وداع على إيقاع ……صاروخ غراد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

انتصار بوراوي

إهداء إلى: أرامل  الحرب ..وأرامل الحب..

الصيف  يطرق أبواب المدينة  ، فتتحايل عليه  نسمة خريفية رقراقة تهيج  ذاكرتها إليه تعرف بأنه لم يعد  يسمعها ولم يعد باستطاعته قراءة كلماتها  ولكن من قال بأن  من يرحلوا لا يشعرون باشتياقنا وولهنا وعشقنا المقيم لهم

 لماذا تذكرها  صوت الرياح العاصفة  خارج منزلها  بصورة وجهه  الذي غفي تحت ظلال الرحيل  المؤلم الحزين  .

 

لن تغازل السماوات فرحها  حين يأتي مطلا من بعيد مارا على مدينتها المشاغبة المتمردة فيما العيون ترصدها وهى تركض كي تلاقيه أمام عيون المارة والفضوليين فترتسم تلك الابتسامة بحبورها الأنيق   فوق شفتيه  ثم يمد  يده  لتشد  على يده الصغيرة التي تنام  كعصفورة مرتعشة بين كفيه.

تحدق بعيونه الحزينة التي أرهقها ما كان وما لم يكون….وبدون كلمات تقرأ كل الحكايا المرتسمة على وجهه، فيما  همس خفي يتهادى من عينيه “كونى معي”،هكذا تقولها عينيه دون أن تنطق بها شفتيه ..أو هكذا  ربما  حلمت به ذات يوم وهو يقولها لها وكأنه كان يدرك بأن غد قادم  لن يكون فيه معها ابدا وسيمضى   الى حيث لا رجوع ولاعودة وهى التى لا تعرف ما الذى ربطها بوجهه منذ أول رفة له على صفحة عمرها، أتراه ذلك  الحزن الذى ارتسم فوق خارطة  وجهه العريض فيما عيونه تأتلق بالحكايات والصور البعيدة لأطياف مرت في سماءه ولم تهديه وتهبه  سوى الوجع  الحزين.. أو لعله لأنه قاسمها ذات صيف بعض من تفاصيل أيامه وحكايا روحه.

يا لقسوته ..كيف يسمح لصاروخ غراد الغادر  أن يأخذه منها….وكيف يختار أن يمضى لمراقصة صاروخ الغراد  الغادر ..الذى أشار عليه بالقدوم لحضنه .كى يختطفه منها ..وهى التى حاولت كثيرا  أن تفهم وتفسر سر ذلك الخيط الذى يشبك روحها به ولكن عقلها وكل ذكاءها عجز عن فهم  سبب كل ذلك الإحساس الجارف بالحنو نحوه ……

لماذا هو دون كل الآخرين الذى لم يغادر ذاكرتها لسنوات ..وظل متربع على عرش القلب  وألهب قلبها بنيران عشقه وحين حانت لحظة قطاف خمرة عشقها له  أختطفه صاروخ الغراد الغادر ..وأحرقه وأحرق قلبها  معه

حين التقته كانت الكلمات تتهدل دون اكتفاء من شفتيه وهى  كطفلة عاشقة تتملى في وجهه وتغوص بتفاصيل  تراتيله التي لم يتسع لها صدر الوطن مستذكرة  نزيف كلماته الثائرة الغاضبة على الوطن  في سنوات المنفى ..ورغم شدة وعنف كلماته المتذمرة من الوطن الا انها أدركت بأنه لا يعنيها…فأبن  الوطن  الغاضب على صمته ورضاءه الكسيح على طغيان  جلاده  بقدر العشق المسكون  بداخله ماكان له سوى أن   يقذف بوابل  غضبه فوق رأس الوطن المعشوق غير مبالي بعقاب المتواطئين ضده ،فعشاق الأوطان هم عشاق محبون متطرفون أيضا لا يعرفون الوسط في الحب يدخلونه بكل عفويتهم وتلقائيتهم كما  يتلبسهم الحب كمس عشقي ..يصبحون هم الأقوياء أمام أعتى الظروف ضعفاء يضرعون للرب بأن يخرج الحب من قلوبهم كما أخرج  يونس من بطن الحوت

أكان قدرها أن تصطدم بمسار أيامه وتسبح في بحر حزنه وتمسها لعناته على الوطن الجاحد في أيام وحدته  ثم يرحل سريعا  إلى موته الشهي

لماذا هذا المساء المنساب بنسمة خريفية يحمل معه صوته الذى مضى الى حيث لا رجوع ولا عودة .

 أعياها  رحيله ونام الحزن في عيونها  وامتشقت يباب الأغاني التي بدأت بها حكاية  الفجر الذي  أستيقظ  في سماء الوطن ..

