ثمّة مسافة.. ثمّة توقّف.. ثمة صلصلة جرس وهمهمة ناقوس.. ثمة إعلانٌ عوّاء يَبْغَتُ، ويفزّع النائم من مرقده. الانكشاف أمام دورة الزمن القاسية التي تخلخل وتشقّ وتهتك. إن البذرة التي استوت، ها شجرتها عاثتْ يد الأيام بأغصانها، وتهدّل ثمرها معطوبا بأوجاع النسيان وصلفه، وبتصدّع الذاكرة وانسياب ماؤها في الرمل متبددّاً ومتخففاً حتّى من صورة السراب. لا ثمرة. لا ظل. محض كابوس عن مسافرين ضاقت بهم رئة البحر، فقذفتْهم إلى لجّة الغياب، تحكّهم قروحُ الوحشة، محصورين بالعزلة وبعالمٍ قَفْرٍ نُبِذوا إليه، مكشوفين في عراء لا يتندّى شوكه ـ إن تندّى ـ إلا بكأسٍ مترعة بضباب الوهم وخدر الخواء؛ كأسٍ تغيب عن ملمسها “ذكرى تحرق الأصابع” كما يكتب عبده وازن في نار العودة.
الغريب الذي تفوح منه رائحةُ السقوف الواطئة، ينهلّ منها يأسٌ رازح وأرقٌ ينفسح مدى تنغيصه على مدار ساعات الليل البطيئة وساعات النهار الخاوية. الغريب في وشيك الرماد.. الغريب في عُسْرِ الجهات؛ تخزّه هجمةُ الحنين تخضّه من يباسه وحصره ونقصه وحيرته؛ تُوقِفُهُ على النبع البعيد خريرُهُ على مقربةٍ من القلب، سلسبيلهُ لا يغادر أحلامَ الشفتين تزهر في فيضِ المواطئ الأولى، وفي رحابةِ جدران تمتنع أن تكون سجناً، وينفذ مجازها إلى شبكة من الأمان والطمأنينة. لا يصدأ المعنى ولا تغزوه الطحالب، مهما اشتدّ الكرب وغَزُرَ الدّمع، حين تغدو بطانةُ الحماية ـ من المضاء والمتانة ـ أقوى من أيّ خطبٍ ينزل ومن أيّة جائحةٍ تأتي. الغريبُ إذْ ترتعش، بين جنبيه، مُضغةُ الحنين، يهجس يقينا أنَّ عليه تفحّصَ أجنحته. ذلك أنّ أوانَ ترميم الروح دقّتْ ساعتُه، وأنّ خُضرةَ القلب اشتاقتْ إلى مصافحة شمسها الأولى، حيث الأظافر ما تزال ملتصقةً ببهجة الطين، وحيث صلصال الروح ما يزال ينتظر من يجدِّد النقشَ عليه.
إنّ العمرَ الذي تصرّمتْ أعوامه في الغربة، والروابط التي نالها العطب فتوشك على الانحلال؛ ليس كمثل المكان الأول ـ البيت ـ من يعيد اللمعةَ والرنين. ليس مثل البيت الأول يردم الهاويات ويعيد ترميم الروح. العودة إلى البئر المنسية بعد “سنواتٍ انتهى صراخها وبقي دمها عالقا في الذاكرة” ـ بحسب واسيني الأعرج في شرفات بحر الشمال ـ والتي تهجع فيها أجمل الذكريات وأَنْدَاها، تنبعث من زمن الطفولة لتنقذَ زمن المشيب؛ تَحُلُّ زمناً بديلاً يرتفع فوق الألم والحطام والتذرية. أليست ذاكرة الطفولة هي العلبة السوداء الناجية من حطام طائرة العمر كما يقول بهذا المعنى أحد الشعراء. في هذه العلبة تنهض الأسرار الخفيّة تضيء المشهد، وتداوي جروح الزمن، وما صنعَ ـ هذا الزمن ـ من ندباتٍ تكبُرُ في الغربة. في ذكريات الطفولة؛ في البيت الأول تندسّ الإبرة ويكمن الخيط، ومنهما يبزغ النسيج وفي تضاعيفه يجري ماء الألفة دافئا، رحِماً تسبغ على قاطنها حصانةً تظلّ مرتكزا ومرفأً آمناً، لا يكفهرّ ولا يغلق أبوابَه دون أبنائه العائدين من قسوة المنفى وهشاشة الذكرى.
**************************
9 شارع قرداحي
علاء خالد
كل عدة أعوام،
عندما تخفت في خزانتها لمعة الذكرى
تحزم حقائبها وتتكئ على العصا المعدنية
وتأتي للإسكندرية،
للبيت الذي عاشت فيه مع والديها، 9 شارع قرداحي.
ما زالت الفيلا قائمة حتى الآن
ربما لكي لا يخذلها شيء واحد في الحياة.
تمسح بمشيتها البطيئة
كل التفاصيل التي غابت عن عينيها
تجذب كل معادن الذكرى.
تقف أسفل البيت
تشاهد النافذة التي أطلَّت منها وهي طفلة
لترى خيوط المؤامرة تتجمع في الحديقة
كان الشاري الجديد يقيس أرض طفولتها بالأمتار.
بكت حينئذ،
بكاءَ الابنة الوحيدة،
كانت أصغر من أن تغلق النافذة على دموعها
أو تهيم فوق الذكرى وتكبر معها كأخ حميم.
يعرفها أهل الشارع جميعاً
ويفسحون مكاناً لبكائها.
كنت الغريب عن ذكراها،
عن نافذة الدموع التي لم تغلق أبداً في خيالها
منذ غادرتِ الإسكندرية إلى نافذة أخرى مرصعة بالثلج في سويسرا.
لم يكن بيننا ما يسمح بكل هذه الأسرار
سوى أني أصبحت جاراً لنافذة الطفولة.
كان علاجها الناجع، أن تعودَ
وتنظر إلى بيتها القديم.
تركتني وصوت العصا المعدنية
يرسم حدود الذكرى.
صوتُ رتاج يغلق لباب كبير.