شوارد حرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

أليس مونرو     ترجمة: أحمد شافعى

في البداية، كان الناس يتصلون بـ نيتا ليطمئنوا أن الغم لم يهزمها، ولا الوحدة، أنها لا تأكل أقل مما ينبغي، أو تشرب أكثر مما ينبغي. (وكانت شاربة نبيذ مخلصة؛ فنسي الكثيرون أنها الآن ممنوعة تماما من الشرب). وهي كانت تصدهم، دون أن يظهر في صوتها نبل من غلبها الحزن، أو بهجة غير طبيعية، أو تبدو شاردة الذهن، أو مرتبكة. كانت تقول إنها لا تحتاج إلى بقالة فما لديها يكفيها. وكانت لديها كفايتها من الأدوية، وعندها من طوابع البريد ما يغطي رسائل الشكر.

 

لعل الأصدقاء المقربين منها كانوا يخمنون الحقيقة، وهي أنها لم تكن تأكل الكثير، لأنها لم تكن معنية بذلك، وأنها ترمي كل رسالة تعاطف يتصادف أن تصل إليها. بل إنها لم تكن نقلت الخبر إلى المقيمين بعيدا، لكي لا تستنفر منهم هذه النوعية من الرسائل. فلم تخبر طليقة ريتش في أريزونا، أو شقيقه شبه الغريب، برغم أن هذين الاثنين بالذات كانا على الأرجح سيتفهمان، دون القريبين منها، لماذا قررت عدم إقامة جنازة.

كان ريتش قد أخبرها أنه ذاهب إلى محل الخردوات في  القرية، والساعة حينذاك قاربت العاشرة صباحا، وقد بدأ لتوه في طلاء سور الشرفة. أو أنه، للدقة، كان قد جهزه للطلاء الجديد، بكشطه الطلاء القديم الذي امتلأت يداه برقائقه.

لم يتسع لها الوقت كي تتساءل عن سر تأخره، فقد مات متكئا على لافتة مثبتة في الرصيف أمام محل الخردوات تعلن عن تخفيض على جزازة العشب. لم يتمكن حتى من دخول المحل. كان عمره إحدى وثمانين سنة وفي صحة طيبة، اللهم إلا بعض الصمم في أذنه اليمنى. وكان طبيبه قد فحصه قبل أسبوع واحد فقط، لتعلم نيتا لاحقا أن الفحص الحديث، والتقرير الطبي النظيف، يظهران بوتيرة مدهشة في قصص الوفيات المفاجئة التي باتت الآن على دراية بها، إلى حد أنها قالت “الظاهر أنه يستحسن تجنب هذه الفحوصات”.

كان ينبغي ألا تتكلم بهذه الطريقة إلا مع صاحبتيها المقربتين منفلتتي اللسان، فرجينيا وكارول، وكلتاهما تقريبا في مثل سنها، أي الثانية والستين. أما أصغر صاحباتها فرأت هذا الكلام غير لائق. في البداية ازدحم الناس حول نيتا. لم يتكلموا في مسألة الحزن والفقد، لكنها ظلت تخشى احتمال أن يبدأوا فيها في أية لحظة.

ولكنها لم تكد تبدأ في الإجراءات والترتيبات بالفعل، حتى تبدد الجميع من حولها، فلم يبق إلا من أثبتت التجارب معادنهم. أرخص تابوت، وفي الأرض فورا، بلا مراسم من أي نوع. حتى أن الحانوتي قال إن ذلك قد يكون غير قانوني، لكنها وريتش كانا على معرفة وثيقة بالمعلومات اللازمة، التي حصلا عليها قبل عام تقريبا، عند استلامهما التشخيص النهائي بإصابتها بالسرطان.

قالت “وما الذي كان يدريني أنه سوف يخطفها من فمي؟”

لم يتوقع الناس عزاء تقليديا، لكنهم كانوا ينتظرون على الأقل نوعا ما من الإجراءات الحديثة، يحتفي خلالها بحياته، وتعزف موسيقاه المفصلة، ويمسك المعزون أيدي بعضهم البعض، ويروون حكايات تثني على الراحل وتنبئ من طرف خفي ضاحك بعاداته وأخطائه البسيطة المغفورة.

أي أنهم كانوا ينتظرون شيئا مما قال ريتش نفسه إنه يثير غثيانه.

جرت الأمور في أضيق الحدود، وما كادت الحركة تنتهي، حتى تلاشى الدفء الكاسح الذي أحيطت به نيتا، وإن بقي من رجّحت نيتا أن يقولوا إنهم مشغولون بأمرها. وذلك ما لم تقله فيرجي وكارول. كل ما قالتاه إنها تكون قحبة  دموية أنانية لو فكرت أن تخلع الآن، أو في أي وقت سابق للأوان. قالتا إنهما سوف تمران عليها، لتنعشاها ببعض من فودكا الإوزة الرمادية.

طمأنتهما إلى أنها لا تنتوي ذلك، وإن كانت ترى في الفكرة منطقا راسخا.

بفضل العلاج الإشعاعي في الربيع الماضي، كان السرطان متراجعا في ذلك الوقت، مهما يكن معنى ذلك. ولم يكن يعني، طبعا، أن السرطان انتهى. ليس إلى غير رجعة على كل حال. كان كبدها هو مسرح العمليات الرئيسي، وطالما بقيت حذرة، لم تكن تتألم. كل ما في الأمر أنها كانت تغم صاحبتيها كلما ذكرتهما أنها لا تستطيع تناول النبيذ، ناهيكم عن الفودكا.

مات ريتش في يونيو. وانتصف الصيف. وها هي تنهض من فراشها مبكرة فتغتسل وترتدي ما يقع في يدها، لكنها تلبس وتغتسل، وتغسل أسنانها وتمشط شعرها الذي نما من جديد أنيقا، رماديا حول وجهها، أسود من الأطراف، تماما كما كان من قبل. تطلي شفتيها، وترسم حاجبيها، الرفيعين للغاية حاليا، وبدافع من احترامها طول عمرها للخصر النحيل والوركين المعتدلين تتفحص ما حققته في هذا الصدد، برغم معرفتها أن الوصف الوحيد الملائم لكل جزء في جسمها هو “الممصوص”.

