَّتي وَرَدَتْ في نهايَةِ الكتابِ كدليلِ إدانَةٍ ، هِيَ نفسُهَا الأسْبابُ الَّتي قامَتْ عليهَا ، لَدَى النَّاقدِ ؛ كأسْبابٍ للتَّمايُزِ منذُ الصَّفحاتِ الأولى للكِتابِ ؛ فهوَ يُشِيرُ إلى مُلاحَظَةٍ عامَّةٍ وَمُهمَّةٍ ؛ هِيَ أنَّ هاجسَ التَّحزُّبِ للشَّكلِِ صَارَ أكبرَ مِنْ هاجسِ الشِّعريَّةِ نفسِهَا ، على الرَّغمِ مِنْ أنَّها تُمثلُ المحطَ الرَّئيسيَّ للصِّرَاعِ ، ويختتمُ رزق مَخَاوفَهُ بِالتَّقريرِ بأنَّ طُغيانَ النَّزعَةِ اليوميَّةِ وَالجُزئيَّةِ في قَصِيدةِ النَّثرِ العَربيَّةِ لمْ يُصَاحبْهُ في الغَالبِ وَعيٌ بمقتضَيَاتِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ في الشِّعريَّةِ الأوروبيَّةِ ، وَيضرِبُ مِثالاً على ذَلكَ بجاك بريفير وريتسوس ؛ الَّذي يُعتبَرُ الـتَّأسِي بشعريَّتِهِ في مَوضِعٍ آخرٍ مِنْ الكتابِ وَبَالا على الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، لاسِيَّمَا أنَّ التَّأسِي فَقَدَ الكثيرَ مِنْ بريقِهِ ، بسَببِ فُقدَانِ الوَعْي بالفَلْسَفةِ الكَامِنَةِ خَلْفَ فكرتيْ التَّكثِيفِ وَالرَّاهِنيَّةِ ، كَنَسَقٍ ظلَّ يعملُ ضِدَّ العرفانيَّةِ وَالذَّاتيَّةِ وَاللغَةِ التَّاريخيَّةِ .
منْ هُنَا وَكَمَا يُشِيرُ رزق في كتابِهِ ، فقدْ لَعِبَ العَالمُ الدَّاخليُّ دَورًا مُهمًّا في إبطالِ الدَّورِ الاجتماعيِّ للعَمَلِ الأدبيِّ ؛ حَيْثُ اعتُبِرَ الوَعْيُ الذَّاتيُّ ، لا الوَاقعُ الخَارجيُّ محورًا أسَاسيًّا للإبدَاعِ ، وَهُوَ الحِسُّ النَّاتجُ عنْ الشُّعورِ العَامِّ بالاغتِرَابِ الَّذي لازَمَ النَّصَّ .
لكِنْ لمْ يَسَألْ أحَدٌ منَّا نفسَهُ : هلْ كُلُّ هَذِهِ المُواصَفَاتِ المَطروحَةِ أرْضًا ، صَالحَةٌ دَائمًا لإنتَاجِ الشِّعرِ ، نَاهيكَ عَنْ قدرتِهَا على إنتَاجِ شِعريَّةٍ جديدَةٍ ؛ فاحْتِقارُ الأيديولوجيا على سَبيل المِثالِ ، أخْرَجَ منْ أدبياتِنَا تاريخيًّا وَأخلاقيًّا ، هؤلاءِ الَّذين سَاعدُونَا على اسْترجَاعِ صَوْتِنَا في الشُّئون العَامَّةِ وَالخاصَّةِ ، وَمَهَّدُوا لتوسِيعِ حدودِ طَبَقاتٍ اجْتِمَاعيَّةٍ مَسْحوقَةٍ ؛ نحنُ على رَأسِهَا ، وَهُو الأمْرُ الَّذي أعْطَى ، في لحْظَةٍ منْ اللحظَاتِ ، قيمَةً رفيعَةً لمَعْنَى الالتزامِ في الفنِّ وَالأدَبِ .
