حاورته: حنان حجاج
سألته : لماذا تكتب؟ قال: “كنت أريد أن أحكي”، وحين تقرأ أعماله تجدها ممتلئة بحكايات وتفاصيل تشبه حواديت العجائز اللائي يمتلكن مفاتيح المُخيّلات الشعبية.
الطاهر شرقاي يكتب كمن يلتقط عصافير شجرة الحكي قبل أن تطير بعيدا، ويستند إلي حوائط البيوت القديمة ليسجل أدبا من واقع أو بشر عايشهم يوما، أو حلم انفلت منه.
يقول في روايته (حضن المسك): “يحكي أن رجلاً حل عليه الليل في مكان موحش، فأناخ بعيره ليبيت فيه، لكنه خاف وحش الليل وأراد أن يأتنس، فقال لروحه: الليل مخيف، والوقت طويل، لا يقطعه إلا الكلام. فقالت روحه كلاما طيبا رد عليها بكلام أطيب حتي أشرقت الشمس ومن بقايا كلامهما نبتت شجرة غريبة ضخمة لم يُرَ مثلها في البلاد، لها ألف فرع، علي كل فرع ألف ورقة خضراء، وألف زهرة بيضاء وألف عصفور يزقزق كل صباح ومساء“.وما يزال الأديب بداخله يحلم بشجرة تحمل ألف حكاية وألف قصة وربما ألف قصيدة تفوح برائحة “الفانيليا “و”أحضان المسك“.
– يبدو جيلكم وكأنه يبحث عن طريقه وهويته الخاصة فى الكتابة فألى مدى نجحتم فى هذا؟ وهل هذا جزء من تمردكم على عالم الكتاب الكبار والنقاد؟
أعتقد نجحنا فى العثور على طريقنا الخاص، لسبب بسيط وهو التنوع والاختلاف فى الكتابة والذى يميز هذا الجيل “مع تحفظى على كلمة جيل”، تنوع على مستوى اللغة والعوالم والأساليب الروائية، فلا يوجد تيمات معينة يكتب على نمطها كل الكُتّاب وهو ما كان يميز أجيالا سابقة، حتى على مستوى رؤيتنا للعالم فهى مختلفة ربما لا تشغلنا فكرة البطل المقهور أو صراع الأيديولوجيات بنفس القدر الذى كان يشغل أجيالا أخري.
– قال لى أحد الكُتّاب الشباب إنه لا يهتم بأن يقرأه النُقاد الكبار ولا يحرص على إرسال أعماله إليهم، فهل توافقه، وترى أنهم لا يحتفون بكم كما يجب؟
الكتابة الجيدة تفرض نفسها فى النهاية ولا تحتاج إلى صك أو شهادة بذلك، ما يهمنى هو القارئ العادى وأحرص على معرفة رأيه، وهذا القارئ ربما يكون رفيق المقهى أو الجرسون أو جارى فى السكن، واحتفاء الكتاب الكبار أو النقاد يجب ألا تشغل بال الكاتب، بل الكتابة نفسها هى التى يجب أن تشغله كما يراها هو، لا كما يراها الآخرون بعيونهم.
– لكن أحد الكتاب الكبار كتب عنك، فهل تظن أنهم لا يجيدون التعامل مع أعمالكم المتمردة بأفكار قديمة؟
ربما تكون هناك فجوة بين النقد والإبداع، أو مسافة فاصلة بين الاثنين، أشعر وكأن النقد متأخر عدة خطوات عن متابعة الإبداع، هناك أسباب كثيرة وراء ذلك منها الانغلاق الأكاديمى داخل أسوار الجامعة أو محاولة تطويع النص الإبداعى عنوة للنظريات النقدية والتى ربما يكون النص نفسه قد تجاوزها منذ زمن.
النقد الذى يكتبه مبدع عن مبدع يكون أكثر سلاسة وجمالا وبعدا عن الاستغراق فى الغموض، يلمس روح النص وينير مناطق الجمال داخله بيسر، حتى على مستوى اللغة المكتوب بها يكون أكثر إبداعا.
– آخر أعمالك (عن الذى يربى حجرا فى بيته) والتى حزت عنها جائزة أفضل رواية فى معرض الكتاب الأخير تبدو أقرب للمونولوج الذى يلفه بعض الخيال بعيدا عن تفاصيل عالمك الأدبى الذى يعنى بالواقع بدرجة واضحة، ما الذى غير لديك واقع الكتابة هذه المرة؟
الفكرة هى التى تفرض عليك كيف تكتب وبأى طريقة، فقد أردت أن اكتب عن الوحدة بعد سنوات الحياة والعمل فى المدينة، والحجر الذى يعيش معه البطل ويربيه هو جزء من مفردات هذا العالم الذى اقتربت منه بشكل ما فى رواية “فانيليا” ثم دخلته بجرأة أكثر فى تلك الرواية. فقط أحاول عبر لغة مختلفة ومكان وتفاصيل أن أكتشف هذه الوحدة التى هى جزء أصيل من عالم المدينة المزدحم الذى تبدو الوحدة وكأنها قدر كتب على من يعيشون فيه.
