أحمد عبد الرحيم
منذ بداية خمسينيات القرن العشرين، عرفت هوليوود أن الشباب، مُمَثلًا فيما كان يطلق عليه وقتها: جيل الروك آند رول، سيمثل جانبًا لا يستهان به من رواد السينما. لكن لم يتحوّل ذلك إلى عقيدة إلا منذ نهاية السبعينيات، بعد النجاح الأسطورى لفيلم المغامرات الشبابية Star Wars المعروف عندنا بعنوان حرب النجوم سنة 1977، لتدشن هوليوود حقيقة أن الشباب بين سن 18 و32 سنة، صاروا هدفها الأول وجمهورها الأساسى الذى تُصنَع من اجله الأفلام، ومن ثم، أصبحت الخطة هى صناعة أحلام جميلة وضخمة، إلى أقصى حدود الجمال والضخامة، من أفلام أغلبها أكشن أو كوميديا، كى تسلّى هذه الفئة، وتنسيها مشاكل حياتها اليومية. الآن، يجىء فيلم فرنسى الإنتاج، صغير بالمقارنة، ليتوجّه إلى تلك الفئة العمرية نفسها، ولكن كى يناقش مشاكل حياتها اليومية.
هذا الفيلم يدعى (Phantom) أو (شبح)، واضطلع بإخراجه (إلى جانب كتابته، تصويره، مونتاجه، وإنتاجه) المخرج الفرنسى الشاب (Jonathan Soler) أو (جوناثان سولير). (شبح) يخلو من دراما فعلية، أو شخصيات متصارعة، ويقوم على حوار طويل ممتد، مدته ليلة واحدة، يدور بين فتاة وفتى، من سكان طوكيو، فى عشرينيات عمرهم، مُتعرّضًا لكل آلامهم وآمالهم.
يبدأ الفيلم بالفتاة تعود ليلًا من عملها. تخلع الكمامة الواقية من الميكروبات، والتى تغطى ملامح وجهها، وربما مشاعرها. تخلع ملابسها، وتطبخ عشاءً جاهزًا، وتتناوله وحيدة، ثم تحاول النوم، لتفشل رغم إنهاكها. وهنا يظهر فى ظلام غرفتها الفتى، وهو شاب فى عمرها، ليتحاورا عن كل ما يشغلهما من هموم ومخاوف، طموحات وأمنيات، فـ”هى” تعمل فى وظيفة لا تحبها، وتعانى وحشة الاغتراب وسط مدينة مزدحمة بالبرود، تعيش بعيدًا عن أب خرج من البيت يومًا ما ولم يعد، وأم لا علاقة وطيدة معها. أما “هو” فمستمع جيد، أقل اكتئابًا، وإن كان ليس أقل خوفًا أو وحدة. وعندما تحاصرهما همومهما، يمارسان الجنس. كل ذلك، بينما تتجوّل الكاميرا فى شوارع طوكيو، لتتابع البطلين فى رحلة ليلية ونهارية، وتتأمل تفاصيل صغيرة فى الأشياء والبشر. إلى أن يحل الصباح، ويرمى البطلان حمولهما على الغد، لعل كل شىء سيتحوّل إلى الأفضل من تلقاء نفسه.
(شبح) يُعرّى نفس الشخصية الشابة فى المدينة المعاصرة الكبيرة، لا لشىء سوى تعرية الإنسان فى حضارة اليوم المتطورة. وللفيلم موهبة خاصة فى التقاط التفاصيل الصغيرة؛ سواء فى حياة المدينة، أو فى رد الفعل النفسى والفكرى تجاهها. كلٌ من شخصيتىّ الفيلم يعبّران عن أعمق مخاوفهما المرتبطة بالمدينة، لنرى “هى” مذعورة من نسيان اسمها؛ إذا ما توقف الناس عن مناداتها به. و”هو” يشاهد فى نومه دائمًا كوابيس لكائنات Zombie أو موتى أحياء؛ يطاردونه ويريدون الاستيلاء على جسده (الموتى الأحياء من الوحوش المشهورة فى أدب وسينما الرعب، وهم جثث بشرية تتجوّل كقطعان متبلدة، باحثة عن البشر الأحياء كى تتغذى عليهم، أو تحوّلهم إلى نسخ منها). إن هواجس “هى” و”هو” تعكس الخوف من ضياع الفردية، بل الإنسانية، فى – وبواسطة – تلك المدينة الكبيرة القاسية.
حقّق السيناريو امتيازًا فى دقته، خاصة عند إحصائه للمخاوف المرتبطة بالمدينة، سواء المذكورة آنفًا أو غيرها، ومعالجتها – حواريًا – ببساطة. ومع المخاوف تأتى الآمال، والتى عالجها الحوار بالطريقة نفسها. فمثلًا، كل أحلام “هى” تتلخّص فى رغبتها بحلم خاص، تستطيع تحقيقه، ووظيفة محترمة، وبعض من الحب. لأنه بدون هذه الأشياء، يتحوّل الإنسان إلى شبح، ويصيبه العجز سريعًا، لتعبر سنوات حياته فى أيام، ويتلاشى تدريجيًا، فلا يحس بشىء، أو يحسه أحد. هناك مناقشات دقيقة لمشاكل تعانى منها الفئة العمرية الشابة فى المدينة، أى مدينة، مثل مقاييس المجتمع لتقييم الشخص (درجة الوظيفة، حجم المرتب.. إلخ)، وكم تُنهِك هذه المقاييس أفراد المجتمع فى الوصول إليها، رغم كونها لا تدل على أن من يحقّقها فى النهاية شخص طيب، أو صاحب أخلاق! ستنتبه مبكرًا أن بطلى الفيلم بلا أسماء، وذلك كى ترى نفسك – كمشاهد – فيهما بسهولة، لاسيما لو كنت من كائنات المدن الكبرى مثلهما، زائد الإشارة الضمنية إلى كونهما مسحوقين تحت هذه المدينة التى تكاد تمحو اسميهما، أو بالأصح وجودهما. هناك جمل حوارية بارعة تؤصِّل معانى كهذه؛ مثل: “الصعوبة الحقيقة هى أن تجد مكانًا فى عالم لا يملك بالضرورة مكانًا لنا”، أو “بدون أن نلحظ، ربما نتحول كلنا إلى أشباح”. هناك جمل أخرى لا تقل براعة، مثل: “أفضل طريقة لعدم ارتكاب أخطاء؛ هى ألا تفعل شيئًا على الإطلاق”، أو عندما تعلن “هى” رغبتها اللحوحة فى مغادرة المدينة، والاستقرار فى الريف يومًا ما، يخبرها “هو” كاشفًا إياها: “..وطبعًا، دائمًا ما تعنى كلمة يومًا ما؛ لن يحدث أبدًا!”. بشكل عام، يؤكد الحوار تفوقه، ليس فقط لصدقه الشديد، والذى يعرف كيف يمسَّك كليّة، وإنما أيضًا لقدرته على فلسفة مأساة المدينة فيما يبدو كثرثرة عادية أخرى.
لم يكن السيناريو هو إنجاز الفيلم الوحيد، لأن الصورة أثبتت الكثير من التفرد، رغم كون العمل مُصوّرًا بالكامل عبر كاميرا فيديو HD، وليس على فيلم 35 ميللى كالمعتاد. ستجد، على عكس أفلام المحاورات الطويلة السابقة، مثل الفيلم الأمريكى Before Sunrise أو قبل شروق الشمس 1995، أن الكاميرا تتحرّك فى إطار شعرى أحيانًا، وقريب من الأحلام أحيانًا أخرى. فوضعية الكادر غير تقليدية غالبًا، والكاميرا تتحرّك بنعومة بالغة، مع ترتيب للقطات لا يعتمد على منطق زمانى مكانى محدّد، وإنما يقترب فى عرضه للصور من أسلوب التداعى الفكرى أو حلم النوم (سواء للبطلين داخل حجرة النوم ليلًا فى الظلام، أو لهما فى أنحاء المدينة ليلًا أو نهارًا، أو لتفاصيل هذه المدينة)، مما سما بالفيلم من مجرد حوار طويل إلى رحلة بصرية داخل نفسية بطليه، وجسّد شعور التيه الذى يعانيانه فى مدينة “الموتى الأحياء” هذه. مسائل مثل أن كل الحوار يدور off screen أو خارج الشاشة (بحيث لا تشهد أبدًا الشخصية وهى تنطق كلامها حتى وهى ظاهرة أمامك)، أو كون أغلب لقطات الوجوه مُصوّرة out of focus أى مُضبّبة؛ كلها عضّدت اختفاء الإنسان. أحببت للغاية مرأى البطلين، فى لقطات كثيرة، كخطوط حمراء عشوائية، أو نبضات ضوئية خافتة فى الظلام، فى ترجمة خلّاقة لحالة الظلال الدافئة التى تحوّلا إليها. صحيح تتكرّر لقطات لبشر غرباء يمشون، أو يهرولون، فى الشوارع بدون الالتفات لبعضهم، لكن يبقى تكرُّر صورة تماثيل عارضات الأزياء، فى الواجهات الزجاجية لمحلات الملابس، وهم بلا ملامح وجه، أو حياة، كأبشع انعكاس كابوسى لمجتمع هذه المدينة فى ضمير الفيلم. وبينما قدمت رقصة الكيس البلاستيكى الفارغ مع الهواء، فى الفيلم الأمريكى American Beauty أو الجمال الأمريكى (1999)، جمالًا طبيعيًا فريدًا تقابله مصادفةً، قدمت الرقصة نفسها، المكرّرة هنا فى أحد المشاهد، الخوف من أن نتحوّل إلى شىء ضعيف، وحيد، تائه. باختصار، أعلنت صورة هذا الفيلم صراحة أن “الغريم” الحقيقى فى هذه “الدراما” هى تلك الحضارة المادية بالكامل، التى تتغذى على أرواح سكانها، بقيمها المتوحشة، وإيقاعها المحموم.
تمكّن المونتاج من صياغة إيقاع تأملى فاتن يترك مساحة صمت محسوبة بين كل محاورة وأخرى؛ كى تتفكّر فى الكلام السابق، وتلتقط أنفاسك قبل الكلام اللاحق. وجاء ربط المحاورات بليلة واحدة / مكان واحد (غرفة النوم)، مع عرض مشاهد للبطلين معًا خارج هذا الإطار، فى الليل أو النهار، وعبر أرجاء المدينة، لإظهار أن كل هذه الأفكار والأحاسيس ليست حكرًا على ليلة أرق واحدة، وإنما هى معاناة يومية لا تنقطع.
Yuki Fujita أو يوكى فيوجيتا فى دور الفتاة، وMasato Tsujioka أو ماستو تسيوجيوكا فى دور الفتى، قدما أداءً صوتيًا مدهش الحساسية، استحضرا فيه البراءة، والحيرة، والوحدة الجاثمة على صدر شخصيتهما. وإن نالت فيوجيتا درجة أكبر من زميلها، إذ تقمص صوتها روح طفلة حزينة، لا تكف عن الشكوى، والتساؤل، والتمنى، فى حالة من الضعف، والرقة، واللطف، تخطف تعاطفك، وتحتل وجدانك، وتسرق كثيرًا من الضوء، إن لم يكن كل الضوء، من تسيوجيوكا!
القطع الموسيقية الالكترونية المستخدمة فى شريط الصوت معدودة، لكنها تنضح بشعور خوف لا يمكن إخطاؤه، وصوَّر استخدامهم على خلفية لقطات لشوارع مظلمة، وبنايات خرساء، خطورة مدينة تمتص إنسانية ناسها، وتقلبهم بعدها إلى أى شىء آخر (أشباح، تماثيل، موتى أحياء..)، وكأننا فى فيلم رعب، المدينة فيه هى الشرير القاتل، أو المسخ الأعظم.
وفى النهاية، لابد أن تحب رسالة التفاؤل التى يُختتم بها الفيلم. فعندما تجد البطلة نفسها تغرق فى محيط اليأس، تتعلّق بقشة أمل، وتستبشر بأول خيوط الفجر، لتنطق ما نكتشف لاحقًا أنه آخر جملة فى الفيلم: “Things will work out”، أو “الأمور سوف تنصلح”، وهو – فى رأيى – من الأمور التى ستجعل (شبح) عملًا كلاسيكيًا بالنسبة للبعض، يشاهدونه لأكثر من مرة بلا ملل، كى يشِّرح آلامهم وآمالهم فى عتمة الليل، ثم يروِّج إلى فجر أكيد يلى تلك القتامة!
بالنسبة لسلبيات الفيلم، فأنا أظن أن الصورة كانت تحتاج لدراسة أكبر. بالقياس لحوار “دسم” مثل ذلك، لم تكن بعض اللقطات المعروضة كافية. فالكاميرا تطوف بين سلع منتهية الصلاحية، وبشر انتهت صلاحيتهم بالنسبة للمدينة (كالمشردين والنائمين على الأرصفة)، وبين هواتف عامة تتدلى منها سمّعاتها، وورق يحترق. لكن ذلك كان أفقر من الحوار المُصاحِب له أحيانًا، والذى تطلّب طوافًا أكثر إبداعًا فى ثنايا هذه المدينة / الوحش.
الصورة فى أول خمس دقائق كادت تدفعنى بعيدًا عن الفيلم. فاللقطات المعروضة للبطلة فى شقتها بدائية جدًا، ولا تنم عن أى شىء مختلف، أو جذاب، أو حتى متقن! والإيقاع بطىء فى استعراض أمور عادية ومألوفة (كغسل الوجه، الطبخ، تناول الطعام.. إلخ). أعتقد أنه من الخطأ أن تفقد اهتمام مشاهدك فى هذا الوقت المبكر، اللهم إلا إذا كان ذلك مقصودًا لتحقيق “صدمة فنية” للمشاهدين المعتادين على أفلام السينما الهوليوودية، كى يتم تحذيرهم من البداية: “إنكم تشاهدون شيئًا آخر”، وإن حدث ذلك على نحو أراه صاخبًا بعض الشىء!
لم تعجبنى مطلقًا نقاط الترويح فى الحوار؛ فقد انحصرت، كلها تقريبًا، فى أمور مقززة كإطلاق الريح من البطن، وتشمم المؤخرات. لا أعلم لماذا لم تخرج ابتسامات الفيلم عن هذه الدائرة ولو مرة؟!
رغم أى من هذا، نجح (شبح) فى أن يكون عملًا بسيطًا، عميقًا، آسرًا. لو كنت شابًا أو شابة من سكان المدن الكبرى، فلابد أنك ستقابل واقعك و – أكثر من ذلك – نفسك فى هذا الفيلم. إنه ينبّهك ألا تخسر روحك أمام المدينة الكبيرة لتتحوّل إلى شبح (ربما كان “هو” ليس إلا شبحًا ليليًا منذ البداية!). لذلك، أنت تحتاج إلى هذا الفيلم؛ ليس لتغُيِّر اعتيادتك مشاهدة أفلام هوليوودية فقط، وإنما لتُغيِّر حياتك نفسها.
بطاقة الفيلم
عنوان الفيلم: Phantom أو شبح.
سنة الإنتاج: 2013.
الجنسية: فرنسى (شركة GANKO FILMS).
اللغة: اليابانية.
مدة العرض: 76 دقيقة.
تمثيل: Yuki Fujita أو يوكى فيوجيتا فى دور الفتاة. Masato Tsujioka أو ماستو تسيوجيوكا فى دور الفتى.
تأليف / إنتاج / تصوير / مونتاج / إخراج: Jonathan Soler أو جوناثان سولير.
………….
نُشرت فى مجلة الثقافة الجديدة / العدد 281 / فبراير 2014.