فهلْ يُمكِنُ لهذِهِ الانقلابَاتِ الأخلاقيَّةِ أنْ تملكَ دائمًا مُبرِّرَاتِ الإزَاحَةِ ؟
يحدثُ ذلكَ أحيانًا .
فقدْ حَدَثَتْ في بدايةِ القرْنِ ردودُ أفعالٍ عنيفةٍ ضِدَّ الرَّمزيَّة ، وَضِدّ كلِّ مَا هو ذهنيٌّ ، وَدُعيَ النَّقدُ الغربيُّ إلى الاقترَابِ منْ الحَيَاةِ أكثرَ، أوْ الاندفَاعِ نحوَ مَا أسْموهُ ، الحقيقةَ الملموسَةَ ، وَقدْ شَهدتْ فرنسا بالفعلِ تيَّارًا يتبنَّى هَذا الشِّعرَ الملموسَ مُنذُ العَامِ 1910، إلاَّ أنَّ وَاقعَ الشِّعرِ الأوربيِّ تغيَّرَ تمامًا ، بعدَ الحَرْبِ العالميَّةِ الأولى ؛ فقدْ ظَهَرَتْ الدَّادئيَّةُ وَالسُّورياليَّةُ ؛ لِتُحطِّمَا قُوَى النِّظامِ وَالتَّنظيمِ الفّنِّيِّ تمامًا .
وَقدْ أوْلى النَّاقدُ شريف رزق اهتمامًا كبيرًا لموقفِ الرُّوادِ ِمنْ قَصِيدَةِ النَّثرِ ؛ سَوَاء برفضِهَا أوْ بتبنِّي مَقُولاتٍ مُنَاهِضَة لمَقُولاتِهَا ؛ حتَّى هؤلاءِ الَّذين انبنَى جزءٌ مِنْ شيوعِهمْ عليهَا ، لِننظُرْ مثلاً مَا يقولُهُ أدونيس: إنَّ لغةَ الشِّعرِ تُفلِتُ مِنْ كلِّ تحديدٍ،
يقولُ مثالاً: ثمَّ يُؤكِّدُ ، في الوَقتِ نفسِهِ ، على أنَّ الشِّعرَ الجديدَ يفتقِدُ الخَاصِيَّةَ الأوْلى للحداثةِ ، وَهيَ الرُّؤيةُ النَّابعةُ ، في نظرِهِ ، منْ موقفٍ حتميٍّ لتفكيكِ بنيَةِ العَالمِ القديمِ بأصُولهَا المَعرفيَّةِ وَالجَمَاليَّةِ ، وَبالعِلاقاتِ الَّتي أسَّسَتْ لهذِهِ الأصُولِ .
أمَّا محمود درويش فيعتبرُ الدِّفاعَ عنْ الشِّعرِ، دفاعًا عنْ روحِ الأمَّةِ ، وَوجودِهَا الثَّقافيِّ ، وأنَّ التَّجديدَ وَالحَدَاثَةَ يُرَادُ لهُمَا أنْ يَتَحوَّلا إلى مُرَادفينِ للعَدمِيَّةِ وَللثَّورَةِ المُضادةِ أحيانًا ؛ حيثُ لا يُصْبحُ هنالكَ معنَى للأشيَاءِ .
وَكذلكَ يُؤكِّدُ سعدي يوسف أنَّ قصِيدَةَ النَّثرِ العَربيَّةِ ، ارْتكنَتْ إلى مَرجعيَّةٍ ضَعيفَةٍ ؛ هيَ مرجعيَّةُ الشِّعرِ الفَرنسِيِّ ، وَأنَّهَا في مُعظَمِ الأحْوَالِ ، اعتَمَدَتْ التَّقليدَ المُطلَقِ للمَجَازِ وَالاسْتِعَارَةِ ، وَأنَّ الفَارقَ الوَحيدَ بينَهَا وَبينَ قَصِيدَةِ التَّفعيلةِ ، هُوَ خلوُّهَا مِنْ الوَزنِ ، بينَمَا كلُّ تقنياتِهَا تقليديَّةٌ وَمُتخلِّفَةٌ.
وَلا يختلِفُ الخِطابُ المُضْمَرُ لمحمَّد عفيفي مطر عنْ سَابقيِهِ ؛ إنْ لمْ يكُنْ أكثرَ عنفًا ، وَقدْ عبَّرَ عنْ ذلكَ بصورٍ مُتعدِّدةٍ ، وَرُبَّمَا كَانَ رَفْضُهُ للأبنيَةِ اللغويَّةِ القائمَةِ ، هُو منْ قبيلِ الدِّفاعِ المُستميتِ عنْ بناءَاتِهِ اللغويَّةِ الفخْمَةِ ؛ الَّتي تُؤسِّسُ مشروعَهُ في مُجْمَلِهِ، أمَّا حَديثُ حجازي عَنْ رَهْنِهِ تحقُّقٍِ الشِّعرِ بِالوزْنِ ؛ باعْتبارِهِ شَرْطًا لازمًا لا يقومُ الشِّعرُ خارجَهُ ، فإنَّهُ يُثيرُ، منْ جديدٍ ، قضيَّةً شائكةً وَمُلتبِسَةً ، حَسَمَ أمْرَهَا الأقدمونَ ، وَوجَّهُوا بسببِهَا انتقادَاتٍ حادَّةً إلى بحورِ الخليْلِ بن أحمدَ ، وَلمْ يتوَانَ شريف رزق عنْ ضَرْبِ عَشَرَاتِ الأمثلةِ بهؤلاءِ الَّذين خَرجُوا ، عَامِدينَ ، على المُستقرِّ منْهَا مثلَ : عَبيد بن الأبرصِ ، الأسْود بن يعفر، عُروة بن الوردِ ، أميَّة بن أبي الصَّلت ، ثمَّ في عصْرِ الخليْلِ ، حَيثُ خَالفَهُ : أبو العتاهِية وأبو نُواس ، وَرُزين بن زندور ، ثمَّ خَالفَهُ المُتنبِّي . لذلكَ يُمكِنُ وصْفُ الخِطابِ الرِّيادي الفائضِ برسوليَّتِهِ ، كَمَا يُشِيرُ المؤلِّفُ ، بأنَّهُ يرفضُ خِطابَ المُستقبَلِ جُملَةً وَتفصِيلاً، وَإنْ اخْتلفَتْ الأسْبَابُ ، وَهُوَ موقفٌ لا يختلِفُ مَعَ أصوليَّتِهِ ، ويبدو شديدَ الاتِّسَاقِ مَعَهَا . وَأظنُّ أنَّ كتابَ ” الكِتابِ ” لأدونيس ، هُوَ أعْلَى تمثِيلاتِ هَذِه الأزمَةِ ؛ فهو بحقٍّ أعْلَى تمثِيلاتِ هذه الشِّعريَّةِ الرَّسوليَّةِ ، وَلمْ يكتُبْ أدونيس حرفًا وَاحِدًا فيْهِ خَارجَ هذه الرُّوحِ ؛ بلْ إنَّه يُحاولُ ، مُنذُ عنوانِهِ ، وَضْعَ الدُّستورَ النِّهائيَّ للشِّعرِ وَالمَعرفةِ ، وَكأنَّهُ السَّقفُ الأخيرُ الَّذي تنتهِي عندَهُ الأشْيَاءُ ؛ بلْ إنَّهُ يهدُفُ إلى التَّساوقِ مَعَ أعْلَى نُصوصِ العَرَبيَّةِ قَدَاسَةً ، وَكأنَّهُ شريعَةٌ أخْرَى ، تأتِي في الخِتامِ ، لرَاهِبٍ عظيمٍ ، قَضَى عُمْرَهُ في وَضْعِ السُّننِ الجَديدَةِ للحَيَاةِ وَللكوْنِ مَعًا ، وَمِنْ هُنَا يأتِي تعاليْهِ ، وَتأتِي ذهنيَّتُهُ ، وَيأتِي احْتماؤهُ بالمَعْرفَةِ ، وَمِنْ هُنَا أيضًا يأتِي تنكيلُهُ بالشِّعريَّةِ ؛ الَّتي أخفضَ أدونيسُ منْ شأنِهَا ، لِحِسَابِ كلِّ العناصِرِ الَّتي تقِفُ خلفَهَ.
