الرواية تحتاج إلى قارئ ذكي، يستطيع ربط التفاصيل ببعضها، وهناك إشارات ومفاتيح ينثرها الكاتب بامتدادها، وضياع أحدها يعني فقد شيء مهم جداً في النص، ويعني كذلك عدم الربط بين حيوات الأبطال ومصائرهم، وهم تماثيل صنعها وأحياها النحات، الذي يصارع محنة وجودية كبيرة، وبالتالي فإن شرط استمتاعك بالعمل هو قدرتك على التركيز بامتداد الرواية، سواء في حياة المثّال السابقة، أو أثناء وصوله إلى الجزيرة، أو مع بداية خلقه لشخوصه، وتقاطعه معهم، بما في ذلك من مواقف غريبة منبعها هو تفاجؤ الخالق ذاته بتصرفات مخلوقاته، أو حتى بردود أفعاله نفسه على تلك التصرفات. أيضاً لا تعتمد تلك الرواية على صوت واحد، فهناك أصوات متعددة، منها صوت لراو عليم، عليم حتى فوق الخالق، راو يفسر بعض تصرفات ذلك الخالق، ويكشف ما خفي عنه، أو ما التبس عليه فيما جرى له في الجزيرة، وفي تعدد الأصوات هناك إمكانية لرؤية نفس الأشياء التي تجري أو التي جرت من منظور آخر، بلغة منحوتة بأزميل أو بيد خبيرة هي يد النحات أيضاً في معظم صفحاتها، وهكذا لا أمل في متعة لقارئ كسول فيما يختص بتلك الرواية.
على تلك الجزيرة قرر ذلك النحات مواجهة غربته. قرر السؤال عن وجوده، وعن تلك الملامح المضطربة لمعظم الشخصيات التي عاصرها في حياة سابقة، قبل قدومه إلى ذلك المنفى الاختياري. لا يمنحنا الكاتب شخصياته أو لا يصيغها دفقة واحدة، بامتداد صفحات الرواية يمكنك أن تستخلص ملامح نهائية وقاطعة وحادة للشخصيات. في البدايات تكون الرؤية غائمة، لأن الشخصيات ذاتها تعاني مأزقاً وجودياً، يمكن تلخيصه في التشابه. ما الذي يمكن أن تشعر به لو أنك وجدت ملامحك تشبه ملامح كل من حولك؟ ألا تشعر بأنك تنظر في مرآة؟ ما الذي يعنيه ذلك في ظل وجود خالق ومنحوتات يختار لها أشكالاً متباينة كبداية؟ ألا تشعر بأننا مجرد فكرة واحدة في النهاية مهما اختلفت ألواننا وملامحنا وأطوالنا؟ أين هذا التفرد المزعوم الذي نعتقد أنه سمة لكل منا؟ ثم بماذا يشعر ذلك الخالق حينما يرى ملامحه في ملامح معظم الشخصيات؟ ولماذا نختار نفس تصرفاتنا التي أقدمنا عليها في حياة سابقة حينما تتاح لنا حياة جديدة؟ أليسا هذا أيضاً استنساخ كئيب يصيبنا بالإحباط ويجعل الموت رغبة أعلى من الحياة في نفوسنا؟ وعلى سبيل المثال هناك دائماً حتى شعور بعدم الانتماء إلى أشخاص معينين بامتداد الرواية، وتشكيك في الأنساب. المثّال نفسه يشك في نسبه إلى أبيه أو زوج أمه، مع أنه طوال الوقت يصف الأب بمسماه، وأنت ستشعر دائماً بأنه أكثر قرباً من زوج الأم العطوف، وهكذا ستشعر أنت أيضاً بالحيرة، ومع سرد التشابهات بين كل كل هذه الشخصيات يمكنك أن تتشكك أيضاً فيما إذا كان الأب وزوج الأم شخصين أم شخصاً واحداً. على أي حال لم تطرح الرواية إجابات، وظلت ناقصة كثيراً، ولا تنخدع بما قاله الرواي العليم في نهايتها: “هذه إذن كل الأوراق التي عثرنا عليها واجتهدنا في ترتيبها وتبسيط صياغتها لتعم الفائدة وينعم بمعرفة محتواها كل دانٍ وقاصٍ. لكننا في النهاية لسنا على يقين تام من أنها كل الأوراق التي كُتِبتْ ولا كل الأحداث التي جرتْ غير أن ما نأمله في نهاية المطاف أن يُشكر سعيُنا ويُرفع ذكرُنا وأن يُضاف هذا الجهد إلى ميزان حسناتنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل”.
الأسئلة السابقة ليست كل أسئلة الرواية، أو أسئلة الشخصيات، التي تتحرك في عوالم مصنوعة. صاغها المثّال، ورغم ذلك أفلتت منه، وبدا كأنما تصيغ قوانينها الخاصة، فهناك أيضاً أسئلة تتعلق بتفاصيل البدايات، بالرغبة الأولى، بإحساس الملمس الأول، سواء كان للتراب أو الأرض البكر أم لرائحة شخص آخر. لقد ترك المثّال لشخصياته حرية التصرف. كل تمثال دبت فيه الحياة بدا كأنما ينحو على النحو الذي يروقه مع أنه مشدود إلى حياته السابقة وتصرفاته خلالها. الجدة، والأم والأب، زوج الأم، رجل البرميل وبائعة اليانصيب، الرجل ذو القضيب المنتصب دائماً. لقد كان الأب مشدوداً طوال الوقت إلى موته، هرباً من استنساخه في الحياة، وفي المرة الوحيدة التي نظر فيها إلى السماء سقط في بالوعة، ليعيش كابوساً مرعباً، وتنتقل هذه الكوابيس إلى الابن المثّال، ففي نومه يشاهد مخلوقات عجيبة، ويصير العالم دموياً إلى أقصى درجة وكابياً ومرعباً، فهل تُورَّثُ الكوابيس؟. كانت الأم بدورها مشدودة بين عالمها من ذلك الأب، ثلاثة أولاد، وبين عالم زوجها الجديد بممثليه الذين يخلقون حيوات جديدة على المسرح.
وعلى الأرض الجديدة، أو في الحياة الثانية واصل كل منهم ولعه بعالمه الخاص أو بمعنى أدق توقه إلى حياته القديمة. المعادلة تبدو هكذا إذن: “نحن مجبرون على حياة بعينها ونسلك بطريقة معينة مهما أتاح لنا الخالق حيوات أخرى”. لقد تحول الرجل البرميل أيضاً إلى أشلاء حينما أشعلوا فيه النيران، وحاول جاهداً أن يُحذَّر من دسائس الرجل ذي القضيب المنتصب ولكن ماذا جرى؟ لقد تسبب الاثنان في بحور من الدم في قصة الخلق الثانية، وبقيت بائعة اليناصيب متمسكة ببقايا أمل متحصنة بطيورها وكائناتها وإخلاصاً لمهنتها ومحبتها للشخص الذي اختارت أن تكون بجواره منذ البداية مهما كرهه الكارهون.
حيرة المثّال نفسه ازدادت من حيث أراد أن ينهيها. لقد كان خفياً بالنسبة لتماثيله طوال الوقت. كان يحاول التواصل معهم غير أنهم لم يكونوا يرونه، وكان صوته يفزعهم، وعوضاً عن الملل قرر أن يصنع لنفسه امرأة، هي عروس النهر، ولم يتوقف كثيراً عند أسئلة تتعلق برؤيتها هي فقط له دوناً عن الآخرين. أليس هذا خللاً في بناء الرواية؟ لا. العمل كله يقوم على فكرة الخلق، والكائنات تقوم بتصرفات لا يمكن فهمها أصلاً حتى لمن صنعها، والأمر يبدو أقرب إلى لعبة، عليك أن تقبلها بشروطها وقوانينها، والعالم كله يدور دائماً بين منطقتين، الواقع والحلم، الحلم والكابوس، المادي والماورائي، الملموس والمحسوس، كما أن التيمة الأساسية في هذا العمل هي الصوت، وهو فقط ما يربط بين المنطقتين. لقد وجدت الكائنات أخيراً سلواها في الصوت الذي يأتيها من المجهول. لقد استراح الطرفان إلى الأمر، سواء المثّال أو الكائنات، إلى فكرة التواصل عبر ذلك الصوت. لا. ليس التواصل، بل الإحساس بأن هناك شخصاً يراقب تصرفاتنا. أخاً كبيراً، أو خالقاً، وبمرور الوقت سيختفي الجزع والهلع والخوف لتحل بديلاً لها تساؤلات تتعلق بطبيعة ذلك الصوت.
