صورة لسيدة ميتة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رحاب إبراهيم

لم نكن نملك سوي صورة كارنيه قديم , صورة بالأبيض والأسود .الفستان الذي ظل هو المشهد الأخير لها لم أكن أعرف لونه الأصلي , لكنه كان مزينا بدوائر غامقة متعددة, أما غطاء الرأس فكان يشبه أوشحة النساء التركيات كما يظهرن في المسلسلات التاريخية فيما يعتبر أحدث صيحة وقت التقاط الصورة. كان مرتفعا قليلا يضفي عليها شيئا من الاعتزاز متناسقا مع حاجبيها الرفيعين .

نظراتها الثابتة كانت لا تراني طول الوقت, ربما لذلك ظلت ابتسامتها هادئة وغير مكترثة .

حول عنقها سلسلة ذهبية سميكة يتدلي منها “قرن شطة”.. من يا تري كانت تحب أن تغيظ؟

مع كل مرحلة كانت تحدث تغييرات في ترتيب الأثاث بالشقة , توزيع الحجرات , سرير زيادة أو ناقص .. يتزامن التغيير غالبا مع حدث مميز.. امتحانات ثانوية عامة , عقد قران .. عزومة هامة … إلخ

ظلت هي مكانها رغم الأشياء التي تتبدل حولها .. تشاهد كل شيء بعينيها الميتتين .

 صورة كارنيه نادي المعلمين الصغيرة تم التقاطها في ستوديو يقع في أول الشارع الذي نسكن فيه , والذي شهد كذلك كل أحداث حياتنا الهامة بدءا من صور الشهادة الإبتدائية وحتى صور الزفاف .

 ظللت في كل مرة أكره الصور التي يلتقطها لنا دون أن أجرؤ على تغييره، ..لم تكن المشكله فيه بالذات بل في صور الاستوديو بشكل عام . هذه الصور  تختلف عن الصور الحياتية التي تلتقط في المناسبات المختلفة وتكون نابضة بالحركة . على أي حال لم يكن لدينا اختيار, فهي لم تحب التقاط الصور في حياتها . من أجل أن تصلح للتعليق علي الحائط , تم تكبيرصورة الكارنيه ووضعها في الإطار المذهب الفخم .

عندما تكبّر الصورة قليلاَ عن حد معين تتلاشي التفاصيل الصغيرة .. خطوط الوجه .. تعبيراته ..تصبح صورة غامضة تليق بسيدة ميتة .

النادي تغير كثيرا بعدها .. رأيته مرة أو مرتين بنفس حالته القديمة ..دخلناه بتخفيض برفقة زوجة أبي , بصفتنا أسرة الراحلة .

كرسيها المفضل..حقيبتها الكبيرة المليئة بالساندويتشات ..مكان لعب الكرة ..قاعة الأفراح..كل شيء تهدم للأبد مع إنشاء الكورنيش الجديد .

ظلت إبرتي الكروشيه في الدرج .. وظل مسلسل ” فالكون كريست ” يتابع عرضه – أكملت لها مشاهدة  بقية الحلقات التي عرضت بعد رحيلها  .

لم أحب أبدا الحديث في الأمر , كنت أعتقد أن حياتي تمر بصورة عادية , وكنت أستاء من نظرة عدم الفهم في عيون زميلاتي .. كانت إحداهن تلعب معي في الغرفة حين سألتني : أين أمك ؟ أشرت للصورة بدون اكتراث وقلت : هاهي .

السيدات الأكبر سنا كن يحطنني بنظرة تحمل من الهلع والإشفاق ما لم أجد له مبررا حينها .. أحيانا لا تعرف ما الذي فقدته لأنك لم تع أنك تملكه .

حين يعطس طفلي الصغير , أنتفض من مكاني , أقوم لأجس حرارته , فيضحك من حركتي المفاجئة ..يعتبرها لعبه ..يعطس ثانية ناظرا لي بخبث . أجاريه , وأدعي أنني أداعبه لأمنع  القلق من الوصول إليه .

أقص أظافره الصغيرة , وأقبلها واحدا واحدا لأتأكد أن لا شيء يؤلمه .

الآن أعرف سر النظرات في عيون السيدات الكبيرات … مضي زمن طويل علي أي حال .

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم