في روايته السابقة “بالضبط كان يشبه الصورة”، الفائزة بجائزة الدولة التشجيعية (2011 )، التحق “منصور” حارس الجبانة بخدمة الدير القديم منذ كان (أطلالا غير محددة المعالم، تختلط فيه الرهبان مع بقايا أثر فرعوني قديم). كان “منصور” يجلس تحت نصف مسلة من بقايا المعبد القديم، يتحسس نقوشها البارزة ويحاول فك شفرتها، وأن يجد تفسيرًا للدائرة التي تتوسطها نقطة. كان حارس الجبانة يعشق الدوائر، ويحلم بأن يرسم دائرة كبيرة تحوي الكون بداخلها؛ يحتضن إطارها شتى أنماط البشر وأحلامهم من شتى الأجناس واللغات، (لأنه يعرف أن هكذا كان منذ البدء، وهكذا خلقت الأرض دائرة، تدور فتجعل الفوق تحت، والتحت فوق، وتتكرر القصة الواحدة آلاف المرات، لم يأت بعد وقت سكونها). كان حارس الجبانة تحيره مركز الدائرة، ولكن في تلك الحيرة يتجلى الكشف عن أسئلة وجودية تؤرق الكاتب ويدور حولها سرده القصير. فالكاتب، مثله مثل حارس الجبانة، (كان يحيره مركز الدائرة، تلك الجنة التي خلق الإنسان في ثباتها، ولكنه لم يحافظ على ثباته في الدوران، ومن لم يسقط اضطر أن يدور مع الدائرة، ويدوخ في تلك الدوامة التي لا تنتهي، ينحرف من بؤرة الثبات التي في الوسط لينجرف إلى حافة الدائرة التي لا ترحم، فيفقد صورته الإنسانية الأولى ويصير مثل المسخ). ومثل الدائرة التي كان يرسمها حارس الجبانة، كانت دائرة الزمن التي يرسمها الكاتب في سرده (تجعل الفوق تحت، والتحت فوق، وتتكرر القصة الواحدة آلاف المرات). تدور رواية “بالضبط كان يشبه الصورة” في فضاء زمني يتذبذب بين الحاضر وحقبات زمنية متباينة تعود إلى مئة عام.
في روايته الأحدث “صياد الملائكة” (2014) يواصل الكاتب اشتباكه مع أسئلة الكون الكبرى وتفسير الوجود، من خلال شخصيته المحورية “حنا”، شاب انطوائي، أعزب، يحتفظ ببرائته. تدور الرواية في مدينة صغيرة قريبة من أسوان – يُلمح إليها الكاتب دون أن يفصح عن اسم المدينة ذاتها – أما الفضاء الزمني فلا يتجاوز ربما الساعات الست من أحد الأيام. في إطار من ثقافة أهل الصعيد وتقاليدهم، يستلهم الكاتب أحداث الفتن الطائفية، التي طالما شهدتها تلك البقاع من صعيد مصر، ويتكئ السرد على إحداها ليفجر أسئلته الوجودية الشائكة. يهاجم أهل البلدة شقة “حنا” ويعتدون عليه، لشروعه في إقامة علاقة غير شرعية مع فتاة ترتدي النقاب، ولكنها في الواقع تتستر خلف النقاب وتعمل بالدعارة. وتصبح هذه الحادثة شرارة لفتنة طائفية، تتسبب في أن يُلقى القبض على “حنا” ويفجر متطرفون الكنيسة.
تُستهل الرواية من منتصف الحدث الروائي، لحظة دخول الفتاة دكان “منصور”، صديق “حنا”، بينما هو جالس عنده: (وجدها تقف قدامه بالنقاب والإسدال الأسود الفضفاض، وهذا لا يعني له شيئًا، وإذا كانت عند دخولها قد شغلت حيز تفكيره للحظة، لحظة صغيرة وخاطفة، فهذا من دواعي الفضول والمفاجأة، ولا يمُتُ إطلاقًا لموقف ما تجاه هذه النوعية من الملابس، فهو لا يهتم بمثل هذه الأمور، وفي الواقع هو لا يهتم بأي أمور من الأصل). وبذلك يلقى الكاتب بقارئه في بؤرة الصراع منذ الوهلة الأولى، ويلقي بشباكه حوله، تلك الشباك التي لا يستطيع منها فكاكا إلا مع نهاية الرواية. وفي الصفحات الأولى أيضا يلقي الكاتب بدلالة رمزية، تغلف السرد، وتطرح أسئلته الجوهرية التي تنفك شفرتها مع نهاية الرواية. يخبر “حنا” صاحبه عن شروعه في كتابة قصة يستنسخ تفاصيلها من حلم قديم، وربما، حسبما يقول، (من شعور حقيقي، لكنه غامض). ويحكي “حنا” عن: (ثعبان، يصحو واحد من بني أدم، فيجده رابضًا فوق صدره، كامنًا وهادئًا، يتغلب البني آدم على الصدمة بالهدوء… لا يتحرك ولا يتنفس، لدرجة أن من يراه سيشعر أنه متصالح تمامًا مع الموقف، كأن الثعبان صاحب قديم، أو مجرد حيوان أليف يُداعب مربيه). ولا ينتهي الأمر في يوم أو ليلة، ولكنه يستمر في حركة سيزيفية لا تنتهي: (تغيب الشمس، وتُظلم الغرفة، ويصير الثعبان غير مرئي، رغم أنه ما زال يترك دليل وجوده فوق صدر البني آدم، وهذا الأخير، الذي لم يجد شيئًا يفعله غير التحديق في الثعبان، كل اليوم تقريبًا، يشعر بالنُعاس… ساعات من الهدنة ونسيان الحياة، والبني آدم – بطل القصة – حتمًا كان سينام، حتى ولو أن الثعبان مازال فوق صدره، يُغمض عينيه، وتنتهي القصة، لتبدأ من جديد في نهار اليوم الجديد).
وفي مشاهد استرجاعية يضئ السرد الخطوط المتوارية لشخصية “حنا”، كما تلقي تعليقات الراوي بأضواء كاشفة عليها – وهو أشبه بالراوي على خشبة المسرح منه بالسارد العليم في الرواية الكلاسيكية. بينما كان “منصور” يفكر كان يرسم بقلمه دوائر وخطوط ويكتب كلمات. وهنا ينتهز الراوي الفرصة ليكشف الخطوط المتوارية لشخصية “حنا”: (كان يفكر، لكن بطريقته، فهو من هذا النوع الذي لو أعطيته قلمًا، وهو يفكر، فإنه سيملأ لك الدنيا رسمًا وتخطيطًا، بحيث يمكنك أن ترى عقله، بالكامل، مفتتًا على الورق، ففي تلك اللحظة اللاشعورية من التفكير، لم يخط منصور، بنفسه هذه الخطوط، إنما فعلها منصور الآخر، القابع في العمق، وراء طبقات وطبقات من الزيف المرتب، ولذلك، كانت هذه الطريقة تعجب حنا، الذي كان اللاوعي – هو الآخر – يُمرر له القصص عبر الأحلام، ويرى أن التفكير بهذه الصورة هو أصل الإبداع، وما دونه ليس إلانوعًا من الترتيب، أو التنميق…. كما تتحول الحرارة إلى ضوء، تتحول الشهوات إلى فضائل، وكما تتحول الحركة إلى كهرباء، يتحول الجنون إلى إبداع). وبالفعل تنتهي الرواية بأن يخرج “حنا” من زنزانته التي قضى فيها سنوات، وقد ظهر بمظهر المجنون الغائب عن العالم، ولكنه في الواقع يترنح على خيط بين الجنون والإبداع.
“صياد الملائكة” رواية تتكاثف فيها طبقات السرد وتتعدد مستويات القراءة، لتطل صورة “غريب” ألبير كامى من بين ثناياها.
خاص الكتابة