– فى عملك قبل الأخير “عجائز قاعدون على الدكك” تعود للقصة القصيرة بعد تجربة كتابة رواية ناجحة حُزت بها جائزة متميزة، هل القصة القصيرة أقرب إليك أم أن حالة الكتابة هى تفرض وجودها؟
القصة القصيرة كانت أول كتاباتى وقراءاتى أيضا، بحيث يمكن القول إنها هى التى أدخلتنى عالم السرد، وعند الكتابة لا أضع تصورات معينة ومسبقة عن النوع الأدبى الذى سأكتبه، الكتابة هى التى تحدد ذلك، نعم يكون هناك فكرة مسبقة بأن ما تكتبه هو قصة أو رواية لكن تلك الأفكار أو الحسابات من السهولة أن تتغير وتتبدل أثناء مرحلة الكتابة.وجود رواية واحدة لى منشورة لا يعنى أنها عمل استثنائى أو هامشى بالنسبة لي، ربما يرجع السبب إلى أننى – فى تلك الفترة – كنت ما أزال فى بدايات كتاباتى وأن هاجسا بداخلى كان يهمس من وقت لآخر بأننى لم أكتف بعد من كتابة القصة، إضافة إلى أن القصة القصيرة كانت أسهل من ناحية النشر فى الصحف والمجلات، رغم ذلك كتبت روايات ولم أنشرها لعدم رضائى عن مستواها الفني.
– لديك مفردات عامية تبدو مفاجئة للقارئ، ألا تخشى أن يبدو استخدام تلك الكلمات وخروجها على اللغة الاعتيادية مغامرة؟
اللغة كائن حي، ووضعها فى درجة القداسة يمكن أن يتسبب بجمودها، ومنذ البداية كانت عندى رغبة فى الوصول إلى صنع علاقة حميمة مع اللغة، بمعنى تذوق الكلمة والاستمتاع بموسيقاها، عندما يصل الكاتب إلى تلك المرحلة يكون فى اعتقادى امتلك لغته الخاصة به، ولا أتخيل كاتبا يتعامل مع أدواته وأهمها اللغة بشكل جاف وقاس، فى هذه الحالة لن تمنحه اللغة أسرارها، وسيشعر طول الوقت بأن هناك مسافة بينه وبين ما يكتب، لا أقصد من ذلك الانسياق وراء جماليات اللغة أو الوقوع فى غوايتها، ولكننى أقصد إعادة استخدام الكلمات بمفهوم جديد أو منحها هذا المفهوم، الأمر أشبه بمنح الحياة لبعض المفردات المهجورة، وإعادة استخدامها بشكل جديد، فالكلمة تمتلك الموسيقى الخاصة بها، ما أحاول الوصول إليه هو إجادة العزف على تلك الموسيقي، بعض المفردات التى استخدمتها كانت فصحى لكن البعض ظنها عامية من كثرة استخدامها فى الحياة اليومية، وهو ما أثار دهشتى للفترة الصارمة والحادة.
– إلى أى مدى تؤثر نشأة الأديب على كتاباته. حيث يبدو فى أعمالك وكأنك تؤرخ للناس والحكايات والأرض التى تربيت فيها؟
المكان الثرى بالحكايات والأساطير والخرافات لابد أن يخرج لنا كتابا أو حكائين أو فنانين، وربما أكون أحد هؤلاء الحكائين، لن تندهشى عندما تجدين الناس البسطاء العاديين يحملون تاريخا شفهيا للمكان والناس من حولهم، والمفارقة أنهم يحكونه بشكل مشوق ومثير، ليس مهما هنا إذا ما كان هذا التاريخ حقيقيا أو متخيلا بالكامل أو هو مزيج بينهما، وإن كنت أعتقد أن به جزءا خياليا ليضفى نوعا من المتعة على الحكاية أو ليكمل نقصا فى الحكاية الأصلية، هذا الحكاء هو بطبيعته كاتب رواية لا ينقصه إلا أن يدون ما يحكيه.
