٢ـ فى المساء:
عندما وضع جارنا شارة الدفاع المدنى الحمراء على ذراعه،
كنا نراقبه بعيون منبهرة
ثم تبعناه فى الشوارع الجانبية، وهو ينادى على من في البيوت ليطفئوا الأنوار،
بعد قليل كنا وحدنا، بعض الصبية ننتقل بهمة من الحارة للأخرى،
نزعق تحت شرفات البيوت وزجاج الشبابيك المغطاة بالورق الأزرق الثقيل،
“طفى النور ياولية، ده أحنا عساكر دورية”
٣ـ مسعد :
كان مسعد يكبرنا بسنوات كثيرة، وكان يبادلنا الحديث والضحك أنا وأخيه الأصغر
وكنا دائما نستعطفه أن يمنحنا عجلته لندور بها دورتين حول محلج بركات،
فيرفض بحجة سيل العربيات التى تمر فى الشارع الكبير
لكنه كان يلين فى النهاية تحت إلحاح أخيه،
ويترك لنا عجلته الضخمة التمانية والعشرين،
نعافر معها بسيقاننا القصيرة، وعندما يبدأ مسعد تشحيم جنزير عجلته،
فيضعها مقلوبة على شوال الخيش، نجلس أمامه نتابع ما يفعله بإهتمام وشغف
وأم مسعد التى تشاهدنا من شباك الدور الأرضى،
تناولنا في بعض الأحيان أكواب السوبيا أوالعناب المثلج لنروى عطشنا
٤ـ الحزن :
كان هناك حزن يخيم على الشارع الصغير،
فالناس متجهمة
ولعبة عساكر الدورية لم تعد مسلية،
ودراجة مسعد فى غرفة الكراكيب على سطوح بيتهم،
ومسعد نفسه لم نروجهه منذ آخر يوم فى أجازته الميرى،
لم يعد من يومها، وقالوا إنه فى عداد المفقودين،
وكان أخوه الصغير صاحبى،يبكى كلما تكلمنا عنه
حتى هذا اليوم الذى سمعنا فيه فجأة صراخ وعويل وصوات فى بيت مسعد،
ففهم كل من فى الحى أن ماكانوا يخشون منه قد حدث،
وأنهم قد تلقوا الخبر ،
فبكى البعض،
وجرت النساء ناحية بيت أم مسعد،
بينما أخذ الرجال يرددون بحزن
لاحول ولا قوة إلابالله
٥ـ منذ ذلك اليوم :
منذ ذلك اليوم
ولوقت طويل طويل،
كأن رائحة الموت والحزن قد سكنت الشارع الصغير
وفى الليل كنا نري غرفة أم مسعد مضيئة،
تمضي وقتها في قراءة القرآن،
وفي كل صلاة كانت تصلي مرتين
مرة لها، ومرة لابنها
وفى صمت الليل في شارعنا الصغير
كان الساهرون على حواف الشرفات،
والجالسون فى ظلمة البلكونات
يسمعون صوتها يتلو الآيات، وهويتقطع ببكائها حتى يعوقها عن القراءة،
فتتوقف،..
وتنخرط فى وصلة بكاء ونحيب يسمعه الجميع صامتون.
ــــــــــــــــ
قاص مصري يقيم في فرنسا