حاورته: حنان حجاج
يرى العالم لوحة بيضاء يشكلها بروح السحر، ويلونها بريشة الفنان، ويحاول إعادة تشكيله بواقعيته القاسية والصادمة أحيانًا، وبجموحه الرومانسى المدهش، والغرائبى أحيانًا، الكتابة تبدو وكأنها كما كتب فى إحدى قصصه (مدينة السحرة، تطفو على الأرض مثل لوحة مائية، ليس فيها أحد يمتلك اسمًا، ولا اسم يمتلك أحدًا، شوارعها أفكار من خيال السحرة).
“محمد الفخراني”، حسب نقاد جيله وأجيال أكبر، أحد الأصوات الأدبية الجادة، يمتلك إخلاصًا دءوبًا للأدب، ويجدّد نفسه بثقة مع كل عمل جديد.
دراستك وعملك بعيدان عن الأدب، متى أدركت ميولك الإبداعية، وأن لديك ما يستحق الكتابة؟
لا علاقة لدراسة الشخص أو عمله بأن يصير كاتبًا، والكتابة والأدب على وجه الخصوص موهبة لا تحتاج لدراسة، وتظل طافية داخل الكاتب مثل نقطة غامضة، حتى تأتى لحظة ما أو دافع شخصى جدًا، شىء يلمس عمق الكاتب، ويضىء تلك النقطة الغامضة، فيدرك أن لديه شيئًا خاصًا، وأن هناك علامات وإشارات قديمة لم يكن مهمًا وقتها أن يفهمها بشكل كاف، فقط يكفى أن يشعرها، والآن يفهمها أو على الأقل يعرف ما كانت تحاول تلك العلامات أن تقوله.
أغلب أبناء جيلك ممن كتبوا بعد عام 2000 يعلنون رفضهم للعالم الأدبي شبه المنغلق للأجيال السابقة سواء كانوا نقادًا أو مبدعين، فهل ترى أن جيلكم سيشكل تيارًا أدبيًا جديدا؟ وما ملامح هذا التيار بنظرك؟
جيلى فرض نفسه الآن بالفعل، وأضاف إلى الحياة الأدبية، وحقق شيئًا جديدًا، والأهم أن هذا لم يحدث في إطار تيار أدبى معين يضم كتاب الجيل، وإنما لكل كاتب شخصيته الأدبية، عالمه، لغته، وأسلوبه، فالكتابة عمل فردى، ليست عملاً بالمشاركة أو بالجيل، كما أن الكتابة تحتفظ فى النهاية بأسماء مفردة، لا بأجيال.
مجموعتك القصصية “قصص تلعب مع العالم” التى فزت عنها بجائزة “يوسف إدريس” للقصة عام 2012 شكل غير تقليدى للكتابة القصصية، فهى تقع بين كونها رواية تلعب على محور واحد، ومتتالية قصصية تربطها خيوط، فى “لعبة كتابة” مارستها بقصد؟ ماذا أردت بهذا؟
ما أردته هو ما أحب أن أفعله دومًا مع الكتابة، وهو البحث عن طرق وأفكار جديدة، هناك شيئان فى “قصص تلعب مع العالم”، أحدهما يخص رؤيتى للعالم والكتابة، والآخر هو الطريقة الفنية التى أقدم بها هذه الرؤية، فأردت أن تعمل قصص المجموعة كلها فى إطار فكرة واحدة، وهي إعادة تقديم مفردات العالم، وابتكار علاقات جديدة بين هذه المفردات، وتخيل علاقات محتملة بينها، فى الوقت نفسه ستكون هذه العلاقات بشكل ما صدى لعلاقتى الشخصية مع العالم ورؤيتي له وخيالاتى عنه، أيضًا ستكون لكل قصة فكرتها المستقلة، ربما تقرئين حدثًا فى قصة ثم تجدين تفسيرًا له فى قصة أخرى، ربما تجدين روحًا أو معنى مشتركًا فى ثلاث قصص، دون ترتيب أو توالى لهذه القصص، هى ليست متتالية قصصية، وبالطبع ليست رواية، وإنما مجموعة قصص تشبه الكون فى وحدته واتصاله بعضه ببعض.
هل تعتبر مجموعتيك “قصص تلعب مع العالم” و”قبل أن يعرف البحر اسمه” جزءًا فى مشروع تجريبى؟ وهل للمشروع امتداد لديك؟
إضافة للمجموعتين هناك مجموعة ثالثة تحت الطبع بعنوان “طرق سرية للجموح”، والثلاث مجموعات معًا يمثلون ثلاثية أعيد فيها تشكيل العالم، وابتكار علاقات جديدة بين مفرداته، وأعيد كتابة قصص نشأة وحياة تلك المفردات، وتلك المفردات تشمل أيضًا المعانى والمشاعر، أكتب عما هو موجود فى العالم، وما هو متوقع وجوده، ثم أبتكر أنا عالمًا جديدًا، كل ذلك برؤيتي الشخصية، وتأويلاتي الخاصة. فى رأيى أن أهم ما فى الكتابة هو أن يمتلك الكاتب رؤية للعالم، وأن تكون له علاقة شخصية بهذا العالم.
من يقرأ العملين الأخيرين لك يشعر أنك تبحث عن صياغة فلسفية لعلم الجغرافيا فى “قبل أن يعرف البحر اسمه”، وصياغة إنسانية للمشاعر والتفاصيل الصغيرة فى “قصص تلعب مع العالم” وتمارس لعبة الإدهاش لمن يقرأ. فهل هذا مقصود؟
الكتابة فى كل أحوالها لا بد أن تكون مدهشة، وتقدم رؤية مختلفة، والمقولات القديمة مثل “لا جديد تحت الشمس” بائسة وغير صحيحة بالمرة، دائمًا هناك جديد في الكتابة، وطريق لم يكتشف بعد، أنا أبحث عن هذا الطريق دومًا، والمجموعتان “قبل أن يعرف البحر اسمه”، و”قصص تلعب مع العالم” تكمل كلٌ منهما الأخرى، رغم انفصالها عن صاحبتها، الأولى تخترع بعض مفردات العالم، وتكتب قصص حياة جديدة لها، والثانية تبتكر علاقات غير اعتيادية بين هذه المفرادت.
بنت ليل” مجموعتك القصصية الأولي، و”فاصل للدهشة” روايتك الوحيدة كتبتهما بشكل شديد الواقعية، ثم بدأت تنفصل تماما عن كتابة الواقع في عمليك الأخيرين. فهل كانت تلك رحلة انتهت بالنسبة لك باعتبارهما عالما عاديا يكتب عنه الآخرون؟
هى ليست مرحلة انتهيت منها، وإنما مرحلة كتبتها، والآن أكتب مرحلة جديدة، ولا يوجد في الكتابة ما يمكن تسميته عالمًا عاديًا، فالكاتب برؤيته الخاصة ومهارته الفنية يمكنه أن يقدم أىّ عالم بطريقة غير عادية، برأيى أن كل شىء في العالم معجزة بحد ذاته، مجرد ظهور يوم جديد، هو معجزة تحدث كل يوم دون أن ننتبه، الكاتب صاحب الرؤية يمكنه أن يعرف سر الأشياء، أو على الأقل يبحث عن هذا السر، وخلال هذا البحث سيكتشف الكثير من الأشياء الرائعة عن العالم، ثم يقدمها علي طريقته. وفى مجموعة “بنت ليل” ورواية “فاصل للدهشة”، رغم اختلافهما عما بعدهما، إلا أنهم جميعًا بالنسبة لى عالم واحد، هى لقطات مختلفة من عالم كتابتى
رواية “فاصل للدهشة” كانت صادمة لمن قرأوها، وتبدو على حد تعبير البعض تعرية فاضحة لعالم المهمشين، هل كنت تقصد إحداث هذه الصدمة لمن يقرؤها أم هى الحقيقة عندما نكتب عنها بلا محاذير؟
لم أتعمد أن تكون “فاصل للدهشة” صادمة، ما كان يعنينى هو أن أكون صادقًا معها إنسانيًا وفنيًا، وأن أكتبها بطريقة أكون مقتنعًا بها، ولا أرى “فاصل للدهشة” تعرية لعالم المهمشين بالمعنى البسيط لكلمة “تعرية”، لم أقدم هذا العالم فى موقف الضعيف، أو الأدنى الذى يحتاج الشفقة أو يستحق “الفرجة”، وإنما قدمته قويًا رغم آلامه، قادرًا على أن يمد يده وينتزع لنفسه حياة ما.
هل تأتى الكتابة عندك بقرار وتكون الفكرة واضحة فى ذهنك أم أنها تأتى كلحظة إبداعية تتحدد وقت حدوثها؟
لا شىء محدد، فى بداية كل عمل تكون هناك فكرة، وخطوط عامة، وأثناء الكتابة تتفرع هذه الخطوط، وتتكشف مفاجآت ومناطق جديدة، وفقط يتبع الكاتب إحساسه، وحفنة الأفكار التى معه ويمضى، فيتكشف له الطريق، ويحصل على مفاجآت تفرحه، وأحيانًا يحتاج الأمر إلى ما يشبه قرار، عندما تستنزفك التفاصيل اليومية، أو غيرها.
بعد عام 2007 لم تقترب من السياسة والواقع كله، بل فضلت الكتابة الأقرب للفلسفة بلغة ناعمة وصياغات تجنح لتراكيب لغوية شديدة الرومانسية بينما كنا فى خضم عالم ملىء بالتفاعلات السياسية الساخنة، لماذا فضلت أن تبتعد؟
بعد أن كتبت “فاصل للدهشة”، بواقعيتها الشديدة، أو واقعية ما بعد القاع ضمن ما أطلق عليها من تسميات، كان بإمكانى أن أستمر فى عالم الهامش بسهولة، لكنى كنت أبحث عن عالم جديد، وأسلوب فنى جديد، أقدم من خلاله أفكارى ورؤيتى، أبحث عن وجه آخر للعالم، السياسة أقل كثيرًا من أن يتتبعها الفن بالرصد، هى فى كل أحوالها واقع طارئ، الكتابة يمكنها أن تقدم أشياء أفضل، وتكتشف أفكارًا أكثر جمالاً، يمكن للكاتب أن يعبر عن وجهة نظره فى الواقع الراهن بأكثر من طريقة، وعندما يفعل ذلك داخل عمل فنى، فلابد أن يحدث هذا على طريقة الفن، بشكل شخصى أريد لكتابتى أن تتجاوز الحدث الوقتى، والفكرة السطحية العارضة، أفكر فى كتابة تتماهى مع المفردات الأصيلة للكون والإنسان.