أتذكر لقاءنا الأخير، لم يكن الأخير تماماً، فقد ودعته على فراش المرض قبل أن يموت بأيام ذات مساء في الأيام الأولى من عام 2007، وكانت آخر جملة سمعتها منه: “دور وحش قوي”، يصف بها مرض موته، وكأنه بتوصيفه للمرض الأخير بالدور، يخفف قليلاً من روعي، ويطمئنني أنه سيتجاوز ويقوم. لكني كنت أقصد لقاءًا آخر قبلها بنحو شهرين.. كنت أستريح بين نوبتي عمل على مقهى الحرية في باب اللوق ظهيرة يوم جمعة، وجاء أسامة بخطوته الخفيفة، يحمل دائماً باكيت جديد من المناديل الورقية مع علبة سجائره “اللايت”. كان وقتها منهمكاً في كتابة فصول كتابه الجميل والمؤلم “كلبي الهرم .. كلبي الحبيب”، لكنه أسمعني يومها قصيدته الأخيرة المهداة إلى سهير زوجته. كانت قصيدة حب متأخرة، يعبِّر بها لسهير عن امتنانه العميق لحبها الكريم الذي تحمل مرضه الطويل ونزواته المتقلبة. نُشرت القصيدة آنذاك بجريدة الأهرام، وأعطاني أسامة المخطوطة أحتفظ بها الآن على مكتبي في المعادي بالقاهرة.
اللقاء الأول مع أسامة كان ربما عام 90 أو 91. وإن كنت قد التقيت بشعر أسامة قبل أن ألتقيه.. كنا لا نزال طلبةً في جامعة القاهرة نكتب الشعر، ونتردد على مقهى زهرة البستان كنقابة عامة للشعراء الصعاليك، فنرى من الجيل الأكبر إبراهيم داوود وابراهيم عبد الفتاح يلعبان الطاولة بلا انقطاع، وفتحي عبد الله يدخن الشيشة في ديمومة أبدية، فيما يطالع هشام قشطة العالم بنظرته القلقة من خلف نظارتيه الكبيرتين. تعرفنا آنذاك على بشير السباعي وأحمد حسان وصارا صديقين لنا. ومع بشير رأينا شيخاً أنيقاً يرتدي بذلةً كاملة، بشعر مرجل إلى الخلف كأجانب العصر الماضي، عرفنا فيه أنور كامل، آخر الباقين على قيد الحياة من جماعة “الفن والحرية” الفرع المصري للحركة السوريالية العالمية. كان أنور كامل يحرر مجلةً على المقهى يسميها “الفسائل” عبارة عن ورقتين يصورهما بالفوتوكوبي ويضمنهما مختاراته من الشعر والنثر العربي أو المترجم. وفي ذات يوم حصلنا على إحدى تلك الفسائل، وكانت تضم قصائد لجيل جديد من الشعراء في الإسكندرية: وعرفنا اسماء مهاب نصر وناصر فرغلي وعلاء خالد وأسامة الدناصوري. لم يكن ثمة انترنت بعد، ولم تكن مجلات الهامش التي حملت إبداعات جيلنا والجيل الأكبر قليلاً قد انطلقت، ولم تكن هناك حتى “أخبار الأدب”، فكانت فسائل أنور كامل هي الوسيلة الوحيدة للتعرف على شعراء لا يبعدون عنك سوى 270 كيلومتر، وهي ما حمل لنا ذلك النفس المختلف القادم من الإسكندرية.
بعدها بنحو أسبوع ظهر علاء خالد وأسامة على زهرة البستان قادمين في زيارة من الإسكندرية، وتعرفنا إليهم أنا وأحمد يماني ومحمد متولي. علاء طويل القامة وغزير الكتابة يكتب قصائده بخط منمنم في ورق أبيض كثير يحمله في حقيبته، بينما أسامة قصير وأنيق مقلٌ في كتابته، وكل قصيدة جديدة له حدث في حد ذاته. وعرفنا كذلك أنه يعيش بصحبة مرض في جهازه البولي منذ صباه ـ سيتطور فيما بعد إلى فشل كلوي. كانا كلاهما من مواليد 1960 أي أنهما يكبراني أنا بتسعة أعوام ويكبران يماني ومتولي بعشرة.
ستتوطد علاقتنا بالشاعرين الصديقين، عبر زيارات متقاطعة بين الإسكندرية والقاهرة. حتى ينتقل أسامة نهائياً إلى القاهرة نحو عام 1994 ويستقر بمنطقة فيصل جاراً لأحمد يماني وايمان مرسال وهيثم الورداني ومحمد بدوي.. كل هؤلاء عاشوا خلال فترة التسعينيات بمربع سكني واحد. واليوم، لم يبق ولا واحد منهم في ذلك الحي الكئيب.
