مقطع من نص قديم
عام 2012 صدر كتابي القصصي ( غراميات شاكيرا وسلمان المنكوب ) في ردِ فعلٍ روحي مني إزاء فقدان واحد من أجمل صناع الشجن العراقي في سيمفونيته السومرية الهائلة والآتية أصلا من مشاعر ما تعكسهُ لنا ( ملحمة جلجامش) عندما فقد الملك الأوروكي خلهِ انكيدو وصارَ يمرُ كل يوم على بيتهِ فيجدهُ فارغاً ، فجاءتْ أغنية المطرب الراحل سلمان المنكوب ( أمرن بالمنازل ..منازلهم خلية ) ومنذ قبعة الجيش وخواطر عرفاء الفصائل المغرمينَ بأغانيَّ هذا ( المغني ). أشعرني صوت سلمان بطاقةٍ هائلةٍ في ليل الضجر الشمالي لأمضي في استذكار أيامي على شكل حكايات اجمع بعض من تفاصيلها في رواية يخطها قلم الرصاص ، وأشعر أن صوت ( سلمان ) وبحته الشجية يصحح معي التفاصيل والمشاهد والفصول ويقودني بفطرتهِ وطيبته الجنوبية الى أبعد ما أريد الوصول إليه في جعل المحكي الذي أنتجه قريب من قناعتي بصناعة ما أوده وأشتاق إليه ويجعل الأضواء مسلطة عليَّ بولادة كاتبٍ موهوبٍ صنعَ من جحيم حروب الرواقم ومياه الأهوار الضحلة وغابات البعوض في بحيرة الأسماك ومخافر تلال سلسلة حمرين روايات وقصائد هي السيرة الذاتية وخداع حماسنا في شعورنا أن الوطن يهددهُ الآخرون وعلينا أن نتحول الى مشهدين في نهارات الوطن ، أما نعوشا أو عشاقاً يعرفون تماماً كيفية ممارسة الغرام بفنيةٍ عاليةٍ.
في ذلك الزمن عندما كانت الحروب تسجل خواطرها بحبر الشظايا وجمال ونحافة الليدي ديانا سبنسر أميرة ويلز وظهور الساحر ماردونا في ساحات كرة القدم وامتلاء حوانيت الجيش في ألوية المقاتلة بصناديق علب البيبسي كولا بسعرٍ مدعوم . جاءتنا رواية غابريل ماركيز ( مائة عام من العزلة ) لتدخل دهشتها وغرائبيتها في ذائقتنا القرائية وترغمنا على التحول والانبهار وحتى التقليد بجعل فنتازيات غابريل السحرية من بعض وقود الكتابة الإبداعية عندنا ، لنستقبل منه أسحارا أخرى في ( خريف البطريق ، وليس للعقيد من يكاتبه ، وفي يوم نحس ، ورائحة الجوافة ) حتى صارت تلك المدونات الساحرة ملازمة لحقائبنا ونحن نلوذ بجهات الحرب مع رعب الموت ورعشة صوت سلمان المنكوب ومطاعم الطريق التي تقدم لسواق الحافلات الأكل الجيد ولنا تقدم لحوم الحصان والرز البائت .
كان لماركيز رواياته على شكل كتب توقظ فينا اللحظة الإنسانية بشكلها العابر للقارات حاملة معها دهشة اللغة وحداثة المخيال ووقائع تكاد تقارب تماما واقعنا ولكن برؤية عالية التناول والغرابة والرومانسية ، فقد كانت رواية ( مائة عام من العزلة ) حدثاٍ على مستوى البناء الروائي شكلا وحدثا ولغة وفنتازيات غرائبية لم نعتادها في كلاسيكيات وواقعية ما كنا نقرأه منذ هوميروس وحتى كولن ويلسن.
وكان لسلمان المنكوب رواياته أيضا ، حنجرتهُ المليئة بقارات الحزن والحكايات وسعال دخان سكائر الجنود وهم يكتبون من وحي المنازل الخالية رسائلهم الى حبيباتهم وزوجاتهم وأهاليهم.