تجلس في مقعدها الوثير المعتاد، ومن حولها أكوام من الكتب والمجلات المغلقة. ترشف بحذر من فنجان شاي الأعشاب الضعيف الذي أصبح حاليا بديلها عن القهوة، وكانت، في زمان مضى، لا تتصور الحياة بدون القهوة، حتى تبين أن الفنجان الضخم الدافئ، وليس أكثر، هو ما تريده بين يديها ليكون عونا لها على التفكير، إن كان تفكيرا بحق هو ما تمارسه على مدار الساعات أو الأيام.

كان هذا بيت ريتش. اشتراه حينما كان مع زوجته الأولى “بِيت”، بنية أن يكون مكانا للإجازة الأسبوعية، لا يفتح في الشتاء. بيت على بعد نصف ميل من القرية، فيه غرفتا نوم ضئيلتان، ومطبخ مفتوح. لكن سرعان ما بدأ ريتش يشتغل عليه، ولأجله تعلم النجارة، فأقام جناحا لغرفتي نوم جديدتين وحمام، وجناحا آخر لمكتبه، محيلا البيت الأصلي إلى غرفة معيشة مفتوحة وغرفة طعام ومطبخ. وأصاب الاهتمام “بيت”، بعدما زعمت أول الأمر أنها لا تفهم لماذا اشترى زوجها من الأساس مقلب الزبالة هذا، لكن التحسينات العملية كانت مسألة تهمها دائما، فاشترت مئزري نجار متماثلين. كانت بحاجة إلى ما تنشغل به بعدما انتهت من كتاب الطبخ الذي ظل يستحوذ عليها سنين عديدة إلى أن نشرته. ولم يكن عندهما أبناء.

وفي الوقت الذي كانت “بيت” منهمكة فيه في إخبار الناس بأنها وجدت دورا في الحياة كمساعدة نجار، وبأن ذلك قرَّبها هي وريتش كثيرا، كان رتش يقع في غرام نيتا التي كانت تعمل في مكتب مسجل الجامعة التي يعمل فيها ريتش أستاذا لأدب القرون الوسطى. أول مرة ناما فيها معا كانت وسط النشارة وألواح الخشب المنشورة في الجزء الذي كان ليصبح لاحقا غرفة البيت المركزية ذات السقف المقبب، وذلك في إجازة أسبوعية بقيت خلالها “بيت” في المدينة. وتركت نيتا نظارتها، دونما قصد، برغم أن “بيت” ـ التي لم تنس في حياتها شيئا ـ لم تصدق ذلك. ووقعت الجلبة المعتادة، المبتذلة والمؤلمة، وانتهت بذهاب “بيت” إلى كاليفورنيا، ثم إلى أريزونا، واستقالة نيتا من وظيفتها أخذا باقتراح المسجل، وضاعت على ريتش عمادة كلية الآداب. فتقاعد مبكرا، وباع بيت المدينة، ولم ترث نيتا مئزر النجار الصغير، لكنها راحت تقرأ كتبها في ابتهاج وسط فوضى البناء، وتعد وجبات عشاء بدائية على فرن كهربائي، وتخرج لتتمشى طويلا بقصد الاستكشاف، لترجع محملة بباقات غير منمقة من زهور زنبق النمر والجزر البري تضعها بعد ذلك في علب الطلاء الخاوية. وحدث لاحقا، حينما استقرت هي وريتش، أن شعرت ببعض الحرج عندما فكرت أنها كانت جاهزة تماما للعب دور المرأة الصغيرة، خَرّابة البيوت السعيدة، اللذيذة، الضاحكة، مدعية السذاجة، مرتكبة الغلطة المكشوفة. في حين أنها في الحقيقة كانت امرأة أميل إلى الجدية، في جسمها شيء من الخرق، واعية بذاتها، قادرة لا على أن تسرد أسماء ملوك إنجلترا فقط، بل وملكاتها، وسرد وقائع حرب الثلاثين عاما بالمقلوب، لكنها كانت تخجل من أن ترقص أمام الناس ولم تتعلم قط، على العكس من “بيت”، كيف تقف على سلم العمال المنفرد.

كان للبيت في ناحية منه صف من شجر الأرز، ومن الأخرى خط سكة حديدية مرتفع. ولم تكن حركة السكة الحديدية كثيرة قط، فما هما غير قطارين يمران في الشهر، فكانت الحشائش كثيفة بين القضبان، وحدث مرة وهي على شفا انقطاع الطمث، أن استفزت ريتش إلى أن ينام معها هناك، ليس على العوارض الخشبية بالطبع، ولكن على شريط العشب الملاصق لها، فمضيا إلى هنالك جامحين، وسعيدين بنفسيهما.

كانت تفكر كل صباح، بمجرد أن تجلس في مقعدها، في الأماكن التي ليس ريتش موجودا فيها. ليس في الحمام الصغير، حيث لم تزل أدوات حلاقته موجودة هي والأقراص الموصوفة لشتى مشكلاته التي كان يرفض أن يرميها. ولا هو في غرفة النوم التي نظفتها حالا وخرجت منها، ولا في الحمام الكبير الذي لم يكن يدخله إلا ليستحم في حوضه. ولا في المطبخ الذي أوشك أن يكون منطقته الأساسية خلال السنة الأخيرة. ولا هو بالطبع بالخارج في الشرفة، التي لم يكتمل كحت طلائها، مستعدا أن يمازحها من الشباك كما كان يفعل في الأيام الأولى، إذ يفاجئها من ذلك الشباك فتتظاهر هي بالفزع لمرأى الذكر المتلصص.

ولا في المكتب. وذلك، دون جميع الأماكن، هو المكان الذي ينبغي التحقق فعلا من غيابه عنه. في البداية، كان ترى من الضروري أن تذهب إلى الباب فتفتحه وتقف هناك تستعرض أكوام الورق، والكمبيوتر الهالك، والملفات الطاغية، والكتب الملقاة مفتوحة أو مقلوبة على أوجهها، أو المكدسة على الأرفف. أما الآن فتكفيها نظرة على كل ذلك.

وفي أحد هذه الأيام، سيكون عليها أن تدخل الغرفة. كانت ترى في ذلك غزوا. لكن سوف يكون عليها أن تغزو عقل زوجها الميت. لولا أنه احتمال لم تضعه قط في الاعتبار. فقد كان ريتش يبدو لها تجسديا للكفاءة والمقدرة، ذا حضور فيه من الحيوية والثبات ما جعلها دائما تعتقد ـ اعتقادا لا يستند إلى منطق ـ أنه سيعيش من بعدها. إلى أن أصبح الاعتقاد في السنة الأخيرة خاليا من الحماقة تماما، بل لقد أصبح في ذهنيهما ـ مثلما كانت ترى ـ يقينا لا يرقى إليه شك.

تعاملت أولا مع القبو. وهو قبو فعلا لا مجرد طابق تحت الأرض. ممرات من ألواح خشبية، وأرضية ترابية، وشبابيك تعشش فيها العناكب. ولم يكن فيه شيء سبق لها أن احتاجته على الإطلاق. ليس سوى أنصاف علب الطلاء، وألواح مختلفة الارتفاعات، وأدوات إما للاستعمال أو جاهزة للرمي. ولم تكن فتحت الباب ونزلت الدرج إلا مرة منذ موت ريتش، لتتأكد أن المصابيح مطفأة، وأن علبة المحولات الكهربائية الرئيسية هناك وعلى كل منها ورقة تعرف منها أيها يتحكم في أي الغرف. ولما طلعت، أحكمت إغلاق بحكم العادة باب القبو المجاور للمطبخ، وكانت هذه العادة مثار سخرية من ريتش، الذي كان يسألها ما الذي تتصور أن ينفذ من الجدران الحجرية والنوافذ القزمية ليهددهم.

ومع ذلك، يبقى القبو هو البداية الأسهل، الأسهل مائة مرة من المكتب.

رتبت السرير، ونظمت فوضاها البسيطة في المطبخ أو الحمام، ولكن بصفة عامة كان الدافع إلى أية أعمال منزلية شاملة أمرا بعيدا عنها تماما. لم تكن لتقوى على التخلص من مشبك ورق منبعج، أو مغنطيس فقد فعاليته، ناهيكم عن طبق العملات الأيرلندية الذي جاءت به هي وريتش من رحلة قبل خمسة عشر عاما. بدا أن كل شيء قد اكتسب ثقل تميزه وغرابته.

كانت واحدة من كارول وفيرجي تتصل كل يوم في قرابة وقت العشاء الذي لا بد أنهما تظنان أنه أشد أوقات الوحدة عليها. فكانت تقول لهما إنها بخير، وإنها سوف تخرج من وكرها عما قريب، وإن كل ما تحتاجه الآن هو أن تفكر، وتقرأ. وتأكل وتنام.

وكان هذا صحيحا، باستثناء الجزء الخاص بالقراءة. فقد كانت تجلس في مقعدها محاطة بالكتب فلا تفتح أيا منها. وهي التي كانت من قبل قارئة دءوبة، وذلك ـ فيما كان يقول ريتش ـ واحد من الأسباب التي جلعتها مناسبة له، حيث أن بإمكانها أن تنهمك في القراءة وتتركه وحده، ولكنها الآن غير قادرة على المواصلة ولو لنصف صفحة.

وأيضا لم تكن من قراء المرة الواحدة. فـ “الإخوة كرامازوف”، “طاحونة على نهر فلوس”، “جناحا اليمامة”، “الجبل السحري”، أعمال قرأتها مرات ومرات، كانت تتناول أحدها بنية استعادة فقرة معينة، فتجد نفسها عاجزة عن التوقف إلى أن تأتي على الكتاب كله مرة أخرى. وكانت تقرأ الأدب الحديث أيضا. والأدب طول الوقت. وتكره من يصف الأدب بـ “المهرب”. بل إنها قالت مرة في نقاش ـ غير هازلة ـ إن الحياة الواقعية هي المهرب. الحياة الحقيقية أصبحت الآن أصعب من أن يدور حولها نقاش.

والغريب الآن أن كل هذا مضى. ليس فقط بموت ريتش، بل وبانغماسها هي الأخرى في المرض. لقد كانت تظن أن التغيير عابر وأن سحر القراءة سوف يعاود الظهور بمجرد التوقف عن تعاطي أدوية معينة وعلاجات مرهقة.

إنما الظاهر لا.

وحاولت في بعض الأحيان أن تفسر هذا لسائلة تتخيلها

“أصبحت مشغولة للغاية”

“هذا ما يقوله الجميع. في أي شيء؟”

“مشغولة للغاية بالانتباه”.

 “الانتباه إلام؟”

“أقصد بالتفكير”.

“فيم؟”

“وأنت مالك؟”

وذات صباح، بعد أن جلست بعض الوقت، قررت أن اليوم بالغ الحرارة، وأن عليها أن تقوم فتفتح المراوح. أو ربما تقوم، بمزيد من المسئولية تجاه البيئة، فتفتح البابين البابين الأمامي والخلفي ليدخل تيار هواء، إن كان ثمة هواء، ويمر في البيت.

فتحت الباب الأمامي أولا. وقبل حتى أن تتيح نصف بوصة أمام نور الصباح يعرض من خلالها نفسه، كانت ترى شريطا أسود يقطع مسار الضوء.

كان ثمة شاب واقف أمام الباب السلكي المغلق بالخطاف.

قال “لم أقصد أن أفزعك. كنت أبحث عن جرس أو ما شابه. طرقت طرقة خفيفة على الإطار الخشبي، لكن يبدو أنك لم تسمعيها”.

قالت “آسفة”.

“المفروض أن أنظر في علبة المحولات الكهربائية. لو أمكن أن تخبريني بمكانها”.

تنحت جانبا لتسمح له بالدخول. واحتاجت لحظة لتتذكر.

قالت “نعم، في القبو. سأفتح لك النور. ستراها”.

أغلق الباب وراءة وانحنى يخلع الحذاء.

قالت “لا بأس، الدنيا لا تمطر يعني”

“واجب على كل حال. أصبحت عادة. وقد أترك أثرا من التراب بدلا من الطين”.

مضت إلى المطبخ غير قادرة على الرجوع إلى المقعد قبل أن يخرج.

فتحت له باب القبو وهو طالع على الدرج.

قالت “تمام؟ كله تمام؟”

“جيد”.

كانت تقوده إلى الباب الأمامي، ثم أدركت أنها لا تسمع وقع خطى من ورائها. استدارت فوجدته لا يزال وقافا في المطبخ.

“أليس واردا أن تجدي لي شيئا آكله؟”

نبرة صوته تغيرت، انشرخت، علت قليلا فجعلتها تتصور كأنه ممثل كوميدي يلعب دور ريفي. في نور الصباح الذي يملأ المطبخ رأت أنه ليس شابا بقدر ما تصورت. لم تكن قد رأت حينما فتحت الباب إلا جسدا نحيلا، ووجها معتما بسبب الشمس من ورائه. أما الجسد الذي تراه الآن فنحيل بالطبع لكنه نحول الهزال لا الشباب، النحول الذي لا يخلو من بعض الترهل. وجهه طويل ولين، وعيناه زرقاوان واسعتان، فيهما نظرة ضاحكة، وإصرار أيضا، كما لو كان يعرف بصفة عامة كيف يجد طريقه.

