أعرف أننى قد أسقط من نظرك الآن ، ولكن ضع نفسك مكانى : شاعر يبدأ ديوانه بقصيدة عن “الكسل”ـ فضيلتى التى أفخر بها ـ ومع أول سطر تشعر كأنه ضغط على الريموت وتركك أمام شاشة عملاقة كى ترى نفسك وتسخر منها بينما هو يشرب القهوة بهدوء : “..المستقبل يعرف كيف يعتنى بنفسه /سيجد منفذاً إلينا /عاجلاً أم أجلا /سيصل إلى هنا ويجلس منقطع الأنفاس /من كل هذا الركض/ فى الاتجاه المعاكس /سيتلفت حوله متاكداً من غيابنا جميعا /قبل أن ينغمس /وحده /فى اصلاح كل تلك الأخطاء ..”.
أرأيتْ ؟! ، لم يُعطنى فرصة أحافظ على مهابتى ،باغتنى ،فصرخت كالملدوغ وأنا أرى نفسى متمسكاً بالمستقبل ،حريصاً عليه .. أطارده فى كل مكان ،واحتفى احتفاءً مريباً بهذا المعنى وتلك الكلمة بحروفها المسننة المدببة !! كيف تكتمل متعة الكسل وأنا أعيش كذلك ؟!
ربما تشاركنى جنونى بتلك القصيدة ،فلاشك أنك حريص على المستقبل، وهذا فى حد ذاته عظيم ورائع ،لكن انظر إليه يا صديقى ممدداً كجثة فى تلك القصيدة !
هذا شاعر ملعون بلاشك ،لم يعطنى فرصة كى أُقلب ـ كما العادة ـ فى الديوان ،جذبنى من ياقة قميصى كتاجر شاطر يعرف أن البضاعة الجيدة تستحق فاترينة عرض لائقة .
كلمة “بضاعة ” ستثير ثائرة حراس مدينة الشعر المهيبة المحصنة وكذلك النقاد الكبار بالطبع ، ولكن هذا ما فعله الشاعر”محمد خير” بالضبط ” فى ديوانه ” هدايا الوحدة ” الصادر عن دار ميريت : اختار مشتركا إنسانيا ووضعه على وش القفص ،ثم وقف بعيداً يتأملنا ـ نحن القراء الطيبين ـ ويستمتع بالقهوة !.
من فيّنا لا يشعر بالذنب يومياً لأنه مقصر فى شىء ما ، من فيّنا لا تشغله قصة المستقبل حتى وهو يخطو نحو الخمسين ؟! ومن فيّنا لن يضحك وهو يرى ” المستقبل ” وقد جاءنا ـ بعد كل هذا الانتظار الطويل جدا ـ كهلاً يعانى انسداداً فى الشرايين والأوردة والأوعية ،إضافة إلى خشونة حادة فى الركبتين ؟! .
لا يجد “محمد خير” صعوبة ـ كما تخيلتُ شخصياً ـ فى العبور من بوابة شعر العامية إلى القصة ومنهما إلى الفصحى، فهو من ذلك النوع الذى يملك رؤية للعالم قائمة على التأمل والإخلاص التام له ،ورؤية للكتابة قائمة على البساطة ،والبساطة ليست وصفة طبية ، لكنها “فن” خالص ، يجعلك ـ على الأقل ـ لا تدور حولك نفسك طويلا ، بل تغوص داخلك سريعاً ، فأنا وأنت نشترك فى أشياء كثيرة، خاصة إذا دخلنا المطبخ ،نعم “المطبخ “، انظر معى إلى الأرفف ، وتوقف عند التوابل ، واقرأ قصيدة “سهو ” فى الصفحة الثالثة عشر من الديوان ، والأفضل ألا تجهد نفسك بالبحث وتقرأها هنا: “فوق أرفف المطبخ /تركتِ لى /كل هذه العُلب /وقد ألصقتِ فوقها /أوراقك الصغيرة /وخطك الكبير/يشرح اسماء البهارات /بوضوح وصبر /كنت أعرف/أن ها الحنان سيؤلمنى /يوما ..”.
لاشك عندى أنك تقف بجوارى الآن وأمامنا الشاشة العملاقة والشاعر لم ينته من فنجان القهوة بعد!.
فى وسط المدينة ،فى أى شارع منها ،ستصادف وجهاً ضاحكاً لطفل يكبر يوما بعد يوم ،بينما مازال يعلق فى كتفه حقيبة جلدية كأنها ميراث وثروة وصديقه جميلة ـ لا يغرك شكلها وهى تتدلى لتقارب ساقيه مفتوحة السوستة أو السوستين ـ هذا الطفل الذى يشبهك تماماً وأنت تعيش “الوحدة ” مستمتعاً بها ،هو بطل ديوان “هدايا الوحدة ” ، مجنون أنا ،وهل للدواوين أبطال يا جاهل ؟!، لو كنتُ ناقدا جيداً لابتكرت مصطلحا يختصر كل هذه الثرثرة !،لا بأس! ،فلنحتكم إلى القصائد ربما نجد “نظريةً” عن قصة بطل الديوان هذه :” إلى حيث تنتمتين / ذهبنا معا /ثم عدت وحدى .. وهكذا يمكننى أن استمر فى خداع السرير /والتلفاز والشرفة /فأقنعهم /أن غيابك /مسالة مؤقتة “من قصيدة “كان شيئا لم .. “، لا بأس من /تزويق الذكريات ببعض العصافير ” قصيدة : سيصدقنا البعض” ،الفقد /ليس شراً كله /الخبثاء /أصحاب التجارب /فى لحظات الوداع/يعرفون ذلك /ينشغلون بالتفكير “قصيدة :من ناحية أخرى”،يقتسمان الوحدة :/المسافر /ورصيف المحطة /كذلك :المريض وسرير المستشفى/الشحاذ /وسور المدرسة/ الأرملة وذكرياتها “بالتساوى”.
أليس هذا بطلا واحدا يكتوى بالوحدة ويستمتع بها ويلاعبها ويصادقها ؟!.أليس هذا “بطل” يقدم الهدايا لأصدقائه البائسين فى عالم الوحدة ؟!، يبحث عنهم فى كل مكان ويواسيهم ؟!، أنا عن نفسى أعانى “الوحدة” وفرحت بالهدايا ؟
محمد خير فى الحقيقة هو صاحب تلك “النظرية” فى الكتابة ـ التى فشلتُ فى ابتكارمصطلح نقدى فخيم يحددها ـ فقد جّربها فى ديوان عامية بعنوان ” بارانويا “،وجعل القصائد كلها لبطل واحد يقف فى الشرفة وحيداً ،ويتأمل نفسه فى المرايا مذهولا بالموسيقى ،وأحياناً يرى عصفوراً يحترق على سلك الكهرباء ويتساقط ريشة ..وحيداً أيضا ، وجّربها ” محمد خير ” بطريقة أقل فى مجموعتة القصصية البديعة “عفاريت الراديو”،ولا تشغل بالك بأنه يكتب الشاعر العامى والفصحى والقصة أيضا ، فهو ـ كما قلت لك ـ لا يجد صعوبة فى ذلك ، يتنقل بينهم بخفة ، لأنه “كاتب” يحرث أرضه بالأدوات التى يراها مناسبة كى تثمر تفاحا أوبرتقالا أو حتى”خس وجزر”،لايستورد التجارب ولا المبيدات ،والعنوان عنده ليس كلمات متراصة أو متراقصة أو جذابة ، أو تسرق عين القارىء !،لكنه “الماستر بيس” كما يقول أهل الفرنجة .. هو المفتتح والمنتصف والختام ، “الوحدة” هنا ـ فى هذ الديوان ـ تلف وتدور فى المكان ،كأنما لحن واحد متنوع ومتعدد ومدهش وبسيط ومضحك ،وأحياناً يصيب ـ أمثالى ـ بهستيريا الصراخ ،فخذ حذرك واغلق باب غرفتك واستمتع بالوحدة.