وقتها شعرت أن لهذه الحرب شاهدين يقظين وفاعلين هما روايات ماركيز وحنجرة سلمان التي افترضها اليوم راوية ساحرة لما تنطق به مشاعر الجنود وتحسه. حتى أن سلمان في قدرته على منحنا طاقة الروي ، وربما يكون هو الراويَّ يتفوق في بعض ساعات الليل على الإعادة المكررة بالنسبة لنا في قراءة عزلة ماركيز لمزيد من المتعة فيكون التمازج الشعوري واللاشعوري قائمٌ في الجمع بين الروائي والمطرب في نص واحد ونحن نناجي الأمكنة البعيدة التي تركناها هناك وصرنا في هذا الليل نتعلق مثل نجوم الثريا على ربيئة في جبل تاريار بمنطقة بنجوين المحاذية للحدود العراقية ــ الإيرانية من جهة محافظة السليمانية سماها الجنود ( المنازل الخالية ) ربما لأنها تطل على قرية كردية هجرها أهلها بسبب مدافع القصف المتبادل وكان اسمها قبل هذه التسمية الجديدة ( ثدي الغزال ):
((أنت يا أمي ..الأغنية العاطفية الأشهى في جلسات كل برلمانات العالم …أنت يا نغم الوشم الصيني في صحن خزف عليه صورة ( الملك والزعيم ) ، وأين الوصي …؟
العرفاء يعرفون مصيره ..
ديغول يقول :كل ملكية زوالها قسوة الدمعة .وكما عند المعري هذا ما جناه أبي …لويس السادس عشر يكررها : هذا ما جناه مخدعي وسرير نومي..))
مخدع أمي في صوت سلمان ومنازل التي جعلتها الحرب خالية ..هناك فوق نهود جبال الله المرتفعة كهامات السحب السكرانة والنعسانة والعريانة أمازج بين نبيذ كولومبي وشيئا من حنجرة سلمان .هذا توافق الاشتياق المميز بطاقاته الجنسية ، حتما لا تصنعه غير أمهات من الضوء والنواح وشق الثوب من الصدر…
أو تلك الفنتازيا التي تأخذ من سلمان هاجسها وتقول :
((تتحدثوا عن الشوق في العلن لأنه عندما لا يكون سرا مكتوما فلن يُخلدْ الشوق أبدا.. !
أمي تلتْ هذه العبارة في قداس الأميرين تشارلز وديانا : لا تسمعوا موزارت والموسيقى الارمنية المدهشة قبل أن تسمعوا سلمان المنكوب .وأبي كتب هذا في وصية موته :لا تقولوا إلا وبطونكم تغرد فيها عصافير البرتقال …هذا ما أخبرنا به الحاج ماركس….تعرفونه كلكم …..الرجل الذي دخل كتب الابتدائية من استمناء الخبز وعصي الشرطة وشفاه مارلين مونرو…الرجل الذي غنى ( شمس الأصيل وأنت عمري ) في جبهات الحرب بشمال العراق وجنوبه…الرجل الذي لم يبعنا ولكننا بعناه بقرعة السلع المعمرة واجبان لا فاش كيري وفيزا الصيف إلى سواحل اليونان ..
وأنت يا شاكيرا أنا أسمعكِ الآن وأعيد قراءة ماركيزا مع الغنج الفاحش بين نهديكِ اكتشف الكوليرا وخواطر العقيد والعزلة ونبات البابنك يشرب فينا أقداح الحمى .وأنت يا شاكيرا التي تحب سلمان وأمريكا ألاتينية وقطاع (55)* في مدينة الصدر..لكِ كل دهشة سقراط ، لك لذة قيصر في فم الملكة المصرية .لكِ محبة الله، فكل الطرق تؤدي إلى خصركِ .وحدها دمعتي طريقها إلى آلة التسجيل فيلبس..! ))
الكولومبي كتب رواياته بطريقته المبتكرة وطبعها على آلته الكتابة وصدرها ألينا رواياتً وربما فقدت الكثير من متعتها أثناء الترجمة ، وسلمان كتب رواياته دون أن يبتكر شيئا لأن مافي حنجرته من شذى ومتعة ودموع هو المتوارث الشرعي ورثه من بحة الحزن الأولى التي تحدثت عنها الألواح السومرية وضحايا المختنقين بسبب نفاد الهواء في اقبية الموت الجماعي في مقبرة اور المقدسة وهم يستمعون بخشوع ويأس الى نغم قيثارة شبعاد اليائسة مثلهم في موتها الجماعي الذي ربما يؤكده الراوي سلمان المنكوب من خلال صدى حنجرته أنها الأب الحقيقي للمقابر الجماعية التي صنعتها الحروب وطغاتها في العصر الحديث .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سلمان المنكوب / فترة سبعينيات القرن الماضي كان أشهر مطرب عراقي ريفي وكانت أغنيته ( أمرن بالمنازل ) تذاع بشكل يومي في إذاعة القوات المسلحة وصوت الجماهير.
دوسلدورف 17 مارس 2014-
خاص الكتابة