أما كتاب أمكنة فهو كتاب غير دوري يعنى بثقافة المكان يحرره ثلاثة مثقفين سكندريين هم الشاعر علاء خالد وزوجته سلوى رشاد بمشاركة من مهاب نصر قرروا أن يشعلوا شمعة أثناء لعنهم الظلام، قبل أعوام وعندما أصدروا عدد أمكنة الأول على إستحياء تعامل البعض مع كتابهم بترحاب على أساس أنه يقدم “فكرة جديدة”، وأعرب البعض عن حزنه لأن الكتاب الثاني لن يصدر أبدا، واليوم مع صدور كتاب أمكنة التاسع يتعامل معه الذين يعرفون قيمته على أنه “وصف مصر” من جديد بعيون صادقة ونيات مخلصة ومجهود مذهل والأهم من كل ذلك كتابة مدهشة، كتابة شغل يد معمولة بمزاج وروقان.
كل كتاب جديد من أمكنة يحدثك لترى كم هي جميلة بلادنا وكم هي حزينة وكم هي مبتلاة وكم هي صابرة، وكم هي خفيفة الدم وكم هي أيضا مهددة بالفناء على عكس مانعتقد ونتمنى. مع أمكنة لن تذهب إلى مصر التي لايعرفها أحد لأنك ستدرك أن مصر أساسا لايعرفها أحد، ستذهب مع رجال أمكنة ونسائها إلى بقع مختارة بعناية من العالم فتتحسر حينا على أمكنتنا المرهقة وتحمد الله عليها حينا آخر على أساس أنها أحسن من غيرها، وفي كل الأحوال سترى كم هي مُرزقة بلادنا بكتاب موهوبين لم تسمع عنهم من قبل لأنهم لايرغبون في الإشتراك في السيرك القومي الذي يحتكر فقراته لاعبون بعينهم سلاحهم العلاقات لا الموهبة.
في كتاب أمكنة الأخير الذي قضيت معه أيام شهر يناير كلها ممزمزا ومتأملا ومندهشا وملتاعا، أدهشتني كتابة مجاهد الطيب عن عين شمس الشرقية وأصبحت شغوفا بأن أقرأ “كمالة” لكتابته في رواية ستكون حدثا أدبيا فريدا. إكتشفت روائية إسمها جيهان عبد العزيز وهي تحكي عن وجع أن تكون جزءا من حضور الآخرين، وأخذت أرى بعين الخيال كتابتها وقد صارت فيلما ساحرا لامثيل له، ومع كتابة يوسف رخا عن أمكنة أبو ظبي حمدت الله أنني لم أجبر يوما على السفر للعمل في الخليج، أدهشني اكتشاف الطاقة الأدبية التي تتمتع بها الدكتورة هبة رؤوف وهي تطل من شرفة طفولتها على ميدان التحرير، تمنيت أن أصرخ في وجه محافظ الإسكندرية بكل سطر كتبته مشيرة العمراوي عن عزبة العرب وكتبه عبد العزيز السباعي عن الحضرة الجديدة وكتبه عبد الفتاح عبد الله عن كوم بكير، لعله إن كان يعرف أسماء تلك الأماكن أساسا يهتم بها قليلا ويترك بلاط الكورنيش مستقرا إلى حين.
أما ماصعقني وسيصعقك أنت دون شك فقد كان تلك الرواية الساحرة التي كتبها علاء خالد عن 6 أيام في الجرنة، سماها تواضعا منه يوميات مع أنها شهادة ملحمية خالدة، بها فقرة تستطيع أن تلخص بها حال مصر الآن، وتجد فيها أسباب ماأصبحت عليه، وخطورة ماهي مقدمة عليه، فقرة ترد على لسان مواطن صعيدي عجوز يتحدث بطلاقة وصدق عن زيارة الرئيس الأخيرة لقرية الجرنة الجديدة والتي أفاضت وسائل الإعلام وقتها في تمجيد لقاء سيادته بالمواطنين وجها لوجه، وكيف استمع منهم إلى السعادة التي يرفلون فيها في بيوتهم الجديدة، بينما الواقع أن ” سيادة الريس مادخلش هنا، راح في مبنى التليفونات اللي في أول الجرية، عملوا له أسانسير في المبنى، طلع فوق، شاف المنظر جميل خالص، سيادة الرئيس مادخلش ولا شقة، جابوا خمس حريم أرامل، وحفظوهم كلمتين، عشان لما ييجي الريس، وفرشوا له الأرض بالورد، إنما بما يرضي الله، صبيحة لما جه الريس، الجرس بتاع الشقة ضرب، لجيت واحد لابس أفندي، صباح الخير، قلت له صباح النور، افضل، قال لي أنا من حرس الريس إنت عندك فكرة إن الريس جاي، قلت له: يشرف خير يعني؟، قال لي: إحنا عاوزين كده ناس حلوة عشان تجابل الريس، قلت له: وماله، بس هاجولك على حاجة، لاتحفظني نشيد، ولاتقول لي إلبس أبيض ولا أخضر ولاتجول لي صجف، جام جال لي، لأ أحسن إنك تجعد في بيتك ماتطلعش”.
وياحسرة على البلاد التي سيقرأ مسئولوها هذا الكلام ثم سينشغلون بإحضار الرجل الذي قاله والبحث عن أسباب للتنكيد على الرجل الذي نشره، دون أن يفكروا ولو من باب التغيير في محاسبة الرجل الذي كذب على الرئيس واختار له ديكورا مناسبا من الرعية التي يقولون له أنها معه.
ـــــــــــــــــــ
المصري اليوم ـ فبراير 2009