ولد أسامة بقرية “محلة مالك” بمحافظة كفر الشيخ، وعاش بمدن دسوق والإسماعيلية، وفي الإسكندرية عاش بشقة جميلة تشرف على محطة سيدي جابر من طابقها التاسع، ثم إلى القاهرة. ولم يغادر مصر سوى للسعودية التي عمل بها فترة كمدرس للعلوم بنهاية الثمانينيات.
أنجز أسامة خلال فترة إقامته في فيصل، التي استمرت اثنتي عشر سنة، ديواني “مثل ذئب أعمى” 1996 و”عين سارحة وعين مندهشة” 2003، وكان قد أصدر أيام كان في الإسكندرية ديوانه الأول “حراشف الجهم” والذي بدا في مرحلته القاهرية وكأنه تبرأ منه ومن قصائده، لكن ذلك لم يمنعه من نشر ديوان “على هيئة واحد شبهي” عام 2001، الذي ضم قصائد عامية قديمة، وهي قصائد أقدم ربما من ديوانه الأول وتعود لبواكير شبابه، وقد أضاف لها قصيدة عامية وحيدة كتبها لاحقاً في رثاء الشاعر مجدي الجابري.
وقد عرفنا ملمحاً خفياً في شخصية أسامة، كشفه في كتاب “كلبي الهرم…” وهو شاعر العامية الاحتفالي، فهو يحكي في أحد فصول الكتاب عن أيام إقامته اثناء سنته الجامعية الأولى بمدينة الإسماعيلية؛ وكيف كان يلقي شعره العامي في مهرجانات ترفيهية للطلبة، بل وصل به الأمر إلى تقديم فقرة غنائية في إحدى المرات. ويبدو أن انتقال أسامة بعد ذلك مباشرةً إلى الإسكندرية قد غير شخصيته تماماً: فهو لم ينتقل فقط لكتابة الفصحى، لكنه تحول إلى شاعر يحمل مفهوماً “ثقيلاً” وجاداً للشعر. ويقول أسامة في نفس الكتاب: “لقد ظللت طول عمري، وما زلت، أعد نفسي، ويعدني آخرون، شاعراً (…) كنتُ أسكن أرض الشعر، وأعتبر نفسي مواطناً من الدرجة الأولى. ولأن أرض الشعر أرض فوق واقعية، فهي ليست هي بالضبط في عين كل قاطنيها. فالبعض يراها واحة خصبة، وأرضاً مثمرة، وأشجاراً خضراء طوال العام. والبعض الآخر يراها جرداء وعرة. يظل يسير فيها فراسخ وأميالاً، عابراً السراب تلو السراب، حتى يظفر في النهاية بشجرة وحيدة، تتدلى منها ثمرة واحدة، يتفأ ظلها قليلاً، ثم يعاود السير، بعد أن يبتل ريقه بالعصير الحلو، وتهدأ معدته.. كلا البعضين يشفق على الآخر.. فالأول من فرط إشفاقه على الثاني لا يراه. أما الثاني، فإنه يرى الأول جيداً، ويعرف كم هو بائس. ويعرف أيضاً أن ما يكنزه من ثمار، ماهي إلا (زنزلخت) لا يصلح لشيء.”
هكذا، كان أسامه يرى نفسه بالطبع من الفريق الثاني، وهو ما يفسر قله إنتاجه، وتوقفاته الطويلة عن الكتابة.. ويقول عنه الشاعر عباس بيضون: “إن هذا هو الشاعر نفسه الذي يبقى شاعراً كتب أو لم يكتب، ولفرط ما يتأخر عن الكتابة تنسى أنه فعلها ذات مرة أو مرتين..”.
وفي أسابيعه الأخيرة، اكتشف أسامة قدرته على كتابة السرد بشكل متدفق. وراح يكتب فصول “كلبي الهرم..” متلاحقةً، يكتبها ـ كما يقول محمد بدوي ـ “كأنه يأكل في آخر زاده، بتوتر وانهماك وسرعة. وكلما أنجز فصلاً حمله معه أينما حل، وبثه للأصدقاء البعيدين، وألقاه على القريبين، كما يلقي شعره…”. وينتهي الكتاب على مشهد تجدد الأمل في قهر المرض بعملية زرع الكلى. هل أنهى أسامة الكتاب. أم تم انهاؤه تقريبياً؟ لو امتد العمر بأسامة، لامتدت معه ـ فيما أعتقد ـ صفحات الكتاب.