في كل مرة يُعلن فيها اسم جائزة بمصر تقوم الدنيا ولا تقعد. أمس كان يوماً مطيراً في القاهرة. الموجة القارسة أبقت كثيرين في منازلهم، وكان الموضوع الأثير لرواد مواقع التواصل الاجتماعي هو اسم الفائز بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية.
وكعادة الجائزة كل عام انبرى صحافيون في تسريب اسم الفائز، وقبل إعلانها بساعات كانت القاهرة تعلم أنه الروائي خالد خليفة عن روايته “لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة”.
كتب الروائي الكبير عادل أسعد الميري على فيس بوك “لم يعد هناك أي معنى لأي لجنة جوائز، كلها محسوبيات وكوسة وقرف. رواية أشرف الخمايسي أفضل مائة مرة، من رواية لا سكاكين في مطابخ المدينة”، يقصد رواية “منافي الرب”، وانتشر كلام كثير عن أن الجائزة أصبحت مُسيسة، وهؤلاء يرون أنها ذهبت إلى سوريا بالذات مناصرة للقضية السورية، التي يؤازرها خالد خليفة بشدة. هؤلاء يرون أن الفن أصبح تالياً، وأن السياسة باتت تحكم. إلى هذا الحد لا يرى أحد أحقية الروائي السوري بالفوز بالجائزة؟ الإجابة لا. الأعداد الأكبر هنأت صاحب “لا سكاكين في مطبخ هذه المدينة”، وقد تعرض لفصل بارد من فصول السلطات المصرية التي رفضت أن تمنحه تأشيرة دخول مصر.
غاب كثير من رموز الثقافة والروائيين الكبار عن حفل الجائزة ربما لعلمهم السابق بأن صاحب الجائزة لن يحضر، وربما أيضاً بسبب الطقس شديد السوء، وفضلوا مشاهدة وقائع الاحتفال عبر شاشات التلفزيون، وقد ألقى الشاعر والصحفي سيد محمود كلمة خليفة نيابة عنه.كتب خليفة في ورقته: “لأول مرة تقف الكتابة وجهًا لوجه مع ذاتها، لتجيب عن سؤال خطير ماذا تفعل الكتابة حين يصبح الموت فاحشًا إلى هذه الدرجة، لأول مرة أتساءل مصدومًا عن جدوى الكتابة، وأعترف بأن أوهامي قد انتهت حين اكتشفت بأننا أشخاص ضعفاء إلى درجة كبيرة، غير قادرين على مساعدة طفل نازح في المخيمات وإعادته إلى دفء منزله، أو جثة رجل قتله قناص لمروره الخاطئ من المكان الخاطئ في ذلك الوقت الخاطئ، لكنها في الوقت نفسه أزالت عن عيني غشاوة كنت لا أجرؤ على الاعتراف بها من قبل، نحن نعمل في الهشاشة لأننا نصنع الجمال، نساهم بجعل حياة البشر أقل وحدة وقسوة، لا ننصر مظلومًا لكننا نساعد المظلوم على أن يستجمع قواه ويحارب من أجل قضيته، لا نستطيع إقناع امرأة مهجورة بأن العزلة ليست سيئة إلى هذه الدرجة، لكننا نستطيع أن نجعل عزلتها أقل وحشة. نفضح طغاة وانتهازيين وقتلة، ولكننا لسنا محكمة تصدر أحكامًا، هكذا أرى الرواية التي غيرت حياتي، جعلتني أقل قسوة وأكثر دقة في إصدار أحكام قيمة قاطعة لا تقبل النقاش، لأن في الرواية كل شيء قابل للنقاش والتحول والذهاب في الاحتمالات الغريبة، لأنها ببساطة سجل الإنسان الذي مازال يكرر أسئلته عن السعادة والحب والكراهية ومازال يلهث وراء سؤاله الأساسي وأقصد هنا بسؤال الموت”.
وأضاف: “لقد بدأت الرواية العربية تحفر في الذات والمجتمع متخلية عن الإنشاء لصالح السرد والنثر الحقيقي مع معلمنا نجيب محفوظ الذي علمني معنى المثابرة، معنى قوة الكتابة وألمها، كما علم أجيال من قبلي، وسيكتشف من سيأتي من بعد جيلنا الكثير من أسرار يتعلمونها من نصوصه، واليوم تقف الرواية العربية على تلك الأرضية التي ستنطلق منها الرواية العربية لتكون شريكة في الفضاء الإنساني، خاصة وأنه في العقد الأخير بدأت مرحلة جديدة في حفريات الفرد والبوح بالمسكوت عنه، كما ستساهم الثورات التي مازالت في أول الطريق في جعل اليقين قابلاً للشك، وبالتالي المجتمع الذي عاش كل هذه القرون في بحثه عن هويته سيصل بالتأكيد إلى نتائج مغايرة تنفض الغبار عن ثقافة عظيمة كانت يوماً شريكة في الثقافة الإنسانية المتمدنة وليست مجرد صدى ومستهلكة للنتاج الانساني. أيتها السيدات أيها السادة لم أكن يومًا أتخيل أنني سأكون هنا تطوق عنقي ميدالية المعلم نجيب محفوظ كما طوق عنق كل الروائيين العرب إرثه الذي تركه لنا. شكرًا للجنة التحكيم شكرًا لحضوركم وشكرًا للجامعة الأمريكية في القاهرة الجهة الراعية لهذه الجائزة، وللقاهرة التي ستنهض وتعود مرة أخرى الأم الكبرى لكل عشاقها وأنا واحد من هؤلاء العشاق”.
ناشرة الرواية الدكتورة فاطمة البودي، دار “العين” تسلمت الجائزة نيابة عن خليفة، وقد اختير، بحسب بيان اللجنة، بإجماع من أعضائها، الدكتورة تحية عبد الناصر، والدكتورة شيرين أبو النجا، والدكتور حسن حمودة، والدكتورة منى طلبة، والشاعر عبده وازن، رغم أن التسريبات الصحفية أكدت على مؤازرة أحد أعضاء اللجنة لرواية الخمايسي.
وفي كلمتها قالت تحية عبد الناصر: “إن خليفة في روايته يسرد قصة مدينة حلب، والشعب السوري في نصف قرن، وتجسد الرواية سيرة عائلة في مواجهة الاستبداد، وقصة مدينة على حافة الانهيار، والرواية تقدم شخصيات في مدينة تواجه القدر، وتدخل في واقع قاس يتشكل من الخوف والفشل. وهي أنشودة لسوريا، يقوم فيها الراوي الشاهد بتضفير روايته ومعاناة الشعب، القهر والثورة، والدمار والأسى، وفي سردها للخوف والتطرف والاستبداد، وتعبر عن روح المقاومة، والأحلام المبتورة، كما أنها رواية تتمرد على الخوف وتقطع الصمت، ويبدع فيها الكاتب من خلال تجسيد عزلة العائلة.
وفي الأوراق التي تسلمها الصحفيون وتحوي أراء أعضاء اللجنة قالت الدكتورة شيرين أبو النجا إن الرواية تموج بالكثير من السكاكين، ولكل شخصية فيها سكين خاص، لا يجمع هذه السكاكين سوى حضور الأم بشكل كلي، حتى أن غيابها تحول إلى شكل آخر للحضور سلباً وإيجاباً، ووصف الدكتور حسين حمودة الرواية بأنها “عمل عن قهر الجسد، والروح، وفي عالمها ملامح لمشهد كبير عن مدينة حلب، وأجواء الكابوس الجماعي في فترة بعينها”، أما الدكتورة منى طلبة فقالت إن خليفة بسكين الفنان المثال أبدع منحوتات روائية بديعة لأشلاء أسرة عربية أدماها العنف السياسي، وقال الشاعر عبده وازن إنها رواية عائلة ومدينة ووطن على شفى السقوط.