عالم كهذا يقدمه الروائى “محمد الفخرانى” فى مجموعته القصصية “قصص تلعب مع العالم”، والصادرة عن دار “ميريت”، حيث استطاع أن يقدم فيها عالمًا أسطوريًا، خياليًا، تتصارع، وتلعب فيه النزعات الإنسانية، تتراجع فيه آلهة هوميروس، لصالح صفات البشر التى ألبسها صاحب الإلياذة لباس الآلهة، الأصح أن نقول إن “الفخرانى” استطاع أن يصنع عالمًا جديدًا، يخلق عالمًا من العدم، يتنفس براءته الأولى، ويخطو خطواته على سطح الأرض، يختفى منه البشر، لكن تظهر الصفات البشرية، الكذب والصدق والحب والحزن، تصنع عالمها الحقيقى المحسوس، الذي يوازى عالم الأطفال فى براءته، وعالم الكبار فى غموضه، وتشابكاته.
كانت رواية “الفخرانى” الأولى “فاصل للدهشة”، صادمة للكثيرين لواقعيتها الشديدة، وكشفها عالم المهمشين والعجز البشرى، لكن مجموعته الجديدة “قصص تلعب مع العالم”، وقبلها مجموعة أخرى حملت اسم “قبل أن يعرف البحر اسمه”، يقرر أن يودع هذا العالم الواقعي، الذى كشف عورته فى روايته، لعالمه الخاص، الذى يصنعه على عينه، يصنع أسطورته الخاصة، مخلوقاته السحرية، ويرصّها متجاورة، وبعصا الساحر يقول لها تحركى، واصنعى حكاية.
يصدّر “الفخرانى” مجموعته بعبارة “لا شىء أجمل من أن تلعب مع العالم”، ليؤكد أن القادم هو مجرد لعبة، أو أن القاص قرر أن يلعب، ويبدأ العالم منذ البداية، ويعيد تشكيله، وهو ما يتضح منذ القصة الأولى، التى يحركها “نور”، و”ظلام”، و”كذب”، و”موت”، و”حب”، هذه الشخصيات التى قررت أن تلعب لأنها لم تستطع تدبير إيجار البيت.
يقوم كلٌ منهم بما يقوم به البشر، ف”نور” فى حجرته المشتركة مع ظلام، يُعدّل كلٌ منهما تسريحة شعره أكثر من مرة، ويجرّب قطعة ملابسه، ثم يخلعها ليجرّب أخرى، يحبان نفس المرأة ويعترفان لها فى يوم واحد، نحن إذن أمام إله “الكذب”، وإله “الصدق”، وقد نزعت عنهما قدسيتهما، وصارا بشرين، يخطئان ويصيبان، نحن أمام عالم بكر، يصيغ “الفخرانى” فيه بين الأشياء بحرفية بالغة.
“كذب” ضيف على أصدقائه، لكن أعز أصدقائه هو “صدق”، المشغول مع ابنته الصغرى بصنع القوارب والبيوت الصغيرة، و”حب”، يتذكر حبيبته التى خسرها منذ أيام قليلة فيحس برغبة فى الجرى بلا هدف، ويزداد إحساس “ظلام” بالقلق على صديقته “رحمة” التى تواصل الرسم على الجدران في الشوارع، و”موت” يلتفت حوله بلا تركيز، لا يكتفى “الفخرانى” في قصته الأولى بتصفح العالم، بل يؤكد أن كل ما يحدث لعبة، وأن هذه آلهة فقدت ألوهيتها، لكنها ما زالت تمتلك أسطورتها الخاصة، يتضح ذلك عندما تلعب تلك “المشاعر” بالكرة الأرضية “ارتبكت شوارع وكائنات كثيرة داخل الكرة عندما ركلها “نور” تجاه “حزن”، الذى لعبها بكتفه مباشرة، فاشتعلت داخلها شمعة تمسكها شابة واحدة، وانطلقت غزالات بين أشجار غابة كثيفة، وعندما ضربها “موت” برأسه، انسكب أحد أنهارها فى بيت صغير”.
لا تكتفى المشاعر التى قررت أن تلعب الكرة، بالكرة الأرضية، بلعب دور الفاعل، بل تكون مفعولاً به أيضًا، ويمتزج العالمان، العالم الواقعى، وعالم “الفخرانى” الأسطورى، فعندما يرى “حزن”، المرأة التى يحمل لها مشاعر قوية، وهى تمشي فى ركن بعيد داخل الكرة، يقفز هناك، لتنتهى اللعبة بأن “كل الألوان والمياه والكائنات تتماس وتسكب من بعضها لبعض، كأنما يتذوق كلٌ منها الآخر، ويتبرع له بجزء من حياته، تجرى الكرة، تمتزج العوالم، الكائنات الأفكار، والمشاعر ببعضها البعض، ولا يتوقف اللعب”.
تكشف القصة الأولى إذن عن عالم “الفخرانى” السحرى، الذي سيستمر بشكل أو بآخر فى بقية المجموعة، والتى يمكن اعتبارها أيضًا امتدادًا للمجموعة السابقة “قبل أن يعرف البحر اسمه”، حيث يعيد اكتشاف العالم، وإعادة اختراعه من جديد بأسلوب قصصى يجنح إلى التجريب على مستويات البناء القصصى واللغة القصصية، والمزج بين الواقعى والعجائبى، حيث يروى حكاية أول بشر على الأرض، وحكايات عن نشأة كل ما ارتبط بالبحر.
فى قصته الثانية، يدخل “الفخرانى” عالم السحرة، ويطرح السؤال الطفولى الجميل، “إذا كان السحرة يجلبون كل هذا الذهب بفرقعة إصبعين فى الهواء، طك، هكذا، فلماذا يقدمون عروضهم للناس ليحصلوا على خبزهم يوما بيوم، هكذا؟”، ويحمل السؤال القارئ إلى مدينة السحرة، التى يرسم “الفخرانى” معالمها بشكل أسطورى، فليس فيها أحد يمتلك اسمًا، ولا اسم يمتلك أحدًا، شوارعها أفكار من خيال السحرة، وبيوتها تظهر فقط عندما يدخلها أحد، وتختفى بمجرد خروجه، تفعل ذلك لا لشىء إلا اللعب.
اللعب إذن هو مفتاح المجموعة القصصية التى يقدمها “الفخرانى”، بلغة شعرية رائقة، عوالم طفولية بحتة، فنحن أمام طفل يقف أمام بالتة ألوان قرر أن يرسم عالمًا، فوصف المدينة يليق بمخيلة طفل يتخيل مدينة يسكنها السحرة، وهكذا يستغل الكاتب هذه الروح في صياغة النصوص نصًا وراء الآخر، ويتحول الكاتب إلى الساحر فى نهاية القصة عندما تمتزج كل الأماكن والأوقات والكائنات والألعاب، فتتلاشى الفرص القليلة التي يمكن بها معرفة الإجابة عن سؤال “أيهما سحر وأيهما عالم”، حيث صار السحر عالمًا، والعالم سحرًا، وصار اللعب عالمًا والعالم لعبًا.
من أكثر قصص المجموعة جمالاً، قصة “عيناها أجمل مكان للحزن”، فبالإضافة للغة الرائقة السلسة، فهى تقدم أسطورة الكاتب الخاصة، فإذا كانت الأسطورة يغلب عليها التفسير بأنها تهدف إلى تعيين الأسباب والعلل الأولى للأشياء والأحداث الجارية، وليس ثمة ظاهرة طبيعة أو ظاهرة من الظواهر الحياة الإنسانية تأتى تفسيرًا أسطوريًا أو لا تستدعى مثل ذلك التفسير، وكل تلك المحاولات التى بذلتها مذاهب المثولوجيا لتفسير الأفكار الأسطورية، لكن أسطورة “الفخرانى” تقدم مزجًا بين العالمين الواقعى والشعورى، حيث “طلب منها الحزن أن يسكن عينيها لبعض الوقت، واقترح أن يكون سبعة أيام”، وهكذا يدور النص بين الحزن والمرأة، المتخيل والواقعى، لكن المتخيل هنا يحمل حقيبة أغراض شخصية، ويوزع أشياءه البسيطة فى عينيها بلطف، ويحاول قدر استطاعته ألا يكون مزعجًا، والصورة التى سترسم فى ذهن القارئ هنا على الفور هى أننا أمام مغترب يسكن فى أحد الفنادق.
