تعيش غزة المحاصرة الآن – وكالعادة – حربا إسرائيلية فاشية تستغل القطاع المحاصر لتحقيق أهداف سياسية للسلطة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، والثمن يدفعه الفلسطينيون الأبرياء في غزة، المحاصرون دوما، المتهمون بدون جريرة سوى وجود حماس بينهم.
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في 25 يناير عام 2006م شددت إسرائيل حصارها على قطاع غزة، وأعلنته كيانا مُعاديا، وأغلقت المعابر الحدودية، ومنعت أهله من الدخول أو الخروج، كما منعت دخول البضائع، وهددت بقطع الوقود عن غزة، بل وتم قطع إمداد الوقود بالفعل عام 2008م، كما قامت إسرائيل بالعديد من الهجمات العسكرية على غزة، كعملية “الرصاص المنصهر” التي بدأتها القوات الإسرائيلية أواخر عام 2008م واستمرت في عام 2009م، وما بعدها من هجمات وغارات، ليصبح القطاع مُحاصرا حصارا كليا، بسبب قبضة إسرائيل من جانب، وسياسة حماس نفسها من جانب آخر.
وفي إطار صعود تيار شعر الاحتجاج السياسي في إسرائيل، نشطت مجموعات من الشعراء، الشباب والكبار، الذين ينظمون شعر احتجاج عبري شديد اللهجة ضد الممارسات الإسرائيلية القمعية بحق الفلسطينيين، وذلك في إطار ظهور تيارات أدبية وفكرية جديدة تحت لواء “ما بعد الصهيونية”
وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة 2008- 2009، وبعد اثنتي عشرة ساعة فقط من عملية “الرصاص المنصهر” التي قام بها الجيش الإسرائيلي في غزة أصدرت مجموعة من الدوريات الأدبية اليسارية معاً مجموعة شعرية، إضافة إلى مجموعة من الرسوم التصويرية لفنانين يساريين، تم جمعها معا تحت عنوان: “اخرجوا”. (ترجم منها عدة قصائد الباحث والصحفي نائل الطوخي ونشرها في عدد من مجلة الغاوون الشعرية اللبنانية).
ومن أكثر الشعراء الإسرائيليين معارضة للممارسات الإسرائيلية القمعية بحق الفلسطينيين “أهرون شبتاي” (1939- )، الذي يوصف بأنه مغن خارج السرب، حيث اشتدت حملاته الشعرية الاحتجاجية على السياسة الإسرائيلية، معتبرا أن ما تمارسه إسرائيل من حصار خانق على غزة شبيه ما كان يحدث في “الجيتو” الذي يُروج اليهود إلى أنهم تعرضوا فيه إلى صنوف من القمع والتعذيب والحصار إبان نظام النازي في أوربا.
من بين ما كتب “شبتاي” من قصائد احتجاجية تتعاطف مع الفلسطينيين في غزة قصيدة بعنوان “غزة 15/ 1/ 2008″، وتعد شهادة بما ترتكبه القوات الإسرائيلية، يقول “شبتاي” في القصيدة:
“وزير الدفاع هذا
هؤلاء الطيارون
هذه الدبابات
كانوا بلا تردد
لَيقتلون أيضا جان جاك روسو
يقصفون
بيت فولتير
يقطعون أرجل
فردريك جرسيا لوركا”
للتأكيد على همجية العسكرية الإسرائيلية، واستعدادها المطلق للقيام بعمليات القتل والقصف والتعذيب؛ صوّر “شبتاي” إسرائيل بالسفاح الذي لا يتورع عن قتل الفلاسفة والكتاب والشعراء والفنانين الذي يفيدون البشرية جمعاء، وأعطى مثالا على هذا بثلاثة ممن أثروا الحياة الفكرية والثقافية، بل والاجتماعية والسياسية في العالم، وربما لم يكن ذكره لأسماء هؤلاء الثلاثة عبثا، فإسرائيل حين لا تتورع عن قتل فيلسوف بحجم “جان جاك روسو” فإنها تقضي متعمدة على منابع الفلسفة والفكر والرومانسية، وحين لا تتردد في قصف منزل “فولتير” الذي ــــ بجانب نتاجه الفكري الفلسفي الثري ـــــ تنقّل وعاش في قصور وبيوت تحمل سمات معمارية أثرية، فإنها ــــ أي إسرائيل ــــ ترتكب عملا همجيا يدمر جانبا من الموروث الحضاري الراقي للإنسان، لأي إنسان يؤمن بالحضارة ويرفض العنف غير المبرر، كذلك يتعمد الشاعر أن يذكر واحدة من صور التعذيب وهي قطع الأرجل، مصاحبة للشاعر والرسام والعازف “فردريك جارسيا لوركا” الذي كان ميّالا للتجوال والطواف في أنحاء إسبانيا دون التقيد بمكان واحد ينهل منه الفكر والثقافةوالفن، والذي كتب أعمالا جمعت حصيلة تجواله، فبقطع رجلي فنان وأديب ورحالة كهذا تقضي إسرائيل على التراث الفكري والفني الإنساني.
فالقصد من هذا التمثيل أن إسرائيل تقضي على جزء من التاريخ البشري الحافل، وفي إطار هذه الصورة ذكر الشاعر أساليب قمع إسرائيل للشعب الفلسطيني ومقاومته، حيث القتل، وهدم منازل المدنيين على ساكنيها، والتعذيب.
وتوالى صدور المجموعات الشعرية لشعراء يساريين، ومنها مجموعة “شعر يحطم الجدار” التي صدرت في عام 2010م، واحتوت على قصائد احتجاج ألقاها مجموعة من الشعراء الفلسطينيين والإسرائيليين، بالعربية والعبرية، في أمسية ثقافية بمدينة حيفا، احتجاجا على استمرار الممارسات الإسرائيلية القمعية بحق الفلسطينيين، واستمرار بناء الجدار العازل، وتحدي الرأي العام العالمي، وتحمل كذلك بعضا من الاعتراف بحق الفلسطينيين في العيش الآمن على أرضهم التي سُلِبت منهم قسرا.
من بين قصائد هذه المجموعة مقطوعة شعرية صغيرة أغلبها بلغة عربية مكتوبة بحروف عبرية، كتبها الشاعر “ماتي شموئيلوف” بعنوان “غزة 1” يخاطب فيها القطاع المُحاصر بلهجة حميمية:
“غزة يا جميلة
يا مسعودة
يا حمامة، يا غزة
يا عزيزة
يا جواهر
يا حبيبة قلبي
ستعودين إلى جمالك مُجددا”
وأتبع ” شموئيلوف” قصيدته باثنتين تاليتين، سماهما “غزة 2″، و”غزة 3″، وهذه مجرد أمثلة لقصائد احتجاج سياسي، ينظمها كل يوم شعراء إسرائييين، كبار وشباب، رجال ونساء، من أصول شرقية وغربية، ربما إحساسا منهم بالذنب تجاه ما ترتكبه حكوماتهم ضد الفلسطينيين في غزة وغيرها، وربما تعبيرا منهم عن خوفهم من استمرار دائرة العنف والقتل والاحتلال، التي سجنت المواطن الإسرائيلي خلف جدار العزل الذي كان من المفترض أن يعزل الفلسطينيين، لكن الإسرائيلي نفسه أصبح سجينا معزولا خائفا خلف الجدار، يتساءل – كمواطن وليس عسكري- عن نهاية هذا الصراع الطويل.
ربما يصبح الشعر والأدب والفن أسلحة ماضية يواجه بها المبدعون أسلحة القتل والتدمير والاحتلال، وربما لا، ولكن المؤكد هو شعور قطاع كبير من الإسرائيليين بعدم الأمان في وطنهم المزعوم، وشعور البعض منهم بالذنب والتعاطف نحو ما يجري للفلسطينيين على أرضهم.