فعندما تأتين من مكان “يؤنسن” فيه الناس كل شيء حتى إنهم يتعاملون مع حيواناتهم بشكل أقرب إلى الصداقة ويعتقدون أنها تفهم ما يقولون، أو أن يطلقوا أسماء على نخيلهم وأشجارهم، أو أن يحتفوا بالثأر باعتباره أحد قيم الفضيلة، أو أن يكون الاحتفاء بالموت أكثر من الاحتفاء بالحياة، مكان يجمع كل تلك المتناقضات بالتأكيد ستجدين فيه الكثير من الفن.
– فى روايتك “فانيليا” كتبت عن فتاة لها قدم صغيرة تمشى حافية وتصنع لنفسها عالما خاصا فى مدينة مزدحمة بالبشر، وهذه من تفاصيل حياة البشر. إلى أى مدى يكون المبدع مهموما بالناس؟
التفاصيل الصغيرة التى لا ينتبه لها كثيرون ربما هى التى تشكل صورة مكتملة للحياة، فعندما تمتلكين عين طفل مندهشة على الدوام ستجدين أن كل تفصيلة مهما كانت تافهة وغير مهمة للبعض، هى نفسها تبعث بداخلك نوعا من الغرابة والتساؤل، هذه العين المندهشة تستطيع التقاط تفاصيل المكان والبشر والاحتفاظ بكل ذلك ومحاولة وضع إجابات لأسئلة تتوالد بسرعة، الناس من حولك هم روايات حية، بكل تفاصيلهم وأزيائهم ولغاتهم وسماتهم المميزة وقدرتهم على التعامل مع الحياة، فى رواية “فانيليا” كانت البطلة تحاول فهم ذاتها والمدينة الكبيرة التى تعيش فيها، وأيضا امتلكت عينا مندهشة وفقدانها هذه العين يعنى الفناء؟ فهى وسيلتها الوحيدة للبقاء فى مدينة لا تتيح الوقت لتأمل التفاصيل.
– البنت التى تمشط شعرها) أولى أعمالك المنشورة صوّرت فيها فتاة تسرق كتاكيتها! والنيل فى حالات مختلفة، ما يعنى حضورا طاغيا للمكان سجلت تفاصيله بالكاميرا، فهل نجح الأدب فى التعبير عن الصعيد كما رأيته فى حياتك؟
الصعيد ليس مكانا واحدا ولكنه أماكن متعددة ومختلفة وبالتالى فالكتابة عنه لن تنضب، حتى تناول الكتاب له يأتى من منطلق المكان الجغرافى والكاتب نفسه، فمثلا “يحيى حقي” حين كتب “دماء وطين” وهو ابن المدينة كان مختلفا عن كتابات “يحيى الطاهر عبد الله” فى “الطوق والأسورة “وهو ابن قرية صعيدية، الاثنان تناولا العادات والتقاليد من زاويتين مختلفتين.
– مجموعتك القصصية الثانية “حضن المسك” بدت أقرب الى رواية تدور حول حكايات النساء والبنات وقهر الواقع لهن، لماذا لم تكن رواية خاصة أن القصص توالت كحبّات عقد لضمتها معا فى عنوان؟
ما كان يشغلنى فى تلك المجموعة هو الكتابة عن المرأة، والتى هى مرادف للحياة بكل هدوئها وصخبها وعنفها وجمالها، والتى هى دائما ما تحاول التحايل على أساليب قهرها للاستمتاع بالحياة، لم يكن يشغلنى وقتها كون ما أكتبه مجموعة أو رواية.
– فى أعمالك تكنيك مختلف وهو الكتابة الأقرب للقصيدة حيث تتحول القصة لعدة مقاطع لا تخلو من لغة الشعر، هل حلمت يوما بكتابة الشعر أم هو كسر لقوالب الكتابة التقليدية للقصة؟
تعامل الكاتب مع اللغة بحب ربما يقربه من منطقة الشعر، هذا القرب من اللغة الشعرية فى بعض قصصى ربما كان لحبى لقراءة الشعر أو لممارستى له فى البداية واعجابى بالشعراء والذين كنت اعتقد أنهم مختلفون بشكل ما، فهم يمتلكون شيئا لا يمتلكه كل الناس، وليس عيبا أن تكون اللغة قريبة أو تتماس مع اللغة الشعرية، فأنت هنا تحاولين التأثر بجماليات الشعر فى كتابة القصة القصيرة.
– إلى أى مدى يمكن اختزال اللغة لتعبر عن الفكرة خاصة وأنت تكتب القصة شديدة القصر وهل تراها صالحة لكتابة الفكرة بشكل يصل للقارئ؟
القصة القصيرة جدا كتبتها لفترة، وأعتقد أنه من الجيد أن يكون هناك تأثير وتأثر بين مختلف أنواع الفنون، فاستخدام تقنيات الشعر فى كتابة القصة من الممكن أن يفتح لها طرقا جديدة وآفاقا مختلفة، وكذلك الاستفادة من السينما أو الفن التشكيلي، واعتقد أن القارئ الذى يحب هذا النوع من القصص يقبع بداخله شاعر أو أنه محب لقراءة الشعر، فمتعة القارئ بنص، ما هى مسألة نسبية.
– أنتم جيل ربما أكثر حظا من الأجيال السابقة فأفاق النشر أكثر رحابة سواء دور النشر التى ظهرت خلال العشر سنوات الأخيرة أو النشر على المدونات والصحف، هل تعتقد أن ما سوف يتركه هذا الجيل من أعمال سيترك بصمة أو ربما يخلق كتابة أدبية مختلفة؟
أنا مؤمن بالكتابة الراهنة، ليس لأن النشر أصبح أكثر يسرا من سنوات القرن الماضي، لكن لروح التنوع بين الكتاب وأيضا لاقتراب المسافة بين الأنواع الأدبية المختلفة فى كتابات هذا الجيل، مما أدى إلى ظهور نصوص يتلاقى فيها الشعر مع السرد، أو يمارس الكاتب كتابة الشعر والقصة والرواية وربما السينما، هذا التجاور بين الأنواع الأدبية أو تداخل الأنواع الأدبية مع بعضها فى الكتابة هو الذى يمنحها مشروعية البقاء وإعادة لتعريف المصطلحات الأدبية والمفاهيم بشكل يصبح متلائما مع ما تتم كتابته الآن.كما أن رعاية الدولة لنشر الإبداع لم تعد ذات أهمية كما كانت فى الماضي، بسبب وجود بدائل أخرى للنشر، بالإضافة إلى أن دور النشر الحكومية تمتلك رقيبا خفيا يتمثل فى الكثير من المحظورات غير المكتوبة، يتم الحرص على مراعاتها عند النشر، وتبدو هذه المؤسسات بشكل ما محافظة فى اختياراتها. النشر الإلكترونى حل الكثير من المشاكل، بل ويصل إلى كل مكان فى العالم وليس مقتصرا على منطقة جغرافية معينة فهو عابر لكل الحدود، ولا يفرض رقابة على نص ما.
– أعمالك تبدو غارقة فى التفاصيل الإنسانية ولكنها تتجنب الخوض فى السياسة عكس الكثير من مبدعى جيلك،هل تعمدت تجاهل هذا الواقع أم أن ما تكتبه تراه سياسة بلون مختلف؟
تبدو لى الكتابة عن الأفكار الكبيرة غير جذابة، تبدو لى وكأننى أقوم “بتسويق” هذا النوع من الأفكار وتقديمها للقارئ لكى يؤمن بها. الكتابة عن المدينة هى بشكل ما كتابة تتناول الوضع الراهن الذى أعيشه، أن الكتابة عن الإنسان هى كتابة فى السياسة؟ قصة “موت موظف” لتشيكوف لم ترفع شعارات براقة أو هتافات ولكنها قالت وبشكل أدبى ما لم تقله الكثير من الكتابات السياسية. أنا جزء من الواقع الذى يدور من حولى فعندما أكتب عن ذلك الإنسان الذى هو أنا فهى كتابة عن الواقع الراهن بكل ما يحمله من سياسة وصراع.
– ما هو مشروعك الأدبى الجديد وما هو حلمك الذى ربما لن يتحقق الآن؟
صدرت لى منذ أيام رواية بعنوان “عن الذى يربى حجرا فى بيته” وتدور عن الوحدة والمدينة، تبدو لى العلاقة مع المدينة موضوعا يشغلنى هذه الأيام. بعده أفكر فى كتابة رواية تاريخية ربما تأتى فى مرحلة لاحقة.
– عندما تقدمت لجائزة ساويرس فى عام 2010 هل توقعت الفوز وقتها وكيف اختلف الوضع بعد فوزك بالجائزة؟
ربما أهم ما فى أى جائزة هو فرحة الأصدقاء وأن ما تفعله له مردود، الأمر أشبه بيد تربت على كتفك وتقول لك “استمر”. ويجعلك ذلك أكثر حماسا لتنفيذ مشاريع كانت مؤجلة.
أما توقع الفوز من عدمه فأنا لا أفكر بهذا الشكل، كل ما فعلته أننى أرسلت عملى فقط ونسيت الموضوع أصلا.