كرسيان متقابلان .. نصوص تقابل الحياة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحيم يوسف

"دخلنا الشعر والكتابة من بوابة فردية عصامية. فلم يكن هناك تصور جاهز لوظيفة الشعر سوى أنه يكتشف الحقيقة ويقلل الغموض من حولك. أن تتحول الكتابة إلى شكل علمي في حقائقه، وتقريبها من الحياة قدر الإمكان، فالحياة هي مكان الحقائق أو المعاينة أو التدقيق. وأعتقد أن مثاليتنا، ولأن بها هذا النزوع الفردي، كانت مرنة، وقابلة للصدام والتحول، وأن تكون كذلك بداية طريق وليست نهايته، وأن تتعلم منها وتطورها. فالصبغة الشخصية تسمح بأن تظل بعض الخيوط في يدك."

                                            علاء خالد "سيرة صداقة"، أخبار الأدب 29 أبريل 2007

تبدأ الصفحة التعريفية بالشاعر علاء خالد في موقع “مداد – المنتدى الأدبي الألماني العربي”  بهذه الجملة : (يهتم علاء خالد بالتحول من الحدث إلى التذكر) .. والقارئ لديوانه الرابع “كرسيان متقابلان” (شرقيات 2006) يستطيع أن يلمح بسهولة تحقق هذه الجملة. يبدو علاء مهتما ليس فقط بتذكر الحدث؛ وإنما كذلك بتلمس أثره وتمثيله الحي سواء على مستوى المادي الملموس أو على مستوى البعد النفسي الذي تستبطنه الذات الشاعرة ثم تقوم بصياغته في تركيب شعري يمنحه عمقا أكبر وأبعادا أغنى.

نستطيع أن نتبين هذا منذ البداية .. أقصد من عنوان الديوان نفسه (كرسيان متقابلان) .. يمسك الشاعر هنا بأثر اللقاء الذي يجمع شخصين جلسا في مواجهة بعضهما يتحدثان أو يكتفيان بمراقبة بعضهما أو العالم من ورائهما .. العنوان نفسه نجده لقصيدة من قصائد القسم الأول من قسمي الكتاب : (جيرة دافئة) و(سنواتي الجميلة) .. وترد كذلك كسطر مستقل ومحوري في القصيدة ذاتها.

تبدأ القصيدة بأربعة سطور تأخذ بتلابيب الحدث وتدفعه إلى منطقة التذكر :

“لسنوات طويلة

كان يهجره النوم في السادسة صباحا،

فيقوم ليطارده فوق التلال

وأسطح العمارات المجاورة ..” ص 45

ثم ينتقل بنا الشاعر من هذه اللقطة البعيدة التي استطاعت أن تقوم بمسح شعري – ولا أقول سينمائي – للزمان والمكان والعادة / الفعل .. ينتقل بنا الشاعر إلى لقطة مقربة للفعل الذي فقد بعده الزمني كعادة ماضية ليتحول بالفعل المضارع إلى تفاصيل مرئية :

“يستسلم للشرفة

لكوب الشاي النقي

لأول سيجارة سيمتص رحيقها

للجريدة التي لم يجف حبرها

للشارع الخالي من الذكريات” ص 45

“كل شيء لامع

ليست هناك أتربة على الإفريز

ليس هناك من يأتي بعده

ليطعم أسراب النمل ..” ص 46

في هذ المقطع / السطور الأربعة الأخيرة تأخذنا القصيدة إلى أقصى اقتراب ممكن من منطقة الحدث / التذكر قبل أن تمنحنا فاصلا من فراغ قصير .. ثم يبدأ المقطع الكاشف في القصيدة :

“كانت أمه قد ماتت

وبقى هو يتتبع آثارها

في هواء الصباح الباكر

في حنان الشاي

في قطعة البسكويت

التي كانت تدفعها دفعا إلى فمه

فينفرط جزء منها على الأرض.” ص 46

وسط هذه السيولة الشعرية تأتي هذه السطور ذات التركيب المختلف :

“في حواراتهما الهادئة

كرسيان متقابلان

لا مفر من الحب

حتى ولو كان أحدهما فارغًا

حتى ولو كان أحدهما أعزب في الستين.” ص 46

هذا المقطع – في رأيي – يصل بالقصيدة إلى ذروتها .. أقصد ذروة كشفنا للمعنى وذروة إثارتها لمستهدفها العاطفي من وجدان قارئيها، حينها لا يبقى غير هذا الانسحاب الهادئ ذي الأصداء الرومانسية :