تسترجع جلستها معه  وتستذكر الحزن الشفاف الذي يشع من عينيه والسر الغامض  الذى يختفي فى عيونه وبستنكف البوح به ..كان يعرف بأنه اللقاء الأول والأخير ..كان يدرك بأنه سيمضى إلى حيث لاعودة ولا رجوع ، وإلى حضن لن  تراه  فيه عيونها من جديد ، كان يدرك بأنه سيمضى ليراقص صاروخ الغراد …تاركا كل أشجار محبتها التي نضجت ثمارها في قلبها تتساقط وتهوى …محترقة ……..

كان  موقن بأنه على شفا ترك روحها مصلوبة على أعمدة الفراق الأبدي ……..وقلبها محترقا ..كفحمة .

 عمرها   صيف قائظ مخيف بدونه  فكيف للأماني أن تنام وتهجع وتنسى كل الحكايا وكل الصور وكيف لروحها أن  تحيا من جديد بعد ارتدائها  بياض كفن  رحيله المخيف

 عميق سواد الليالي وهى تستحضر وجهه المختلف ..وهى تستذكر  قصائد عشقها  الغابرة  ودندنات الأغاني التي أستحضرها وهج  روحه فوق صفحة أيامها

عميق سواد الليالي حين تستذكر صوته  فى سديم الكون وهو يسألها  بصوت هامس ..هل أذيتك ؟…..وكيف للأذى أن لا يتشكل ويرتسم في لوحة أيامها   وهو يمضى الى حيث لا عودة ولا رجوع

وكيف للمرايا ان لا تراها وكيف للوجع أن لا يرسم خطوطه فى كف أيامها وهو   ما عاد يحلق فى سماءها وأختفى من الوجود

تحدق في  صفحة حضوره الغابر فلا تجدها.. وتستذكر  نفسها حين كانت تتقافز بكل جنون عشقها  على صفحة أيامه والعيون ترصدها وتشنقنها في حبل لؤم اغتياباتها .

ذاكرتها  المثقوبة تتمدد على أرجوحة الذكريات وتستحضر مشهد  يده وهى تمسك  الصحيفة التي تعلوها صورتها فيؤشر بيده على هفوة في كلماتها   ورأى  صريح لا مواربة فيه حول ما تطرحه بصفحتها ثم ينظر إليها متأمل ويقول وأخيرا التقينا بعد كل هذه السنوات ..فتطرق برأسها وتتجمد  الكلمات على حواف شفاهها ..ينظر إليها بهدوء  وينبهها بأن تشرب قهوتها من الفنجان الذي كاد يبرد من انتضار رشفاتها ..

ويأتيها  صوته البعيد متهدج بحنين تعرفه جيدا صوته الذي لا شبيه له في الكون يهمس بدون كلمات  : أحب  حنانك  الشفاف الرهيف ؟

تضحك ملء الروح بفرح الكون  لأنه معها  وتغفو الأحلام على ذاكرة  صوت ضحكاته ومشاغبات مناكفاته للآخرين الذين  يحاولون  رسم خطوط أيامه على مقاسهم و يحاولون أقناعه دون جدوى  بان يتريث في اندفاعه ولكنه بعناده العتيد  الذى خبرته جيدا يذرو كلماتهم للريح ويدير ظهره لهم ويسرد لها  تفاصيل أيامه بشغب  الأطفال وحكمة العارفين.

حتى بعد ان توارى  بعيدا سيبقى فى  ذاكرتها ذلك الرجل الممتلئ بالتمرد والرغبة الحالمة فى تغيير الوطن والعالم قبل أن يختطفه صاروخ غراد إلى حيث لا عودة ولا رجوع .

ما عادت الضحكات تطرق بابها ولا الفرح يغازل أيامها  منذ اختفائه من الوجود

الكلمات   التى أرتسمت على مقاس وهج روحه ..كلها تناثرت أشلاء متضرجة بدمائها كما تناثر جسد الحكاية أشلاء .

 كيف لها  أن تسند الأحلام على عكازة الأيام المتهدلة من جديد   والسماء دموع منهمرة ومرتسمة بريشة الفقد …

كيف لقلبها أن يعرف الفرح من جديد والأحلام احترقت فى أتون صاروخ الغراد الذي أختطفه بعيدا وعمرها  غدا صيف  تصهد  فيه رياح “قبلى ” الفقد   تحت رماد الموت المهيب والوطن الذي ارتسم في عيونها على مدار سنوات عمرها يحقق الحلم  المستحيل

الوطن الليلة  يتراقص بفرحة النصر فى يوم عيده  بعد  هزيمة وحزن عقود …….فيما هي لا فرح….ولا نصر لها ………………..بدونه.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انتصار بوراوي

قاصة – ليبيا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: حامد عويس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم