وينتقي الفخراني عناصر قصصه من العالم المحيط بنا، في ألعاب سردية، ليست بالجوفاء قطعا، ولا غايتها إظهار المقدرة على الحكي، والسيطرة على الجملة القصصية، وإنما هي محاولة لاختراع العالم وفق تصور الفخراني نفسه، ومن ثم غدت التقنيات التجريبية والتجريدية على المستوى البلاغي والفلسفي أداةً للكشف عن طبيعة العلاقة الكونية بالإنسان.
اختراع العالم
ويصدر الفخراني مجموعته بجملة مفتاحية، إهدائية، أو نص توطئة لقصص المجموعة “لا شيء أجمل من أن تخترع العالم” وتحتوي هذه الجملة على رؤية الكاتب، وتبدأ ب “لا” النافية على إطلاقها لصفة الجمال مستثنية عملية اختراع العالم، وتتضمن مفردة “اختراع” النقطة المركزية لهذه المجموعة، والتي تتلخص في أن قصص “قبل أن يعرف البحر اسمه” قصص تخترع لغتها، شخوصها، مكانها، زمانها، عناوينها، منطقها، وشعريتها أيضا.
“الاختراع”، تعني أن العالم على هذه الصورة لم يكن موجودًا، ولم يكن الناس يعرفونه، أو عرف العالم نفسه، حتى أن البحر كان قبل أن يصل إلى هذه المجموعة يجهل اسمه، مما يدعونا أن نستحضر ثالوث هيجل “الروح، العالم، المظهر”، وقبل أن نوضح العلاقة بين أركان ثالوث هيجل والرؤية الكلية لقصص المجموعة، نتوقف أمام مفردة “نخترع” التي آثرها السارد، ومن خلال الانتقاء والتبادل اللغويين نجد أن السارد لم يقل نخلق، أو نوجد، أو نبدع، وتشير هذه المفردات إلى عدم الوجود المسبق، وتؤكد على ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه أحد، والإيجاد من العدم. أما مفردة “الاختراع” فتشير إلى وجود الشيء على غير مظهره، ومن ثم يكتسب العالم في هذه القصص مظهرا جديدا، أو سيتمظهر بمظهره اللائق حد المفهوم الهيجلي.
تؤكد المقولة الهيجلية على أن “التاريخ هو تمظهر الروح على نحو جدلي” ويمكننا فهم هذه الجملة من خلال الثالوث المشار إليه من قبل؛ حيث يذهب هيجل إلى الاعتقاد في أسبقية “وجود الروح على الوجود المادي، ثم تظهر هذه الروح على العالم الذي يبدو بلا تمظهر، وتعطي الروحُ العالمَ مظهره، أو يتمظهر العالمُ على شكل الروح.
العالم والروح متواجدان في قصص المجموعة، لكنهما منفصلان، فيقوم السارد بدور الوسيط، كي تسقط الروحُ على العالم فيتمظهر على صورته، أو يخترع السارد ذلك الاختراع التجربة “الحياة هي التجربة” أو الاختراع الانجذاب إلى عالم السارد الخاص “آخر شيء فعله خط الاستواء في حياته أن وضعه الأطفال بينهم، بعد أن قسموا أنفسهم لفريقين في لعبة أجذبك لعالمي”. وتحضر المقولة الهيجلية؛ إذ يقول السارد “فيمنح روحه وجسمه للكون” عندما يتحدث عن شخص لا يعرف الساردُ إن كان هو هذا الشخص أو غيره.
اطلاقية الرؤية
ومن الجملة المفتاحية إلى عناوين القصص التي انتمت مفرداتها إلى مجالين كبيرين وهما: المجال الأول: المجال الطبيعي ويضم مفردات “بحر، شمس، قمر، سماء، مطر، سحاب، نجوم، غابة. والمجال الآخر، المجال البشري ويضم مفردات “الأنثى، الرجل، المرأة وضميري الغائب “هو وهي ” في عنوانين ” يُنفق النجومَ في المقاهي، شعرها يشتت تفكيرَ الريح” ويربط بين هذين المجالين “الطبيعي والبشري” بمفرداتهما المتباينة مجالٌ وسيط أبرز مفرداته “الحب، القيثارة، العصافير، الأسماك، الحصان، الأزرق، والبنفسج”. وكأن الكون يبقى بمعزل عن الإنسان ما لم يتواجد الحب والموسيقى والعصافير.
وعلى المستوى التركيبي، نجد أن العناوين التي ارتكزت على مفردات المجال البشري جاءت على الصيغة الفعلية ” تبتسم لأول ثلاثة وترقص مع الرابع”، “تستعملها المرأة والعصافير …..”، “يُنفق النجوم في المقاهي” ويمكن أن ندخل في هذه المجموعة عنوانين آخرين هما “الرجل الذي اشترى العالم”، “شعرها يشتت تفكير الريح” على الرغم من اسمية الجملتين إلا أنهما تضمنا فعلين أحدهما ماض والآخر مضارع. وجاءت العناوين التي ارتكزت مفرداتها على المجال الطبيعي في صيغة اسمية “البحر”، “أزرق”، “قصة اختفاء الشمس”، “سماء سحرية مليئة بالمطر”، “موسيقى متجولة وشارع مغامر”، “اللعبة”، “قارب وسحابة”، “عن اللعب والطيران”، “بحر في حصان.. حصان في بحر”، “الغابة”.
الفارق بين الجملتين الاسمية والفعلية أن الأخيرة تدل على الدوام في التغيير والتقلب من شكل إلى آخر، وتتضمن دلالات عدم الاكتمال باعتبار الفعل عملا يجنح ناحية الكمال الذي لا يتحقق؛ فضلا عن إشارة الجملة الفعلية إلى الديناميكية والفاعلية. بينما تشير الجملة الاسمية على الثبات والإطلاق والسرمدية، فالبحر _رؤيويا وليس فيزيقيا_ مطلق، والسماء _رؤيويا_ مطلقة، والأزرق مطلق؛ بل الكون _في حده الرؤيوي_ هو المطلق ذاته.
وتؤكد الجملة الاسمية على استاتيكية المفردات الطبيعية طالما بقيت بمعزل عن حزي الحياة الإنسانية، تلك الحياة التي تتحكم فيها أفعال من قبيل ” الابتسام، الرقص، الاستعمال، الإنفاق، الشراء، التشتت” وهي أفعال تنتمي لدوائر متقاطعة دلاليا ومتداخلة، كالتداخل بين الاطلاقية والتجربة، باعتبار أن الفعل تجربة، وهو غاية ما يصبو إليه السارد “دخول المطلق في حيز التجربة” ودخول الإطلاق والسرمدية حيز الفعل، وتمظهر الروح في العالم على نحو جدلي، مما يمنح العالم صورته، كما الحال عند هيجل.
العناوين الجانبية
وليست العناوين الرئيسة فقط التي بينت هذه الرؤية، وكشفت عنها مبكرا باعتبار العنوان أول ما يطالعنا في النصوص، وإنما تشترك العناوين الهامشية/ الجانبية في نفس الدور، وتؤكد على نفس الدلالة. ففي القصة الأولى “البحر” تطالعنا الجوانب بجمل “البحر كان وحيدا، البحر كان بلا اسم، البحر كان شارعا، البحر كان ساذجا” والصيغة الاسمية تضفي صفة الإطلاق الرؤية على البحر، ونلاحظ أن السارد آثر أن تبقى هذه العناوين/ المفاتيح على هيئتها الاسمية، فلم يقل “كان البحر” ما يعني استمرار السارد في محاولات تأكيد إطلاقية الطبيعة.
وفي آخر قصص المجموعة “الرجل الذي اشترى العالم” نجد عناوين “أشتري الحزن، أشتري الموسيقى الحزينة والذكريات الحزينة، أشتري قصص الحب الفاشلة، أشتري الوحدة، أشتري البرد، أشتري الظلام، أشتري الغيوم وخريف الأشجار، أشتري المذنبين الكاذبين ….، أشتري الشياطين، أشتري الموتى، أشتري الأفكار الشريرة”. وهي جمل فعلية تؤكد الدلالة السابقة، ويزيد تكرار فعل “أشتري” دلالته الخاصة؛ حيث يعني وجود بائع “سكان العالم” ومشترٍ “رجل مجهول، معه عربة يجرها حيوان مجهول، جسم العربة لا يظهر، فهي محملة بصناديق مليئة بالذهب والفضة، والأحجار الكريمة، تتراص فوق بعضها حتى تعلو البيوت ولا تسمح لأحد بالمرور” ووجود سلعة “مفردات العالم السلبية كالحزن، الظلام……..الخ”؛ فضلا عن وجود اتفاق طبقا لمبدأ البيوع. وبعد سلسلة المشتريات وقائمة المبيعات تأتي جملة “العالم الآن” كعنوان جانبي، ما يعني الرجوع إلى الثبات والإطلاقية مرة أخرى، والتي ستداخل في آخر القصة في فعل الانتظار الذي تنتهي به المجموعة.
آليات فنية
من الطبيعي أن يكون النقد تال للإبداع، ليس من الناحية القيمية وإنما من ناحية علاقتهما معا، وبالتالي من الموضوعية أن يلج الناقد إلى النص الأدبي دون رأي مسبق، أو التسلح بتقاليد سابقة وبأنماط جاهزة، وأية محاولة لتنميط كتابة محمد الفخراني حتما ستنتهي بالفشل. وندعو إلى تفعيل القراءة التي تقوم على جدل العلاقة بين العوامل الذاتية للنص والعوامل الخارجة عنه، دون منح سلطة لعامل على حساب العوامل الأخرى.
اعتاد النقاد القول عن التكرار إنه من جوهر شعرية القصيد، واتفق معهم، سواء كان تكرار إيقاعيا أو دلاليا، لكني اختلف مع من يرى أن التكرار في القصة خروج عن الأداء الوصفي وتتابع السرد؛ حيث يعتمد الفخراني على التكرار كتميمة أساسية في بعض القصص، وكمحاكاة للكون والامتداد اللانهائي فيه.
هذه المحاكاة الرؤيوية تؤثر فنيا على لغة السرد، فينتج السارد تكرارات متنوعة على مستوى اللفظ “بحر، شمس، أزرق،…” أو على مستوى التراكيب “البحر كان شارعا، البحر كان ساذجا، …”، أو “القصة الأولى تقول إن أصله…، القصة الثانية تقول إن أصله….الخ”. والتكرار على مستوى الدلالة، كدلالة بكارة البحر ورومانتيكية القمر.
وهناك ملاحظة أخرى، تتمثل في “الطاقة الشعرية” التي اكتسبتها اللغة من الإتكاء على المجاز البلاغي، البصري، الصوتي، التصوير، إغراب الإسناد، والاعتماد على تراكيب متباعدة الأطرف. وتوافقت هذه “الشعرية” مع مفهوم “مقلوب العالم الحقيقي”، الذي يجعل من شعر الفتاة “يشتت تفكير الريح” ويجعل من الرجل “ينفق النجوم في المقاهي”، والحلم “يحب الطفلَ كثيرا”، وقلب البنت “ينفلت من يديها مع تيار النهر”، وتكتسب القيثارة اسمها من “عرافة غجرية”.
هذه الآليات جعلت القصص أقرب إلى الخيال الأسطوري والحكايات الشعبية، وامتد تأثير الميثيولوجي على بعض العلامات كــ”ولدت يوم الحب في قلبه، وهو اليوم التاسع من أيام الأسبوع قبل أن تصدر قوانين بتسميات وتقويمات جديدة، وفيه عاش العالم احتفالا كبيرا من المطر والريح، وكما أخبرتني أمي فقد ظهر الكثير من الجن الطيّار، وكان ذلك علامة على أني سأكون من أسرع الكائنات في الحياة، وتوقع البعض أن سرعتي ستبلغ درجة أستطيع بها أن أسافر في الزمن..” ونراه تأثير موروث كبير أقرب إلى الفولكلور منه إلى الحقيقة.
“قبل أن يعرف البحر اسمه”، قبل أن يهتدي الكون على مظهره، وقبل أن يصير العالم على شكله، كان لابد أن يمر على لغة محمد الفخراني؛ ليخترع الفخراني ذلك العالم ويكسبه صورته وهيئته، ويكسب العالمُ “حياة” في بعض الأوراق “المجموعة”، فتطير هذه الأوراق “بنا” لتفتح آفاقا قصصية جديدة، ورؤى سردية جديرة بالتوقف أمامها بحثًا ودراسة ونقدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ناقد مصري