بعد وفاة أسامة الدناصورى كنت دائما أتحرَّج من أن أواجه والدته، أو إيناس أخته، أو سهير زوجته. أشعر تجاههن بالذنب وبالخجل أنى ما زلت حيا. يظل أسامة هو الوسيط الروحى فى أى لقاء يجمعنى بهن. هناك موت يقتص من حياتك لأنه عادل. ليس فقط بالحزن أو بخشونة الفراق، ولكن بذلك المقعد الفارغ، عندما يغادر فجأة أحد ركاب هذه الرحلة الجماعية. كأن بيننا عهدا بأن نكمل الرحلة سويا حتى خط النهاية. مَن ينزل أو مَن يستمر، أيهما هو من يخلف هذا العهد؟ ربما الاثنان، وهناك زمن صفرى يصبح فيه هذا العهد نسيا منسيا، كأننا نعود إلى زمن ما قبل الولادة دون عهود أو التزامات أو أقدار فوق طاقتنا. هناك عهود كثيرة لا يكتبها أحد ولكنها تنهض فى لحظة الموت أو الوداع، لتقفز أمام أعيننا، لنرى الحبر السرى الذى كُتبت به. هناك من يتخلف فجأة عن الرحلة، هناك من يسقط وتنساه، وهناك أيضا من لم يأت من الأصل وحسبته موجودا. جماعتنا الصغيرة، وأخوتنا الجارحة.
فى لحظات النجاح نتذكر الموتى ونحنى رؤوسنا. الموتى الذين ندين لهم بالموت الذى اختارهم لنعيش نحن. كان يمكن أن يختارنا من بين كرات طاولة الروليت. انحرفت الكرة قليلا عن رقم حفرة الموت. نتذكرهم فى لحظات الإحباط أيضا، كعزاء بأن فى جدار حياتنا ثقوبا كبيرة تتسع لهذا اليأس الشفيف. الموت هو الدور الأسهل فى تقمصه، لأنه الدور الذى لن يشاهده أحد، دور الفناء، والفناء لا مرآة نراه فيها أو تعكسه. موت هنا وموت هناك، وأنت بينهما لا فضل لك فى استمرار حياتك. تسير فيها كالسائر على قشر بيض، أو صراط. تتخيل أن المساواة يجب أن تنسحب حتى على الموت. العدالة لا تنمو وتجد متنفسا وأرضا لها فقط بين الطبقات. هذه العدالة الغائبة هى التى تتخفى وراءها أرواحنا، نتلمس أجسامنا بعد العودة من المقابر لنتأكد بأنها ما زالت حقيقية ودافئة ولها الملمس الذى عهدناه. ولم تصبح هشة كتراب مدقات المقابر.
فى هذا اليوم الماطر قارص البرودة، يوم 4 يناير سنة 2007، وفى بيت العائلة بمحلة مالك كنا نجلس فى انتظار العربة التى تحمل جثمانه قادما من المستشفى القاهرى. مرت العربة أمامنا مسرعة، من دون أن ندرى. لم يشأ السائق أن يلفت النظر عند البيت حتى لا يتصاعد البكاء. ولكن أحسست بأن لى شأنا بهذه العربة. فى الطريق للمقابر يسرع الجثمان للقاء الأرض، يجرى وراءه المشيعون بلا جدوى، هناك نداء خفى. كان جثمان أسامة يلبى هذا النداء الخفى بأن يتوارى سريعا تحت هذه الشجرة الوارفة بجوار بيت العائلة فى محلة مالك. سارعت جريا لأحضر هذه اللحظة الحاسمة، كان قلبى يسبقنى، وهم يواروه التراب. كأنه الدين الأخير، فى ميزان العدالة الغائب، الذى يجب أن أوفيه له قبل نزوله من القطار.
قليلة هى الأحاديث التى أتحدث عنه فيها، بينى وبين أصدقائنا المشتركين، كأنه تواطؤ متفق عليه، أن هناك سيرة كانت. أو أنها حرمة الموتى التى تمتد إلى الكلام فتضع على كتفه شارة سوداء خالدة. فى إحدى المرات بعد وفاة أسامة بعدة أشهر تحدثت مع صديقة مشتركة على «الشات» تجدد الحزن بكل حمولته الثقيلة، كأنه يموت من جديد. كأن موته موزع بعدد ذاكرات الأصدقاء الذين التفوا حوله، وأحبوه، وأحببهم، ومنحهم نفسه وموته وذكراه بكرم ريفى أصيل. لا أريد فى أى لحظة أن أتمسح بهذا الاسم الذى صنع بحياته وتحولاته علامة غائرة، وأصبح له مضمار خاص يجرى فيه. لا أحب أن أتكلم مع الموتى، أو أحدثهم بضمير المخاطب. الموت يغير قواعد اللغة والحوار. أكلمهم من وراء حجاب، من وراء هذا السد، ولا أعرف هل يصل كلامى أم لا. أحيانا اللغة تعطل هذا التواصل كجهاز تشويش متعمد. ولكن فى حديقة الروح، أو أى بقعة مضيئة فى الذاكرة، هناك زهور وأشواك ومساحات ظليلة لنزهات وحوارات طويلة. بعد يومين، فى الرابع من شهر يناير عام ألفين وثلاثة عشر يبلغ أسامة الدناصورى عامه السادس.