ما الذي نسيته ويذكرها بنفسه في أحلام غير مكتملة، شيء ناقص ، مبتور، غائم ، موعد دواء، شعلة بوتجاز تركتها مشتعلة، طعام يجب وضعه في الثلاجة، يتردد صدى الحلم في نفسها ما الذي كان عليها فعله ونسيته، أي صفحة أهملتها من كتاب الكيمياء في الثانوية العامة، يخايلها وجه غائم لكن صوته واضج “حاولت أحبك ، ما قدرتش ” من هذا الرجل؟؟ زميل دراسة؟، ابن الجيران؟، طفل يبتسم لها و قطار يتحرك، لا تلحق بالقطار، الطفل جالس في العربة ، يلوح بيده وهي تجري على الرصيف، تجري بكل قوتها ، هي ملهوفة على الطفل ، وهو مبتسم مطمئن، لاهثة مذعورة، تتوه في زراعات واسعة ، مساحات شاسعة ، تشاهدها فقط على شاشة السينما ، والقطارات تحاذيها ذهابا وإيابا.
تستيقظ فزعة، تجري لحجرة ابنتها ، ليس لها ابن، فأي طفل نسيته؟؟ تعيد الغطاء المنزاح إلى وسط طفلتها، تتأملها، يتصارع في داخلها الرجاء والخوف وعندما يأتي الصباح و تركب صغيرتها “الأوتو” تستودع الله ابنتها خالية البال، لكنها حين تخلو بنفسها تخايلها كفوف مبتورة، فتغتم.
تعود لنومها ، فيحضر ما نسيته، خبيثا، مراوغا، وتعود القطارات خالية من ضحكات الصحاب، من عناق أيدى العشاق الصغار.. من أحد القطارات يرتفع عويل مكلومين ، لا تظلهم سكينة الموت بل تعصف بهم ريح الغضب فلا يكاد يستقر لهم مقام على الأرض، يقف قطارهم الذي لا يتحرك أمام رجل بهي الطلعة، ينزل الغاضبون ، يلتفون حول الرجل يسألونه ندعو فلا يستجاب لنا ، فيعيد الرجل الإجابة التي ذكرها لجدودهم من قبل ويقول: : لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:
الأول : أنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه.
الثاني : زعمتم أنكم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركتم سنته .
فجأة يصمت الرجل، يتطلع في الوجوه، يبحث أين استقرت كلماته؟؟، فيملأ الحزن قلبه وقد وجدها معلقة في الهواء ، فلا أذن تلتقط ، ولا قلب يعي. يستمر الرجل في صمته ، لا يكمل نقاطه العشرة ، بل يحمل عصاه ويمضي ، وهو يغمغم : ” إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ، وعليكم بالصدق فإن الصدق بر ، والبر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا”
تقف السيدة حائرة ، هل تلحق بالرجل ، هل تسأله تفسير حلمها ، لكنها مازالت نائمة ، لا تمتلك إرادة حركتها ، هي فقط تتحرك وفق صانع أحلامها ، تستسلم السيدة لتيهها، تسند ظهرها لجذع نخلة ، يظهر أمامها بئر، تشعر بالعطش ، تقترب من حافته تبحث عن كوب ، عن شيء تشرب به ، تمد كفها ، ملمس لزج يباغتها، تنظر ، تراه ..ضفدع قابع على حائط البئر، كأنها تعرفه وتعرف قصته ، حتى أحلامه تعرفها ، الضفدع القابع في أعماق البئر لا يعرف أبعاد السماء والأرض ..تتركه، تعود لظل نخلتها ، فيمر رجل طويل القامة، أسمر اللون،. خفيض الصوت ، وعندما ينفعل تتحول الرقة إلى زئير أسد، ثم تتصاعد ضحكاته عندما يروق له الحديث ، ويخبط بيديه على ساقه.. وفي البداية والنهاية كان إنسانا أصيلا، كل من ينصت إليه يؤخذ بقوله، وكل من يراه تقع في قلبه مهابته، وكم من مرة قيل ” إذا كنت تحمل له شيئا من الكراهية فحاول جهدك ألا تلقاه وإلا انغرست في قلبك محبته” و القول الفصل أنه” وألقيت عليك محبة مني، ولتصنع على عيني“.
يمضي سبتمبر ويرحل الرجل ، يتحول إلى ولى يرتقي معراج الأنبياء في النفوس العطشى لرحيق ” إنه من عبادنا المخلصين“
و يأتي أكتوبر : والأحدب لا يستقيم جسده في القبر، وهي تنتظر رجل يتطلع إلى كل شجرة ويكون قادرا بالوقت نفسه على رؤية الغابة كلها. يطيب البلح ، فما بالها الأيام لا تطيب.