“سمعتُ صوتاً يحييني ويسميني ببائعة اليناصيب، فالتفتُ دون أن أرى أحداً بالقرب مني. نظر إليها الرجل دون أن يدرك، وكيف كان هذا الصوت؟ سألها. هامساً كأنه قادم من أرض أخرى بعيدة. كلاهما ينظر للآخر، ويراه. كلاهما يتحدث ويسمع. كلاهما يسكن في دائرة يحيط بها سياج لا يمكنني اجتيازه، كيف حدث هذا؟ أُحدّثُ رجلَ البرميل، ألا تراني أنت الآخر يا رجل البرميل؟ فيكلّم المرأة مدهوشاً، الصوت الذي تحكين عنه سمعته، ويسميني برجل البرميل”.
ولكن يبدو أن الرسالة فُهمت خطأ، والبشر الخطاؤون سيمارسون مزيداً من إراقة الدم، وفي تلك المرة على سبيل إرضاء الصوت، الذي يعبر عن عالم آخر مستتر: “ومن ثم فلا مناص من تشييد معبد لكسب محبة الصوت الذي نسمعه، والاحتفاظ بتعويذات يكتبها لكم المطّلع على الخبايا وترديدها بمحبة بالغة في أوقات بعينها، يقول لهم بصوت معدني. لكن ما الذي يريده الصوت؟ تسأل خالتي. يريد بعض الطقوس والذبائح،لا يود أذاكم في شيء، بل بالعكس، يحبكم كثيراً، ومن أجل ذلك سنستخدم الخراف والنعاج كقربان له”، والنتيجة أن انقسمت الكائنات إلى فريقين، فريق يستخدم نظرية التفويض الإلهي، وآخر يؤمن بوجود الصوت غير أنه متأكد من أنه ليست تلك الطريقة المناسبة للتقرب منه، وهكذا سالت دماء الفريقين بدلاً من الخراف.
لقد ارتضت عروسة النهر لنفسها دوراً، أن تندس بين الكائنات لتعرف ما يفكرون فيه بصوت عال، وهي أيضاً مثل معظم الشخصيات عاشت ممزقة بين عالمين، رغم أنها لم تكن موجودة في الحياة الأولى، فهي بوضوح حملت من المثّال، الذي لا يتجسد للكائنات، ولن يصدقوا بكل تأكيد قصتها، وهكذا عاشت في معية رجل آخر، يرى أنه يضاجعها في أحلامه عشرات المرات، وهكذا سيذوب الفارق في ذهنه بين الواقع والحلم وسيظن أنها زوجته وأن طفلها طفله. المدهش أن المثّال نفسه سيشك دائماً في نسب ذلك الطفل، وهكذا فإن المثّال أقل من خالق. شخص مريض بالهذيان، ومسكون بأشباح الحياة الأولى، يفتقر إلى خيال كبير، لأنه اعتمد في تصميماته على ما عاينه ورآه في تلك الحياة، وتسبب في تكرار الألم حتى للأشخاص الذين يحبهم، كان نقياً، ولكنه أيضاً قاد الجميع إلى الهلاك وذهب إلى جزيرة أخرى ليعاود تكرار الأمر بنفس الصيغة، بادئاً بالعصافير.
عمد أحمد عبداللطيف منذ الصفحة الأولى للرواية على تصميم باترون خاص به، قبل أن يبدأ في التفصيل على مهل، لقد كان يعلم أنه يهيكل العالم، وبحيث يبدو عالماً تجريدياً تماماً، ومع هذا حاول دائماً ملامسة الأرض، وصنع عالماً موازياً، وكانت طريقته في ترتيب الصفحات وفي المزج بين الأصوات، وفي تعدد الأفناط، وفي الإشارات والإيماءات والمفاتيح التي ينثرها محاولة لإجبار القارئ على المشاركة في صياغة هذا العالم، وفي الربط بين مفرداته، بلغة شديدة التركيز، من الكلمة الأولى إلى الكلمة الأخيرة، ما يعني أن الرواية جهد لا يقدر عليه الكثيرون.