“شوفي، أنا عندي السكر. لا أعرف إن كنت تعرفين أحدا مصابا بالسكر، لكن الحقيقة أننا حينما نجوع لا بد أن نأكل. وإلا يختل النظام كله. كان لابد أن آكل قبل أن آتي إلى هنا، لكنني كنت في عجلة من أمري. عندك مانع أن أجلس؟”

كان جالسا بالفعل إلى مائدة المطبخ.

“عندك قهوة؟”

“عندي شاي، شاي عشبي، لو يعجبك”.

“أكيد، أكيد”

وضعت الشاي في المصفاة، وأوصلت كهرباء الغلاية، وفتحت الثلاجة.

قالت “ليس عندي الكثير. عندي بيض. أحيانا أخفق بيضة مع الكاتشب. يعجبك هذا؟ عندي بعض الكعك الإنجليزي يمكن أن أسخنه”.

“إنجليزي أيرلندي أوكراني ولا يفرق”

كسرت بيضتين في طاسة، وراحت تقلّب بشوكة خشبية، ثم قطعت كعكة إلى شرائح ووضعتها في الفرن. أحضرت طبقا من الخزانة، وضعته أمامه، ثم سكينة وشوكة من درج الملاعق.

قال “طبق جميل” ورفعه ليرى انعكاس وجهه فيه. وما أن عادت تنتبه إلى البيض على النار حتى سمعت الطبق يتهشم على الأرض.

قال بصوت جديد، مزعج بلا شك، وفيه ما يشبه الصرير “أوه، رحماك. انظري ماذا خطئي وخرقي”.

قالت “لا بأس”. فما حدث حدث.

“لا بد أنه أفلت من بين أصابعي”.

أحضرت طبقا آخر، ووضعته على طاولة الطبخ إلى أن تسخن الكعكة ويستوي البيض ومن فوقه الكاتشب.

بينما كان هو منحنيا يلملم كسر الصيني المكسور. أمسك قطعة ذات سن حاد. وبينما كانت تضع له طعامه على المائدة، كان يخدش بطن ساعده العاري بالسن. ظهرت قطرات دم ضئيلة، متفرقة في البداية، ثم تقاطرت معا في خيط متصل.

قال “لا مشكلة. مجرد لعب. أعرف كيف ألعب بمثل هذه الطريقة. لو أردت أن أكون جادا، لما كنا احتجنا إلى الكاتشب، صح؟”

كانت لا تزال على الأرض قطع لم يلملمها بعد. استدارت تفكر أن تحضر المقشة الموضوعة في خزانة قرب الباب الخلفي. وفي لحظة أمسك ذراعها.

قال “اجلسي. اجلسي هنا وأنا آكل”. ورفع الذراع الدامي يريه لها مرة أخرى. ووضع البيض بين شرائح الكعك والتهمها جميعا في قضمات قليلة. وراح يمضغ وفمه مفتوح، بينما الغلاية تغلي.

قال “كيس الشاي في الفنجان؟”

“نعم. في الحقيقة، هو شاي مفروط”.

“لا تتحركي. لا أريدك قريبة من هذه الغلاية”.

صب الماء المغلي عبر المصفاة في الفنجان.

“شكله يشبه القش. هذا كل ما لديك؟”

“أنا آسفة. نعم”.

“لا تقولي ثانية أنا آسفة هذه. لو أن هذا كل ما لديك، فهذا كل ما لديك، أنت لم تكوني تعلمين أنني سآتي للكشف عن علبة المحولات، صح؟”

قالت نيتا “صح، صح، لم أكن أعلم”

“الآن تعلمين. خائفة؟”

رأت أن تعتبر هذا سؤالا حقيقيا وليس سخرية.

“لا أعرف. ربما مأخوذة أكثر مني خائفة. لا أعرف”.

“شيء واحد. شيء واحد لا ينبغي أن تخافي منه. أنا لن أغتصبك”.

“لا أظنني فكرت في هذا”.

“لا، لا، تأكدي من هذا تماما”. أخذ رشفة شاي وبدا الأثر على وجهه. “فقط لأنك ست عجوزة. والأنواع كلها معروضة في الخارج، ويفعلونها بأي شيء. الأطفال أم الكلاب، القطط أم العجائز. والرجال العجائز. لا يهيجون بسرعة. حسن، أنا كذلك. لست أطلب هذا بأي طريقة، بل بطريقة طبيعية ومع ست لطيفة أعجبها. ارتاحي إذن”.

قالت نيتا “شكرا لك أن عرَّفتني”.

رفع كتفيه، وإن بدا راضيا عن نفسه.

“سيارتك هذه التي أمام البيت؟”

“سيارة زوجي”.

“زوجك؟ أين هو؟”

“مات. وأنا لا أسوق. كنت سأبيعها، لكن لم يحدث”.

يا لها من حمقاء، يا لها من حمقاء فتخبره بهذا.

“2004؟”

“أظن نعم”.

“لوهلة ظننت أنك ستجربين التلاعب بي بحكاية زوجك. ما كان لينفع على فكرة.  أنا أشم المرأة حين لا يكون معها أحد. أعرفها لحظة أن أضع قدمي في البيت. لحظة أن تفتح الباب. غريزة. شغالة، هه؟ تعرفين آخر مرة ساقها فيها؟”

“سبعة يونيو. يوم موته”.

“فيها غاز؟”

“أظن ذلك”

“يكون لطيفا لو كان ملأها قبل. معك المفاتيح؟”

“ليس الآن. لكن أعرف أين هي”.

“أوكيه” ودفع الكرسي إلى الوراء مصطدما بإحدى قطع الصيني. وقف، واهتز رأسه كما لو كان مندهشا، ثم جلس.

“أنا منهك. لا بد أن أجلس قليلا. فكرت أني سأكون أحسن حينما آكل. حكاية السكر هذه أنا ألفتها حالا”.

تحركت في مقعدها فوثب.

“ابقي حيث أنت. أنا لست منهكا لدرجة أن لا أقدر عليك. الأمر فقط أنني كنت أمشي طول الليل”.

“كنت سأحضر المفاتيح”

“تنتظرين إلى أن أقول. أنا مشيت السكة الحديدية كلها. ولم أر قطارا واحدا. مشيت طول الطريق إلى هنا ولم تقع عيناي على قطار”.

“القطارات نادرة جدا”.

“أيوة، أحسن. سرت مع الطريق حول بعض الخربة. ثم طلع النهار وأنا لا أزال بخير، إلا حينما كان المصرف يقطع الطريق فكنت آخذها جريا. ثم نظرت هنا ورأيت البيت والسيارة وقلت لنفسي ’هي هذه’. آخذ سيارة العجوز ، وكان لا يزال في رأسي قليل من العقل”.

عرفت أنه يريدها أن تسأله عما فعله. وعرفت أيضا أنه كلما قل ما تعرفه كان خيرا لها.

ثم حدث لأول مرة منذ دخوله البيت أن فكرت في سرطانها. فكرت كيف أنه حررها وجعلها أعلى من الخطر.

“ما الذي يجعلك تبتسمين؟”

“لا أعرف. هل كنت أبتسم؟”

“يهيأ لي أنك تحبين الحكايات. تريدين أن أحكي لك قصة؟”

“أفضل أن تمشي”.

“سأمشي. لكن أولا أحكي لك قصة”.

وضع يده في جيب خلفي. “هنا. أترين الصورة؟ هنا”.

كانت صورة فوتغرافية لثلاثة أشخاص، التقطت في غرفة معيشة، وخلفيتها ستائر ذات زهور. رجل عجوز، ليس عجوزا للغاية، ربما في الستينيات، وامرأة في مثل العمر تقريبا، جالسان على كنبة. وامرأة أصغر منهما وشديدة الضخامة على مقعد متحرك قريب من أحد طرفي الكنبة ومتقدم عنها قليلا. كان الرجل العجوز ثقيلا، أشيب الشعر، ضيق العينين، منفتح الفم قليلا كما لو كان عنده ربو، لكنه مبتسم على أفضل نحو ممكن. والمرأة العجوز أصغر منه كثيرا، بشعر مصبوغ بالبني وطلاء على الشفتين، ترتدي ما كان يقال له بلوزة فلاحي، عليها قليل من الثنيات الحمراء عند المعصمين والرقبة. تبتسم بإصرار، ربما بشيء من الجنون، وشفتاها ممطوطتان فوق سنة تبدو مسوسة.

ولكن المرأة الأصغر هي التي كانت تحتكر الصورة. ضخمة ووحشية في ثوب لامع، شعرها مرفوع إلى أعلى وخصلات منه تتماوج على جبهتها، وجنتاها تتهدلان إلى رقبتها. وعلى الرغم من كل هذا الفيض من اللحم، ثمة تعبير عن الرضا والمكر.

“هذه أمي، وهذا أبي، وهذه أختي مادلينا، في المقعد المتحرك. ولدت هكذا. لم يكن لطبيب أو لأحد أن ينفعها بشيء. وتأكل كالخنزير. طول عمرنا وبيني وبينها مشاعر عدوانية. كانت أكبر مني بخمس سنوات وكانت تعذبني تعذيبا. ترميني بأي شيء تجده في يدها وتطرحني أرضا ثم تحاول أن تجري فوقي بمقعدها المتحرك اللعين. اغفري لي لغتي”.

“لا بد أن ذلك كان صعبا عليك. وعلى أبويك”.

“هه. فكرا في الأمر وأخذاها. وذهبا إلى كنيسة فقال لهما القسيس إنها هدية من الرب. أخذاها إلى الكنيسة فراحت السافلة تعوي في فنائها الخلفي مثل قطة سافلة فيقولون ’أوه، إنها تحاول أن تصدر موسيقى’ ربنا يبارك في سفالة أهلها. أنا آسف مرة ثانية”.

“لذلك لم أكن حريصا قط على القعود في البيت، فاهمة. خرجت أجد حياتي. ولا بأس بهذا، فأنا أقول أخرج لأجد حياتي لا لأتجول في الخراء. عثرت على عمل. تقريبا عثرت على عمل. عمري ما جلست على مؤخرتي سكران أو معتمدا على فلوس الحكومة. بذراعي، فاهمة. عمري ما طلبت قرشا من العجوز. كنت اقوم فأطلي سطحا بالقطران في درجة حرارة تسعين، أو أمسح البلاط في مطعم منتن أو أعمل ميكانيكي في أي جراج عفن. كنت أفعل أي شيء. ولكنني لم أكن أحتمل خراءهم طويلا، فلم أكن أطيل كثيرا. ذلك الخراء الذي يمنحه الناس عادة لأمثالي، ولم أكن أحتمل. أنا طالع من بيت محترم. ظل أبي يعمل إلى أن أنهكه المرض ـ كان يعمل على الأوتوبيسات. لم أنشأ على احتمال الخراء. أوكيه، ومع ذلك، لكن دعك من هذا. الذي كان أبواي يقولانه لي دائما هو ’البيت بيتك. البيت ثمنه مدفوع بالكامل، وحالته جيدة، وهو بيتك’. ذلك ما كانا يقولان لي. ’نحن نعرف أنك تعبت هنا وأنت صغير، ولو لم تكن تعبت لكنت تعلمت، ونحن نريد أن نعوضك قدر ما نستطيع’. ومنذ فترة غير بعيدة كنت أكلم أبي على الهاتف فقال لي ’أنت طبعا تفهم  الصفقة؟’ فقلت له ’أي صفقة؟’ قال “مجرد أن توقع الورق بأنك المسئول عن رعاية أختك طالما هي حية. البيت بيتك طبعا والبيت بيتها أيضا’”.

“يا ربنا. عمري ما سمعت ذلك من قبل. عمري ما سمعت بتلك الصفقة من قبل. كنت دائما أتصور أن الصفقة هي أن تذهب هي بعد موتها إلى دار، ولا تكون هذه الدار بيتي أنا”.

“فقلت للعجوز إنني لم أفهم الأمر بتلك الطريقة. فقال إن ’كل الورق جاهز لك على التوقيع، وإذا لم تشأ أن توقعه لن يرغمك أحد. إذا وقعته، خالتك ريني ستكون قريبة منك تراقب مدى التزامك به’. أيوة أيوة، خالتي ريني. هذه أصغر شقيقات أمي، وسافلة رسمي. عموما، قال خالتك ريني ستراقبك’ وقلبت فجأة. قلت ’طيب، أظن الأمر في غاية الإنصاف هكذا. أوكيه أوكيه. هل يناسبكم أن أمر للعشاء يوم الأحد؟’ قال ’أكيد. أنا سعيد أنك أصبحت تتعامل بالطريقة السليمة. كنت من قبل تخربها بسرعة. لكن في سنك هذا ينبغي أن يكون عندك دم فعلا’ قلت’ظريف منك أن تقول هذا’”.

“وذهبت، وكانت ماما قد طبخت دجاجة. شممت رائحة طيبة فور أن دخلت البيت. ثم شممت رائحة مادلين. هي هي نفس رائحتها القديمة الرهيبة. لا أعرف لها سببا، لكن برغم أن ماما تحممها كل يوم تبقى الرائحة موجودة. ومع ذلك تصرفت بمنتهى اللطف. قلت ’هذه مناسبة خاصة، ولا بد ان ألتقط صورة’. قلت لهم إن عندي كاميرا جديدة رائعة تخرج منها الصورة فورا فيرونها. ’بمجرد أن تضغط على الزر، ترى الصورة. ما رأيكم في هذا؟’ وجعلتهم يجلسون في الغرفة الأمامية كما أريتهم لك. تقول ماما ’بسرعة، لا بد أن أرجع إلى المطبخ’، أقول ’ثواني’ وألتقط الصورة فتقول ’تعال أرنا الآن الصورة’ وأقول ’اصبري لحظة. تحتاج دقيقة لا أكثر’. وبينما هم منتظرون أسحب مسدسي الصغير اللطيف وطاخ طيخ طوخ فيهم الثلاثة”.

“ثم التقطت صورة أخرى ودخلت المطبخ فالتهمت الدجاجة ولم أعاود النظر إليهم. وكنت أتوقع بشكل ما أن تكون خالتي ريني موجودة، لكن ماما قالت إنها تعمل شيئا في الكنيسة. كان لا بد أن أقتلها هي الأخرى بالسهولة نفسها”.

“انظري هنا. قبل وبعد”.

رأس الرجل مائلة على الجنب، ورأس الأم إلى الخلف. والبنت واقعة إلى الأمام، وتعبيراتهم جميعا مبددة. الأخت بالذات كانت رأسها واقعة إلى الأمام فلم يكن ثمة وجه يمكن النظر إليه، ليس إلا الركبتين في الفستان ذي الزهور والشعر الأسود ذي التسريحة المتكلفة القديمة.

“كان يمكن أن أبقى هناك أسبوعا ولا يهمني. كنت في منتهى الارتياح. لكنني لم أبق إلى الظلام. تأكدت من نظافتي وأجهزت على المطبخ وعرفت أنه من الأفضل لي أن أذهب. كنت مستعدا لأن تدخل خالتي ريني، لكني كنت خرجت من الحالة التي كنت فيها وعرفت أنني سأضطر أن أرغم نفسي على قتلها. ولم أشعر بمزيد من الرغبة في ذلك. أمر واحد، أن بطني كانت ممتلئة تماما. كانت دجاجة كبيرة، وأكلتها كلها بدلا من أن أحملها معي، لأنني خفت أن تشمها الكلاب وتقرفني وأنا ماش في الشوارع الخلفية  حسبما فكرت أن أفعل. ظننت أن الدجاجة بداخلي سوف تكفيني أسبوعا. لكن انظري كم كنت جائعا حينما دخلت عليك”.

ألقى نظرة على المطبخ “لا أظن أن لديك شيئا يشرب هنا، صح؟ الشاي كان رديئا جدا”.

قالت “ربما هناك بعض النبيذ. لا أعرف. أنا لم أعد أشرب”.

“أنت من دعاة مكافحة الكحوليات؟”

“لا. الأمر أنه لا يتوافق معي”.

قامت فوجدت ساقيها ترتعشان. طبعا.

قال “أنا توليت أمر خط التليفون قبل أن أدخل. قلت قد تحبين أن تعرفي”.

 هل يفقد انتباهه، ويصبح أكثر لينا حينما يشرب، أم يزداد جموحا ووضاعة؟ أنى لها أن تعرف؟ عثرت على النبيذ دونما حاجة إلى الخروج من المطبخ. كانت هي وريتش يشربان النبيذ كل يوم، بكميات معقول، إذ يفترض أنه جيد للقلب. أو سيء لشيء ليس جيدا بالنسبة للقلب. وهي في غمرة الارتباك والرعب لم تكن قادرة أن تعرف أي الأمرين بالضبط هو الصحيح.

لأنها كانت مرعوبة. مؤكد. سرطانها لم يكن ليكون عونا لها مطلقا في اللحظة الراهنة، على الإطلاق. حقيقة أنها مقدر لها الموت في غضون سنة أبت أن تطغى على حقيقة أنها قد تموت الآن.

قال “هيه، هي هذه الزجاجة الصح. أليس لديك فتاحة؟”

تحركت إلى درج الملاعق، لكنه قفز فأزاحها، بغير كثير من العنف.

“أُوأُو، أنا أحضرها. أنت ابتعدي عن الدرج. يا إلهي، عندك أشياء كثيرة جيدة هنا”.

وضع السكاكين على مقعده حيث لا يمكنها أن تطولها، واستخدم الفتاحة التي رأت كيف يمكن أن تكون أداة فاعلة وهي في يده، دون أن يكون هناك أدنى احتمال للخطورة لو كانت هي التي تستخدمها.

قالت “سأقوم لأحضر كأسين” لكنه قال “لا”.

“كأس لا. عندك أكواب بلاستيكية؟”

“لا”

“إذن فناجين. أنا أراك”.

وضعت فنجانين وقالت “قليل جدا لي”.

قال “ولي. لزوم الشغل. سأضطر أن أسوق”. لكنه ملأ فنجانه حتى الحافة. “لا أريد أن يدس عسكري رأسه ليرى كيف أنا”.

 “قالت “شوارد حرة”

“وما المفروض أن يعنيه هذا؟”

“أشياء يفعلها النبيذ الأحمر. إما أنه يدمرها لأنها سيئة، أو يكوّنها لأنها جيدة، لا أتذكر”.

احتست رشفة من النبيذ فلم تجعلها تشعر بالغثيان كما كانت تتوقع. وشرب وهو لم يزل واقفا. قالت “احذر السكاكين وأنت تجلس”.

“لا تبدأي المزاح معي”

لملم السكاكين وأعادها إلى الدرج ثم جلس.

“تظنين أنني غبي؟ تظنين أنني عصبي؟”

وجدت الفرصة سانحة فقالت “أنا فقط لا أظن أنك فعلت شيئا كهذا من قبل”.

“طبعا لم أفعل. تظنين أنني قاتل؟ صحيح أنا قتلتهم، لكنني لست قاتلا”.

قالت “هناك فرق”.

“طبعا”.

“أعرف هذا الأمر. أن يتخلص الواحد من ناس آذوه”

“صحيح؟”

“أنا فعلت نفس الشيء الذي فعلته أنت”.

“لا يمكن” ودفع كرسيه إلى الوراء لكنه لم يقم.

قالت “لا تصدقني إذا شئت ألا تصدقني. لكنني فعلت”.

“لا يمكن! فعلت هذا؟ كيف إذن؟”

“السم”.

“عن أي شيء تتكلمين؟ جعلتيهم يشربون بعض هذا الشاي اللعين أم ماذا؟”

“لم يكونوا جمعا. كانت واحدة. والشاي ليس فيه أي مشكلة. المفروض أنه يطيل العمر”.

“لا أريد لحياتي أن تطول إذا كان معنى هذا أن أشرب هذا القرف. ولكن من الممكن اكتشاف السم في الجثة بعد الوفاة، أليس كذلك؟”

“لا أعرف إن كان الأمر كذلك بالنسبة للسموم النباتية. عموما، ما كان أحد ليفكر في الفحص. كانت واحدة من البنات اللاتي تصيبهن الحمى الروماتزمية في الطفولة وتبقى فيهن فلا يستطعن ممارسة الرياضة أو فعل أي شيء، ويؤثرن دائما الجلوس والراحة. موتها لم يكن مفاجأة من أي نوع”.

“وما الذي فعلته لك؟”

“هي البنت التي وقع زوجي في غرامها. كان سيتركني ويتزوجها. هو قالها لي فعلا. فعلت لأجله كل شيء. كنا نعمل في هذا البيت معا. لم يكن لي غيره. لم يكن لدينا أطفال، لأنه لم يرد أن يكون لديه أطفال. تعلمت النجارة، وكنت أخاف أن أطلع السلم المنفرد لكنني صرت أصعده. كان كل حياتي. وكان يوشك أن يطردني من أجل تلك الكلبة التافهة التي كانت تعمل في مكتب مسجل الجامعة. كل شيئ عملناه معا كان يوشك أن يقع بين يديها هي. هل كان ذلك عدلا؟”

“وكيف يحصل الواحد على السم؟”

“لم أسع إلى الحصول عليه. كان موجودا فعلا في الحديقة الخلفية. هنا. قطعة أرض فيها الراوند منذ سنين. وفي أوردة ورق الراوند قدر كاف تماما من السم. ليس السيقان، السيقان هي التي نأكلها، ولا بأس بها، لكن في في العروق الحمراء الصغيرة التي تتخلل الورق، هذه سامة. كنت أعرف هذا لكنني لم أكن أعرف القدر الفعال بالضبط، فما قمت به كان أقرب إلى طبيعة التجارب. وصادفني الحظ في أشياء عديدة. أولا، غياب زوجي في سمبوزيوم في مينوبوليس. طبعا كان العادي أن يصطحبها معه، لكنها كانت إجازة الصيف، وكان لا بد أن تبقى لتدير المكتب. وشيء آخر، كان يمكن ألا تكون وحدها تماما. كان يمكن أن يكون على مقربة منها شخص آخر. وكان يمكن أن تستريب مني. وكان لا بد أن أفترض أنها لا تعرف أنني أعرف. لقد جاءت إلى العشاء في بيتنا، وكنا ودودين معها تماما. كان لا بد أن أعتمد على أن زوجي من النوع الذي يؤجل كل شيء، فهو قد يحكي لي ليرى رد فعلي ولكن دون أن يخبرها أنه أخبرني. والآن تقول: ولماذا التخلص منها وزوجي ربما كان في وقتها لا يزال يفكر في البقاء معي؟ لا. ثم إنه كان سيحتفظ بها بطريقة أو بأخرى. وحتى إذا لم يفعل، حياتنا كانت تسممت بسببها. هي سممت حياتي، فسممت حياتها.

“أعددت كعكتين. واحدة فيها السم والأخرى خالية.  وسقت السيارة إلى الجامعة فاشتريت فنجاني قهوة وتوجهت إلى مكتبها. لم يكن هناك غيرها. قلت لها إنني جئت إلى المدينة، وبينما كنت أمر بالحرم رأيت ذلك الفرن الصغير اللطيف الذي كان زوجي يتكلم عنه دائما، فدخلت واشتريت كعكتين وفنجاني قهوة. وكنت أفكر في أنها وحدها تماما لأن الجميع ذهبوا إلى إجازاتهم، وفي أنني أيضا وحدي تماما وقد ذهب زوجي إلى مينوبوليس. كانت رقيقة وممتنة. قالت إن التواجد في المكتب ممل جدا، والكافيتريا مغلقة، وإنها لا بد أن تذهب إلى مبنى كلية العلوم لتشتري قهوة وهنالك يضعون في قهوتهم حمض الهيدروكليريك. ههأو. وأقمنا حفلتنا”.

قال “إنني أكره الراوند. ما كان لينفع في حالتي”.

“نفع معها. كان ينبغي أن أغامر وأفترض أنه سيعمل بسرعة قبل أن تكتشف أن هناك شيئا فتعمد إلى إفراغ معدتها. لكن ليس بسرعة أكبر من اللازم فتربط الأمر بي. كان ينبغي أن أكون قد ابتعدت، وذلك ما كان. كان المبنى خاليا، وفي حدود ما أعلم إلى يومنا هذا، لم يرني أحد حينما وصلت ولا حينما مشيت. طبعا كنت أعرف بعض الطرق الخلفية”.

“تظنين أنك ذكية. ترحلين دون أن تدفعي الثمن”.

“ولكن هذا ما فعلته أنت”.

“ما فعلته أنا لم يكن في دهاء ما فعلته أنت”.

“كان لازما لك”.

“اكيد كان كذلك”.

“وما فعلته كان لازما لي. حافظت به على زواجي. والذي حدث أنه اكتشف على أية حال أنها لم تكن مناسبة له. كانت لتقرفه. مؤكد. نوعيتها كانت هكذا. ما كانت لتكون إلا حملا عليه. وهو فهم هذا”.

قال “يستحسن أن لا تكوني وضعت شيئا في البيضتين. لو كنت فعلت ستندمين”.

“لم أضع شيئا طبعا. ذلك شيء لا يفعله أحد عمال على بطال. وأنا لأا أقضي أيامي في سم الناس. الأمر أنني بالمصادفة كانت عندي تلك المعلومة”.

وقف بغتة لدرجة أنه أوقع كرسيه. لاحظت أنه لم يبق في الزجاجة الكثير.

“أحتاج مفاتيح السيارة”.

للحظة عجزت عن التفكير.

“مفاتيح السيارة. أين تضعينها؟”

يمكن أن يحدث. يمكن أن يحدث، بمجرد أن تعطيه المفاتيح. هل سيفيد في شيء لو أخبرته أنها ستموت بالسرطان عما قريب؟ يا للغباء. طبعا لن يفيد في أي شيء. الموت في المستقبل لن يمنعها من الكلام الآن.

قالت “لا أحد يعرف ما قلته لك. أنت الوحيد الذي حكيت له”.

وهذا أيضا قد لا يكون له نفع. يمكن جدا للميزة التي عرضت عليه أن تعبر به فلا ينتبه إليها.

قال “لا أحد يعرف حتى الآن” فقالت لنفسها الحمد لله، إنه على المسار الصحيح. لقد فهم. ترى فهم؟

احتمال كبير أن يكون الحمد لله.

“المفاتيح في الإبريق الأزرق”.

“أين؟ أين الإبريق الأزرق اللعين؟”

“على آخر الطاولة، انكسر غطاؤنه فرحنا نستخدمه كما ترى بأن نضع فيه ــ”.

“اخرسي. اخرسي وإلا أخرستك إلى الأبد”.  حاول أن يضع قبضته في الإبريق الأزرق فلم يستطع. “لأ لأ لأ” وقلب الإبريق وهبده على الطاولة فلم تخرج فقط مفاتيح السيارة ومفاتيح البيت والعديد من العملات ورزمة الفلوس الكندية القديمة لتقع على الأرض، بل وتناثرت أيضا قطع من الخزف الأزرق.

قالت بصوت خافت “ذات الحلقة الحمراء”.

أخذ يطيح بقدمه بالأشياء لوهلة قبل أن يعثر على المفاتيح.

قال “وماذا ستقولين عن السيارة؟ أنك بعتها لغريب، صح؟”

للحظة لم تستوعب مغزى السؤال، فلما استوعبته كانت الغرفة ترتعش. كانت تقول “شكرا” لكن حلقها كان جافا فلم تدر إن كان قد خرج منه صوت.

لكن، لا بد أنها نطقتها. “لا تشكريني الآن. أنا ذاكرتي حديد. ولا أنسى مهما حدث. اجعلي هذا الغريب لا يشبهني في شيء. أنت لا تريدينهم أن يذهبوا لينبشوا الأرض ويستخرجوا الجثة. وتذكري، كلمة تطلع من فمك، كلمة تطلع من فمي أنا أيضا”

ظلت تنظر إلى الأرض. لا تتحرك ولا تتكلم. فقط تنظر إلى ما على الأرض من فوضى.

ذهب. الباب أغلق. ومع ذلك لم تتحرك. أرادت أن توصد الباب، لكن لم تستطع أن تتحرك. سمعت المحرك يدور. ثم يموت. ماذا جرى؟ كان في غاية العصبية، يخطئ في كل شيء، ومرة أخرى، يدير المحرك، يديره، يديره، يدور، صوت الإطارات على الحصى. مشت وهي ترتعش إلى التليفون فوجدت أنه قال الحقيقة: التليفون ميت.

بجانب التليفون واحد من صناديقهم الكثيرة. في هذا الصندوق كتب قديمة، كتب لم تفتح منذ سنين. كان هناك “برج العزة” لـ ألبرت شبير، من كتب ريتش، “احتفاء بالثمار والخضراوات العادية”، “أطباق رشيقة وحماسية ومفاجآت طازجة” جمعتها وتذوقتها واخترعتها “بيت أوندرهيل”.

ما كاد ريتش ينتهي من المطبخ، حتى اقترفت نيتا خطأ محاولة تقليد “بيت” في الطبخ. ولكن لفترة قصيرة بعض الشيء، فريتش لم يكن يريد أن يتذكر كل تلك الضجة، وهي نفسها لم يكن لديها الصبر اللازم للتقطيع والسلق. لكنها تعلمت أشياء بسيطة أدهشتها هي شخصيا. مثل التأثيرات السامة لبعض النباتات العادية المألوفة.

أرادت أن تكتب لـ بيت.

“عزيزتي بيت، ريتش مات، وأنت أنقذت حياتي حينما جعلت مني أنت”.

ولكن فيم تبالي بيت بحياتها؟ لم يكن هناك غير شخص واحد يستحق أن تخبره بالذي حدث.

ريتش. ريتش. الآن تعرف ما معنى افتقاده. كأنما نفد هواء السماء.

قالت لنفسها إن بوسعها المشي إلى القرية. هناك قسم الشرطة وراء مجلس البلدية.

ينبغي أن يكون لديها تليفون محمول.

لكنها كانت مهتزة بعمق، ومنهكة لا تكاد تقوى أن تحرك قدما. عليها أولا وقبل كل شيء أن تستريح.

أيقظها طرق على بابها غير الموصد بعد. كان شرطيا. ليس من القرية بل من شرطة المرور الإقليمية، سألها إن كانت تعرف أين سيارتها الآن.

نظرت إلى ساحة الحصى حيث كانت السيارة مركونة وقالت “اختفت. كانت هنا”.

“أما كنت تعرفين أنها سرقت؟ متى كانت آخر مرة رأيتها؟”

“لا بد أن ذلك كان ليلة أمس”.

“كانت المفاتيح فيها”.

“أظن ذلك”.

“يؤسفني أن أخبرك أنها تعرضت لحادث سيء. هو حادث السير الوحيد في هذه الناحية من وولنشتين. انقلب السائق بها في القناة فأجهز عليها. وليس ذلك كل ما في الأمر. اتضح أنه مطلوب في جريمة قتل ثلاثية. هذا آخر ما سمعناه. جريمة قتل في ميتشلستن. أنت محظوظة أنك لم تقابليه”.

“وأصيب؟”

“مات على الفور. جزاء وفاقا”.

وأعقبت ذلك محاضرة حازمة وطيبة. ترك المفاتيح في السيارة. امرأة تعيش وحدها. في هذه الأيام يحدث ما لا يمكن تصوره.

ما لا يمكن تصوره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحمد شافعى

شاعر ومترجم – مصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن: مدونة قراءات أحمد شافعى

مقالات من نفس القسم