“وعندما تصل الشمس إلى حافة الإفريز

ويتبدل الهواء الأمومي

وتنكشف تلك الطبقة الحزينة من الغبار

عندها يقف في مصب أحزان صباحية

لا تُقاوَم بالحنين.” ص 47

هذا الميل إلى التذكر قد يتوارى أحيانا أمام الميل إلى الرصد المحلل كما في القصائد الثماني الأولى من قسم “جيرة دافئة”؛ حيث تضع الذات الشاعرة أمامها مجموعة من الشخصيات المختلفة : خادمة – بوَّاب – مكوجي – العجوز المهاجرة – بائعة العرائس العجوز العانس – الصديق سائق التاكسي – القريبة العجوز – العابر اليومي قارئ الإنجيل .. قبل أن يفسح الرصد المكان مرة أخرى لرفيقه (التذكر) في قصيدة “ميريام ميهينيدو” .. هذا التذكر الذي لم يغب أبدا في القصائد الثماني كفعل تقوم به تلك الشخصيات بشكل صريح أو مضمر. وهذا الرصد الذي لا يكتفي بمهمة تسجيل الحدث؛ بل يهتم أساسا بالوصول إلى الحقيقة الشعرية الكامنة وراء تفاصيله وأبعاده المرئية وغير المرئية.

تهتم قصائد الديوان بقسميه بأن تُجلس الحياة أمامها كي تتأملها بعين هادئة لا تأنف من رومانسيتها أو تورطها في الحنين تارة أو التعاطف تارة أخرى. هذا الشغف بالحياة – رغم الإحساس بالأسى الشفيف أو الشجن الخفيف الذي يخرج به قارئ الديوان – يتجلى كذلك في لغة الكتابة البسيطة والرائقة. هذه اللغة المعتنى بها وفي نفس الوقت الطامحة إلى الوصول إلى أقصى قدر ممكن من الوضوح. وفي سبيلها لتحقيق ذلك تستعين أحيانا بالاستخدام العامي للغة. وهذا الاستخدام يتم تحميله أحيانا بطاقة شعرية تحتملها المفردة في حد ذاتها أو يُوِّلدها سياق استخدامها في الكتابة. مثلا في قصيدة “ماراتونات ضاحكة” ذات العنوان اللافت في استخدامه المختلف لكلمة “ماراثون” نجد هذا السطر : “يقطع كل يوم ماراتونات ضاحكة للعيش والخضار” أو: “مجموعة من القلل علقها جاري لعابري السبيل” ص 11. وفي قصيدة “جيرة دافئة” التي تحمل عنوان القسم الأول كذلك نجد : “ليأخذ صرة الهدوم” “وبكوب ثقيل من الشاي” ص 16.

لكن هذا الاستخدام لا يُفلح دائما في تحقيق هذه المراهنة على شعرة الحياة من جهة وصحة اللغة من ناحية أخرى. المثال على ذلك من نفس القصيدة “جيرة دافئة” ص 19 : “كل زبون يأتي له بالمكواة، يحدد ميعادا دقيقا في اليوم التالي، …” المفروض هنا أن تشير كلمة “مكواة” التي نعرف جميعا أنها أداة الكيّ والتي استخدمها شاعرنا نفسه في القصيدة ذاتها عدة مرات بهذا المعنى، أقول أنها تأتي هنا لتعني الملابس التي يأتي بها الزبون إلى الكوَّاء والتي نسميها في العامية “المكوا” مثلها مثل “المكواة” التي نسميها “المكوا” أيضا في العامية. هذا الاستخدام لتهجئة المكواة في القصيدة والمتأثر بالاستخدام العامي صنع خطأ أو خلطا لغويا هو في الأخير ضريبة لهذا الرهان الخطر.

في قصائد القسم الثاني “سنواتي الجميلة” تتصدر الذات المشهد باعتبارها هدفا للتذكر وللرصد والتحليل. الذات التي اختارت في القسم الأول أن ترينا الآخرين من خلالها، تأتي في هذا القسم لتنظر في مرآتها وتعكس صورتها لنا، وحين يمر الآخرون أمام المرآة – الأب وعاملة النظافة في الفندق – لا تهتم النصوص برصد تجربتهم كما في الجزء الأول قدر ما تعتني بطرح تساؤلات حول رؤيتهم – أي الآخرين – للذات نفسها.

وما بين تمجيد التذكر كطريق تسير فيه الذات كراعٍ رحيم، ومديح النسيان كدواء لآلام الحياة ودليل على حبها، تأتي القصيدتان الأخيرتان : “حافة مضيئة” ص 79 و”………” ص 81 ككرسيين متقابلين تمر من أمامهما الحياة.

                                                                  الإسكندرية في 25 مايو 2007 

                                             (قدمت هذه القراءة في مناقشة الديوان بندوة أصيل الأدبية)

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم