(الكسل والموسيقى
والوحدة طبعا
تركيبة مجربة
لإحاطة الآلام التافهة
بغلاف من النبل
وتجهيز قصائد
لا يمكن حفظها)
كيف يمكن خلخلة الصورة النمطية للتزاوج بين الوحدة والكتابة ؟ .. في قصيدة ( الكسل ) يتم استدعاء هذه الصورة النمطية وصياغتها من جديد دون التخلص من تجسدها الشكلي كقاعدة متعالية .. هذه الصياغة الجديدة التي تبدو وكأنها تحافظ على الرصانة اللازمة لتصدير المعرفة تريد أن تفضح في باطنها أن الآلام أصبحت تافهة لا لشيء إلا لأنها لم تنتهي ولم تُفهم أبدا لذا أجبرت على الخضوع لتفاصيل معتادة تشكل ما يشبه غلافا رومانسيا مستهلكا يستبعد خصوصية هذه الآلام وهواجسها المختلفة ويساهم في نفس الوقت في إنتاج كتابة لا يمكن حمايتها من الفناء .. لا يسعى ( محمد خير ) لنفي القيمة عن الألم بقدر ما يعري كيف يتم ضياع هذه القيمة وتغييبها لصالح السلطة الأزلية والمطلقة لللاجدوى والتي تتزين بأكليشيهات ظل العالم يرسخها بإصرار عبر الزمن لتصبح وهما بديلا للخلاص ذاته .
(سأقوم متأخرا
كعادتي
سأكون آخر المغادرين
دون أدنى شعور بالقلق
فالمستقبل
يعرف كيف يعتني بنفسه
سيجد منفذه إلينا
عاجلا أو آجلا
سيصل إلى هنا
ويجلس منقطع الأنفاس
من كل هذا الركض في الاتجاه العكسي
سيتلفت حوله
متأكدا من غيابنا جميعا
قبل أن ينغمس وحده
في إصلاح كل تلك الأخطاء (
اليأس ليس شخصيا هنا كما أن هذا التصور الذي يبدو جازما وواثقا من بديهياته ليس مشيدا على قناعات ذاتية تخص حياة كائن وحيد فحسب .. هو شهادة عن نهاية العالم تتنكر في حياد ظاهري وتقوم على استيعاب للقدر وللجمود الوحشي الذي يفرض به الزمن مشيئته دونما اعتبار أو أهمية لمن سيتأخر أو من سيكون آخر المغادرين .. بماذا تفيد علامة التعجب بعد الأخطاء ؟ .. هل لأن الأخطاء تعبير مخفف مقصود بتهكم لوصف حقيقة أشد فظاعة مما يمكن تخيلها ؟ .. أخطاء البشر أم أخطاء الدنيا أم الأخطاء المشتركة بينهم والتي كان على المستقبل أن يركض ليتمكن من معالجتها بعد انتهاء الحياة ؟ .. ومن أجل ماذا ؟ .. لخلق حياة جديدة متخلصة من الأخطاء لن نتمكن بالطبع من تجربتها بفعل غيابنا ؟ .. هل علامة التعجب هنا أكثر بلاغة من أي شيء آخر للتعبير عن مدى فداحة أن يأتي المستقبل متأخرا دون أن يلحق بوجودنا كي يعوّضنا عن خيباته وهزائمه ؟ .
( فوق أرفف المطبخ
تركتِ لي
كل هذه العلب
وقد ألصقتِ فوقها
أوراقك الصغيرة
وخطك الكبير
يشرح أسماء البهارات
بوضوح وصبر )
يمثل هذا المدخل في قصيدة ( سهو ) نموذجا لحالة معروفة من حالات الوحدة : إعادة تأمل الأشياء وفقا لعلاقتها بغياب أمومي .. تتخلص هنا التفاصيل العادية من حضورها التقليدي لتكتسب روح الفقد التي تجعلها كائنات حية تختزن الماضي بكافة ذكرياته وتشارك في تكوين اللحظة بناء على كونها آثارا متفاعلة تشهد على حياة قديمة لا زالت تأثيراتها متواصلة وممتدة .
( لكنني
مازلت آمل
أن ثمة مستقبلا
سيجعل الأحزان
أخف وطأة
ويسمح لنا
بانتقاء المشاعر
التي تناسبنا
من فوق أرفف
ليس لها ذاكرة )
شيء ما يتجاوز الحنين العادي هنا .. شيء ما يجمع بين الرغبة في استعادة الماضي وبين الرغبة في فقدان الذاكرة في نفس الوقت .. أمنية الحصول على حياة جديدة تضع حدا للفراق وتسمح أيضا بعيش مختلف لم يجرب ولم يختبر ويتفادى أسباب الأذى التي صنعت الحياة السابقة ثم أصبحت ميراثا ثقيلا يملأ الأرفف .
( نسيتِ
أنني دائما أنسى
أن استخدم البهارات .. )
ما يترك غير نافع إذن .. هو موجود وحاضر ولكن لا يمكن استخدامه في تحقيق السعادة أو الفوز بالنجاة .. ربما لأن الماضي ملتبس ومراوغ ولا يمكن الوصول لصفقة رابحة مع متاهاته وتعقيداته الشرسة .. ربما لأن الحاضر متخم عن آخره بكل ما يمنع اكتشاف الحقيقة التي يمكن أن تحل معها تلقائيا كافة معادلات الماضي الغامضة .. ثم هناك أمر آخر .. هل لم يستطع الذين كانوا يشاركوننا الحياة فهمنا إلى هذه الدرجة التي جعلتنا نكتشف بعد فقدانهم أننا كنا غرباء بشكل أو بآخر ؟ .. للدرجة التي جعلت ذكرياتهم لا يمكنها أن تفيدنا رغم ( الأمومة ) ؟ .. ما هو الثمن الذي يجب على الواحد منا أن يدفعه نتيجة السهو ؟ .. والأهم .. ما هو الشيء الذي علينا أن ننسب إليه هذا السهو حقيقة ؟ .
( لا بأس
من تزويق الذكريات
ببعض العصافير
خفيفة ، ملونة
لا تحتل حيزا
إلا بقدر زقزقة
تمرح ـ كطفلة ـ في فضاء واسع )
رغم أنها تبدو كمكونات لحكمة ما إلا أن هذه الكلمات البسيطة جدا في بداية قصيدة ( سيصدقنا البعض .. ) تشعرك وكأنها تحرض على عدم أخذها بالجدية التي تبدو وكأنها تتلبسها فعلا .. ربما تمهد لصدمة وشيكة تدفعك للعودة للوراء كي تعيد تفحص هذه العتبة التي لم تكن سوى إغراء ملغز للتورط في ما يشبه الدعابة والتي ستقودك بالضرورة لمراجعة دوافعك للتصديق أو عدمه .
( بلى
لنكذب
لنرتكب تلك الخطيئة
رغم تاريخنا الموثق
في الصور ،
فالكاميرات
في أي حال
بها بعض العمى
لا ترى
غير ما نراه )
هذه هي الدعابة .. ليس المطلوب أن نكذب بقدر ما هو مطلوب أن نتأمل المصير الذي لا يتبدل سواء كذبنا أم لا .. سواء أضفنا العصافير أم لا .. في النهاية هناك عمى .. انعدام رؤية .. تعتيم تام على السيرة الحقيقية للروح وعلى مسارات وجودها وتاريخها المخبوء .. كل هذا سيظل في النطاق الغير مدرك لأنفسنا وللعالم .. ما الفرق إذن ؟ .. الأمر قد ينطوي على خداع أيضا .. الكاميرا لن يمكنها أن ترصد الألم طالما أننا نكذب .. الكاميرا ليس لها علاقة بموتنا الداخلي .. هي ليست مجرد كاميرا إذن .. الحياة نفسها هي التي تفعل ذلك .. توثق تاريخنا بناء على ما يمكن أن ندعيه من فرح دون مد البصر بعينين رحيمتين إلى الجحيم الكامن في أعماقنا .. على الأقل إذن علينا ـ طالما أن الأمر كذلك ـ أن نزوق الذكريات ببعض العصافير .
( برحيِلكِ …
لم أعد مدينا
لكل تلك المصادفات
التي قادتني إليك )
هذه القصيدة اسمها ( حقيقة ) ولكن فلنتذكر أن ( محمد خير ) في سعي بصيرته لاكتشاف مركز موازي لا ينتج حقائق بل يهدم المسلمات واليقينيات التي يتأسس عليها الألم .. يواجه الحكمة بحكمة مضادة الأمر الذي يجعل كل ما يمكن أن يصفه بالحقيقة يعد بالأساس مغامرة لنسف حقيقة أخرى أصيلة وثابتة في العالم .
( فأكتفي
باستهلاك الوقت
في تدخين الذكريات
وتلوين ملامحي
بمشاعر
لا تجتمع
عادة
في نفس المكان
كالدهشة
ودموع الكراهية)
لا يستمد هذا الخطاب طاقته من بلاغة أسلوبية ولا من حميمية البوح الأقرب للهمس .. يستمدها في المقام الأول من قوة اللون الرمادي القائم على الاشتباك بين مشاعر مختلفة .. تدخين الذكريات : التشبع بها بينما تحترق .. الدهشة والكراهية .. ليس هناك سبب يقود إلى نتيجة ولا افتراض يؤدى إلى قاعدة محسومة .. هناك صراع فحسب لأفكار وهواجس لا يمكن استيعابها كليا .
( في ظلامي الخاص
أجلس مستريحا
لكنني
كلما لمست دفئك
أرتجف
فالأشباح
تبقى مخيفة
حتى لو كانت لأشخاص
نحبهم )
الدفء والرجفة .. الخوف والحب .. الجدل الذي يصل بنا للشك في اعتبار كل هذه المشاعر متاحة لقدرتنا على التمييز فيما بينها أصلا .. بماذا تذكرنا الأشباح ؟ .. ربما بأننا ـ رغم كل شيء ـ لم نمتلك تفسيرا مقنعا بالقدر الكافي لعلاقة الأحبة بنا .. ربما بأننا ـ رغم الظلام الخاص ـ لم نمتلك العزلة اللائقة بحمايتنا من الذكريات ومن الغياب وبشكل أكبر من الموت الذي يحضّر لحدوثه أحيانا بينما يجلس أحدنا ويتأمل إلى أي مدى يمكن أن تصل غرابة ارتباطه بالآخرين .