لكنَّني لا أوَافِقُ شريف رزق على تناوُلِ قَصِيدَةِ النَّثرِ بهذِهِ العُموميَّةِ ، وَبالطَّريقَةِ الَّتي قالَ بهَا ناقدٌ مُفرطٌ في عموميَّتِهِ : إنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ، ” أداةٌ لمُعَاينَةِ العَالمِ ، وَتأمُّل شرْطِ الوجُودِ الإنسَانِيِّ ” ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مثلُ هذه التَّعمِيمَاتُ وَرَاءَ المُبَالغَاتُ الَّتي أكَّدَتْ عليْهَا القَصِيدَةُ ، وَانْدَفَعَتْ نَحْوَهَا في عَشْوائيَّةٍ ، وَظلَّ ذلكَ جُزءًا منْ المَحَاذيرِ الَّتي طَرَحَتْهَا قَصِيدَةُ النَّثرِ برَاهنيَّتِهَا المُطلَقَةِ وَالمُخِيفَةِ وَبروحٍ قطِيعيَّةٍ ، لمْ تُفرِّقْ بينَ العَامِّ وَالخَاصّ.
وَعلى الرَّغمِ منْ التَّمايُزَاتِ اللافِتَةِ الَّتي طَرَحَهَا عديدٌ منْ الأصْوَاتِ الشِّعريَّةِ الجَديدَةِ ، إلاَّ أنَّ لغَطًا كثيرًا وَتشَوُّهًا في المَفَاهِيمِ وَالمَقُولاتِ ، دَفَعَ إلى درجَةٍ منْ العُنفِ المُتبادَلِ ، بينَ مُختلَفِ التَّيارَاتِ المُتَصَارعَةِ ، وَأحْيانًا بينَ أبناءِ التَّيارِ الوَاحِدِ ؛ لذلكَ مَازلتُ مُندهِشًا منْ تقسِيمِ شريف رزق شُعرَاءَ قَصِيدَةِ النَّثرِ إلى تيَّاريْنِ رَئيسيَّينِ ؛ أوَّلُهُمَا التَّيارُ الحَدَاثيُّ القادمُ ، حسبَ تعريفِهِ ، منْ تُرَاثِ قَصِيدَةِ التَّفعيلَةِ ، وَثانيهُمَا التَّيارُ مَا بعدَ الحَداثيِّ ؛ الَّذي يبدو في نظرِ رزق هُوَ الأخْلَصُ للمفاهيمِ الجديدَةِ ، وَيَبْقَى لَدَى النَّاقدِ تيَّارٌ حائرٌ، يقفُ بينَ التَّيارينِ ؛ هُو الَّذي يُمَاهِي بينَ الحَدَاثَةِ وَمَا بَعْدَهَا.
وَيَبْقَى في النِّهايَةِ نَاقدُنَا وَشَاعرُنَا شريف رزق وَاحِدًا مِنْ أخْلَصِ أبنَاءِ جِيلِهِ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ؛ كتابَةً وَنقدًا ، وَهُوَ ، بامْتيازٍ، وَاحِدٌ منْ ألمَعِ كاتبيْهَا وَنَاقديْهَا.