محمد شعير
عقد مرّ على التجربة المستقلّة التي أطلقها هذا الكاتب المصري بعد حرب الخليج الأولى. عودة إلى مغامرة نأت عن الأفكار الجاهزة للأدب، واحتفت بالحياة وبالتجارب الشخصية، ووثّقت لتاريخ آخر أبطاله الناس
“أمكنة” مغامرة علاء خالد تدخل عامها العاشر. إنّها مغامرة بالفعل. مجلة مستقلة غير مدعومة من أحد، لا يمتلك أصحابها سوى الرغبة فى التميز والتجريب والخروج من أسر المؤسسات الرسمية الخانقة. بدأت فكرة “أمكنة” بثلاثة أشخاص: الشاعر علاء خالد وزوجته المصوّرة الفوتوغرافية سلوى رشاد، والشاعر مهاب نصر. في الأعداد العشرة التي صدرت من المجلة (بمعدل عدد كل عام)، اعتماد على الحكاية. لكنها حكايات من نوع خاص، عن الناس العاديين والمهمشين الذين لا يملكون مكاناً يروون فيه حكاياتهم. إنه التاريخ من “أسفل”، التاريخ غير الرسمي الذي لا تكتبه السلطة.
بعد حرب الخليج الأولى، فكر علاء خالد في “طريقة” للخروج من عزلة المثقف. في تلك الفترة، كان اهتمام المجلات الثقافية العربية منصباً على “نقد أفكار التنوير” التي وصلت حسب تعبير علاء خالد إلى “سقف محدد”، لأنّ الواقع بعيد عن هذه التصورات “المثالية”. للخروج من المأزق، كان البحث عن “حس كتابي مختلف يقترب من هذا الواقع” ويبحث في “الهامش”.
هكذا، كان التفكير في مجلة تبتعد عن المفهوم الضيق للأدب، بقدر ابتعادها عن الأفكار النمطية الجاهزة، وتكون قريبة من فكرة الحياة، والتجارب الشخصية، وتعيد – حسب عبارة خالد – “ترتيب إحساسنا بالفن”. وجد علاء في بعض النصوص المترجمة فى مجلتي “الكرمل” و”مواقف” هذا الحس الكتابي المختلف. وكان المدخل الأساسي للمجلة الحوار “مع أناس عاديين”. فكرة وجد علاء لاحقاً أن مجلة “الطليعة” استخدمتها عبر تقديم حوارات سياسية مع أشخاص عاديين. هذا الشكل الكتابي قدّم حلولاً لمشكلة “كيف يوجد الصوت الآخر؟ كيف يحضر بلغته؟”. ثم كانت فكرة “الرحلة التي تبحث عن هذا الصوت المختلف”.
هكذا صدرت المجلة، حيث ثقافة المكان اهتمامها الأساسي: “ثقافته وتاريخه، الناس الذين صنعوا هذا التاريخ سواء بإرادتهم أو بحكم وجودهم فيه، والخصوصية الفنية لهذا المكان، التي تكونت من ممارسات عادية لم تكن مقصودة، ثم صارت اليوم فناً بحكم الظروف الجديدة”.
عندما ذهب خالد إلى “السوق الفرنساوي” في الإسكندرية لإجراء حوارات مع أفراد هذه السوق، وجد أن “كل فرد لديه حكاية. ولكل حكاية طريقة في التناول. هذه الحكايات صادقة وواضحة، وفيها متعة التنوع والدهشة”. اختار تركها كما هي بالعامية. “بالطبع هناك تدخل فني ومونتاج لكننا لم نضف حرفاً واحداً، ولم نتدخل في المادة تحويراً أو تعديلاً” كما يقول خالد. منذ العدد الأول، اكتشف علاء أن “التاريخ الشفاهي مهم جداً. فيه صدق وحرارة وعفوية، يعطينا مفهوماً لمسألة المرونة في تقصي مصادر المعرفة”. ومن هنا “بدأت فكرة الحوار مع الناس وربط ذلك بالصورة الفوتوغرافية. الحكاية هنا تحفظ خبرةً شخصية، وهذا ما جعل الناس في قلب المجلة، لا على هامشها”.
من عدد إلى آخر، بدأت أفكار المجلة الأساسية تتبلور. حوارات تبحث عن الصوت الآخر، ومقالات ذاتية، ورحلات، حيث الصورة جزء رئيسي منها. “كأننا فى رحلة”. لكن هذه الرحلة توصلنا إلى نتيجة غير متوقعة. الشكل نفسه “يقترح مضامين، لم يكن مخططاً لها”.
لكن ألا يخشى خالد من اتهام المجلة بالتمسك بأفكار نوستالجية عن الماضي؟ يجيب: “لا يوجد تمجيد رومانسي للماضي بل فحص له”. يتوقف قليلاً قبل أن يضيف: “في غياب فكرة المستقبل، الكل يبحث عن مرجع. قد نكون استبدلنا بالحنين إلى المرجع حنيناً إلى الماضي، ربما لأنّه لا أمل بمرجع جديد. وهذا يعطي إيهاماً بفكرة النوستالجيا”.
في غياب فكرة المستقبل، استبدلنا بالحنين إلى المرجع حنيناً إلى الماضي
ثمة اتهام آخر بالحس الأنثربولوجي؟ يجيب: “ليست دراسات أنثروبولوجية، بل إنّها تقدم مادة للدراسة الأنثروبولوجية، وشكلاً آخر من أشكال المعرفة”. منذ العدد الأول، أدرك علاء أبعاد هذه التهمة، فكتب في افتتاحية العدد: “ربما الأنثروبولوجيا كانت لها نشأة استعمارية. لكن هذا العلم أصبح له وجه آخر تجاوز السبب الذى نشأ من أجله، وهو الرحلة وراء ثقافتك وثقافة الآخرين. الفن والكتابة والرغبة في المعرفة كوّنت المكان الآخر الذي نرى فيه أنفسنا وأحلامنا وماضينا. المهم الآن أن نحافظ على أن تكون لنا حكاية”.
مع تطور المجلة، ظهرت فكرة كتاب “أمكنة” الذي صدر منه عددان لكنه لم يستمر. يوضح علاء “قلة الوقت وحدها سبّب ذلك التوقف. إعداد المجلة يحتاج إلى وقت وجهد حقيقيين. لكن ثمة أفكار للمستقبل نعمل عليها. أحد المهندسين عرض علينا إنشاء موقع إلكتروني للمجلة، سننشر فيه كل الأعداد. كما نفكر في أن تكون هناك أيقونة بعنوان كتاب “أمكنة” ننشر فيه كتاباً لكن إلكترونياً فقط”.
لكنّ علاء كاتب وشاعر قبل كل شيء، أصدر خمسة دواوين، وكتابين نثريين، ورواية (ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر)… فهل أثّر انشغاله بالمجلة في كتابته الشعرية والروائية؟ يجيب: “ما حدث هو العكس. المجلة كانت تمريناً على أساليب الكتابة التى مررت بها، ما انعكس على الرواية. هناك تمرينٌ ما حصل على اللغة، كي لا تكون بسيطة لكن شفافة: إنه تمرين خضته خلال السنوات العشر التي هي عمر المجلّة”.
“حياة الجامعة” هو محور العدد العاشر من مجلة “أمكنة”. الجامعة باعتبارها مرآة حقيقية لما حدث في المجتمع من تحولات. لهذا يقدم العدد بانوراما لماضيها وراهنها. حياة الجامعة حياة “مختصرة” قد لا تتجاوز أربع سنوات، لكنها حسب تعبير علاء خالد “ممتدة فى تأثيرها وردود أفعالها وفي شبكة ذكرياتها لتشغل في النهاية فضاءً خاصاً بها في تاريخ أي ثقافة”.
يحاور علاء خالد في العدد مجموعة من الأسماء البارزة في حركة النضال الطلابي، محاولاً الوصول إلى أسباب “النهايات الدرامية لبعض زعماء الحركة الطلابية”. هكذا، تكتب جليلة القاضي عن جامعة الستينيات والسبعينات “باعتبارها فضاءً للحرية والتمرد”، وهي الجامعة نفسها التي ستتحول إلى “مجرد سوبر ماركت كبير” عند رضوى الباروني لكن في التسعينيات من القرن المنصرم. الحركة الطلابية، ازدهارها وهبوطها، وبداية صعود التيارات الدينية، والحب المختلس، هي محور كتابات محمود الورداني، وخالد جويلي، وإيمان مرسال، وعادل عصمت، ومحمد عبلة، ومحمد حسان. وعن “الجامعة في مكان آخر”، يكتب يوسف رخا عن دراسته في بريطانيا. كما تكتب عناية جابر وسحر مندور عن الجامعة في بيروت. حكايات شخصية عديدة أو “ثنيات روائية” يتكون عبرها تاريخ آخر للجامعة. وهذا هو الهدف الأساسي للمجلة منذ عددها الأول “تتبع مسارات التاريخ حتى لا يتيبس ويأخذ شكلاً واحداً”. وهذا ما تكشف عنه الأعداد التى صدرت حتى الآن من “أمكنة”. إذ خصص العدد الأول للإسكندرية، والثاني للصحراء، والثالث للمدينة، والرابع للفلاح، والخامس للبطل، والسادس للمسارات، والسابع للحدود، والثامن للخيال، والتاسع لتحولات المدن.
“عندما تسأل علاء خالد عن المشكلات التي يواجهها في ما يتعلّق بإصدار “أمكنة”، لا يكاد يتذكر. ليس تهرّباً، بل “لأنّ أي عمل لا بد من أن يواجه مشكلات. المهم التغلب عليها”. مشكلته الأساسية هي المقروئية “نطبع 1000 عدد من المجلة. هي كمية قليلة، كأنّ طاقة الثقافة لا تستوعب سوى هذا العدد. كنت أتوقع أن ينفد العدد خلال أربعة أشهر لكن هذا لم يحدث”. ويرى علاء أن ذلك قد يرتبط بالثقافة ذاتها أو سوء الدعاية للمجلة للوصول إلى قطاعات أكبر. ماذا عن التمويل؟ يجيب: “لا يوجد تمويل، بل هي مجهودات شخصية”. يتذكر أن صندوق التنمية الثقافية كان يشتري 100 نسخة من كل عدد. لكن الشراء توقّف من دون أيّ سبب. يقول: “فقط أخبروني أن وزير الثقافة رفض شراء المجلة من دون إبداء السبب. لكن في الأعداد الأخيرة، قدمت إلينا “دار الشروق” إعلاناً”.