في كتابه “نظرية التشكيل” يقول “بيل كيلى” إن الطابع السريالى لإبداعه الذى يتفق فيه مع السرياليين يكمن حول قوة التداعيات الحرة وقوة عالم الأحلام وصعود الإشكال من اللاوعى، ولكنه لا يتفق معهم في قيمة الأوتاماتيزم، ملمح آخر يشير إليه هو احتفاظه بثوابت كبرى طيلة حياته الإبداعية: أولها الإخلاص للحكاية البصرية غير المؤكدة، والوقوف دائمًا على حافة التشخيص، يمكن أن نقول أن هذا ينطبق على “الفخرانى” أيضًا، فالفخرانى الذى يقدم لوحة، سيريالية في بعض الأحيان، غير أنها واضحة المعالم، شديدة وضوح الألوان، نحن أمام عالم متكامل متماسك، نمسك زوايا الصورة، لكن “الفخرانى” يقدم شيئًا آخر داخل الصورة غير المعتاد، نحن أمام كرة أرضية، لكن التفاعلات التى تحدث حول هذه الكرة أو داخلها تختلف عن المتوقع أو المعتاد.
إذن يمكن القول باطمئنان أن اللعب هو القاعدة الوحيدة التي يمكن الانطلاق منها فى قراءة المجموعة، يتضح هذا من خلال قصة “كمنجة تعزف غير مبالية بأىّ شىء”، فنحن أمام قرية عادية، بتفاصيلها الاعتيادية، لكن من يتحرك فيها، وتدور حوله الأحداث هو “الجليد”، و”الزلزال” الذى كان يأتى فى أىّ وقت ليلعب مع القرية، لكن فعل “الزلزلة” الذى يشعر به البشر يحوله “الفخرانى” إلى لعبة من قبل “الزلزال”، عندما يفعل ذلك فى وقت متأخر من الليل، ويستيقظ أهل القرية على “حركته” فى الشوارع، ويبدو هنا أيضًا كأن أهل القرية يعرفون أن كائنًا اسمه “الزلزال” يلعب فى الخارج، فيستيقظون على حركته فى الشوارع، يراقبونه قليلاً من نوافذهم، ثم يستسلمون سريعًا لهزاته اللعوب، ويعودون لأحلامهم.
نحن هنا أمام عالمان ممتزجان، يدرك كلٌ منهما الآخر، ويصدقه، لكن فى الحقيقة نحن أمام أكثر من عالم، فكل شىء هنا يتحرك ويتكلم، وليس المشاعر فقط، فالقصيدة تلقى نفسها فى الخارج، فى “قصة تسهر طوال الليل، وتجول العالم فى الصباح”، وكائنات اللوحة تتحرك، كما أنه فى نص آخر يمزج بين الكائنات فى قصة “المرأة السيرك الرجل الموسيقا”، حيث يحمل الموسيقا فى قلبه، وتحمل السيرك فى رأسها، أو يحرك الجمادات الموجودة بالفعل كما فى قصة “مهرجان فى شارع مسحور”، حينما تصل غيمة صغيرة للقمر بعد دقيقتين إلى القمر، لتعطيه ورقة مطوية كتبتها أمها.
أقصر قصص المجموعة “ألعاب وموسيقا”، ربما تكون الأكثر تعبيرًا عن المجموعة، حيث تلخص العالم الذى يقدمه “الفخرانى”، من الألعاب والموسيقا، حيث تلاعب ريشة فى الهواء طائرًا تائهًا، وكلٌ منهما يحكى للآخر ما رآه فى العالم، وهذا بالضبط ما تقوله المجموعة، حيث تحكى، وتكتب كل الأشياء الحقيقية والمتخيلة فى العالم أسطورة جديدة، ومختلفة.
نحن أمام عوالم وثقافات مختلفة، تجعل القارئ يطرح على نفسه سؤالا: ماذا يحدث لو امتزجت ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والإلياذة والأدويسا، وحي بن يقظان، وقصص الحكيم إيسوب، وأولاد حارتنا، وأدب أمريكا اللاتينية حيث الواقعية السحرية؟ الإجابة أن كل هذه الثقافات، والعوالم المختلفة من الممكن أن تخرج عالمًا مغايرًا، مثل الذى قدمه، وصنعه “محمد الفخرانى” فى مجموعته “قصص تلعب مع العالم”، حيث قدم عالمًا بكرًا، يخصه ويميزه، يحمل بصمته الخاصة، وروحه المبدعة، وشاعريته الواضحة.