يصعب استيعاب هذا الكم الهائل من الدلالات والإيحاءات التي تريد أن تقول شيئا واحدا بطرق وعرة و شائكة، يظل النص يعاني من حرقة البوح ، و الإفصاح عن معاني الأشياء التي تجد نفسها مضطرة لخوض ملاحم الهروب ، و إبعاد القصيدة عن مسارها الإبداعي الذي تنهض منه ، و لا يسمح لها المجال الضيق ، و الحيز المكاني من صناعة توليفة تناسب جرأتها في الحكي، و الاشتغال على مناطق باتت مهمشة ، و غير صالحة لزراعة قول شعري يتماشى وظرفية الكتابة الشعرية التي أضحت تتغير كل حين ؛ بفعل الوتيرة السريعة التي تدفع حركة الفكر إلى الذوبان في صلب معركة تدارك العالم الصناعي الذي يهدم أسس و مبادئ الكتابة الشعرية ، ويتركها معطلة في منتصف الطريق٠
تعجز المفردات، و هالة التذمر من واقع لم يعد يحتمل ، في ظل حالة الفوضى، و سلوك العبث بالوعي العربي الذي يعيش على هامش الأحداث التي تخصه ، و تمس وجدانه المهزوز و المهموم بإكراهات الحاضر ،و المستقبل المجهول ، و الشعور بحالة الإنفصام و فقدان الذاكرة ، و النهب المتزايد لاستهلاك ثقافة الآخر في غياب ثقافة الوعي العربي ، و إشكاليات الانتكاسة التي أصابت قلم المثقف العربي في صياغة واقع يروم أسس التفاعل الحضاري مع فئة واسعة من مثقفي الألفية الثالث و التحديات التي تنتظر جيلا بكامله ٠
لا أخفي قلقي الحالم عن شرعية القصيدة ؛ في هذا الاشتغال المتواصل ، و تقزيم دورها الذي بات محسوبا و محسوما في أشكال التداول، و أفعال الحضور ضمن مواسم القول الشعري مرة كل سنة ، و الإحتفاء بالكلمة في صورتها الأسطورية دون تكريس إشارات سالبة و مفتعلة لمن ينتج هذا الشعر ، و تسليط الضوء عن الإتجاهات و التوجهات التي ينهض منها المتن الشعري ؛ و بذلك يفقد النص بريقه و تغييب صاحبه مع قلة المتابعة النقدية التي عجزت حتى الآن في مواكبة الوتيرة السريعة التي ينهجها الخط الشعري الذي يتفاوق مع فضاء التوسع في النشر ، و الإستجابة لخاصية الشبكة العنكبوتية ، و ما أحدثته من قفزة نوعية في غمار الكتابة الشعرية على طول و عرض الوطن العربي ٠
ولم يعد النشر مقصورا على فئة معينة ، مما ساهم في توفير كم هائل من النصوص الأدبية التي خرجت من عنق الزجاجة ، وساحت في فضاء التداول و من عقدة الإحتكار و الإقصاء ، و رغم كل هذا ما تزال تجربة النشر لم ترق إلى مستويات المتابعة ، و دراسة النصوص في زخم الإنفلات من حجة التصنيف ٠
الأمر الذي يدعو إلى تكثيف الجهود المشتركة ، لوضع أفق الممارسة الشعرية بين أيدي صناع البيوت الشعرية ، التي لا تفتق إلا في مواسم الربيع و اللقاحات التي تساهم بها مجموعة النحل في ظهور براعم غصون للكتابة الشعرية التي تخرج من مهدها المرتعش برغبة التألق ، و الغوص في عمق التجربة الشعرية التي تنصهر مع الوجدان العربي بكل مكوناته و أطيافه ، و أحلامه التي لا تنتهي ، و الطموحات الجامحة
التي تتوسد حرقة الإنتظار و المستقبل المجهول ، و الغد القريب الذي تتمخض عنه سوى فتات الإضاءة الباهثة فوق خشبة مسرح التصفيق ؛ سرعان ما تنطفئ في أول ظهور ، وتأفل شموع الأمل ، و تضيع اللوحة الشعرية المكثفة بين أيادي تجار و سماسرة المتاحف و قاعات العرض ، و يتلاشى حلم ـــ بيت الشعر ــــ في تأسيس قواعد صناعة الكلمة الشعرية ، و دراسة القصيدة الجديدة بكل ما تحمله من طموحات و هواجس توقظ فينا أحلام الأمس و جرأة المكاشفة ؛ التي تختبر الوعي العربي و تحفيزه على قول الشعر، و صياغة تراكيبه المحدثة ، و تأطير قافلة الشعر من حمى التيهان ، و تكريس وعي التجربة في ذهن القصيدة ، وتكون صورة مشرقة في المتن الثقافي العربي ، و رصيدا يغني التجربة الشعرية في الوطن العربي ، و يعيد أمجاد الماضي بصيغة حداثية عربية صرفة ٠ كما فعل رواد القصيدة في مجلة شعر و أقلام و آداب ، و غيرها من المنابر الثقافية ذات الصيت و الثقل الوازن في الساحة الأدبية، و المتابعة النقدية الرصينة التي تقف في نفس الاتجاه الذي تنهجه الكتابة الشعرية ٠
إن وعي الكتابة على مستوى القصيدة يختلف شكلا و مضمونا عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى ، تركب شكلها اللغوي من بحار لا تهدأ ، و تغوص في لب المعاني ، و تقتفي أثر التجريد و الغموض ، و تفتح شهية القارئ لخوض تجربة الخيال المتنافر و المتجانس ، و تضعه أمام صورة شعرية تستلهم مضامينها من واقع عربي كلنا نعرف وضعه ٠ و تطمح إلى حالة من الاستقرار التي تصيب جل مجالات الحياة.
و هنا لا يمكن أن نترك القصيدة تتيه في عوالمها المختلفة دون تسليط الضوء على جانب منها في كل درس من دروس الاحتفال ، و من طقس الاهتمام المرحلي الذي لا يستوفي مجال الرؤية الذي تنطلق منه القصيدة الجديدة ٠
الشعر لم يعد موضع نقاش ، و لا يوجد ضمن اهتمامات الإدارة ، و لا يحدث سجالا ثقافيا بين المبدعين و المؤسسات الثقافية الحاضنة ، و لا يماثل مما كان عليه في القرن الماضي ؛ و ضاعت فرص التذوق و الإنشغال به في فوضى الكتابة التي تعكس هاجس الارتجال ، و التشكيك في قدرة الشعر و الشعراء لمواكبة وتيرة التقدم في ظل عولمة الإنجراف ٠ و بالمقابل هناك هامش الحرية الذي فتح أبواب القول في مناحي متعددة من التصادمات و التفاعلات الجديدة ؛ حيث أفرزت مرحلة الربيع العربي مادة خام لكل من يجد في نفسه وجع الإشتغال على واقع عربي ؛ انفجرت فيه مساحات الصمت ، وأفرزت خطابا مناقضا لما هو سائد ويبحث عن كنهه في ظل هذه التراكمات و الإحباطات، و مهما يكن، فإن الشعر يظل حيا في وطنه، و في أحضان لغته الضاد ؛ يرتقب بإلحاح مجالات أوسع للبوح الشعري، وخلق فضاء أوسع للتلاقي و التجانس بين مكونات الثقافة الواحدة ، و تدشين أكثر من بيت الشعر يشع نوره في كل مكان، و لا يظل بيتا مهجورا لا يدخله إلا من هو في لائحة القبول و التزكية، لأن الشعر لا يصنف في خانة واحدة ولا في إطار ضيق؛ فهو أكبر من هذا البيت هنا أو هناك، بل يمتد نوره الوهاج في التربة العربية، ويسكن في كل صدر يحمل هم الكتابة بكل أشكالها التعبيرية، وعلى رأسها الشعر، وحدود القصيدة التي لا تنتهي ؛ لا حدود ترسم جغرافيتها، و لا قوالب جاهزة للإستعابها، ولا حدود اللغة تقوى على مطاردة مفرداتها الكونية؛ فهي تنفلت كلما اقتربت منها، و تستعصي على الفهم عند قراءتها الأولى٠
عصية على الإمساك بروحها الطامحة إلى اختراق جدار الصمت الذي بات شعار الملتقيات و النوادي التي تتكلم على كل شيء دون أن تعير اهتمام للغة الشعر، ومجالات التعبير المسموح بها كلما سمح له أن يقول كلمته، و ينفض غبار الإهمال عن حروفه، و شغف الإقبال عليه.
سؤال يلح باستمرار، ويرهق كاهل كل مثقف حر؛ هل يزال الشعر ديوان العرب؟ سؤال يحتاج إلى أكثر من إجابة، وأكثر من زاوية نظر، تعيد للمعنى أحقية الإجابة في زمن الجهل و القتل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خليل الوافي
كاتب وشاعر – المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة