في “خيال ساخن”.. قلب يرتل صلواته على شرفات الهوى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سوزان محمد علي

فصول أربعة تميزت بتدفق دافئ للأمل الذي يرافق الروح منذ فجر التاريخ، بحثاً عن شطرها الآخر بين تفاصيل الحياة، ودقائق الزمن، ووحشة المسافات، لتجده بعد حين، وتحيا ربيعاً من الهيام ينبت مواسماً من الحب في قلب طفولي أبى إلا أن يتعرف على أبجدية العشق الأول.

ذاك القلب الذي بات يرتل صلواته على شرفات الهوى، فتح نافذته على الذات، أطل على نفسه ليرى خلاياه مشبعة بالآخر، صهره الحب في أتونه، أعاد تشكيله من جديد، وجد أسطورته الذاتية مع نصفه التائه، أبصر الكون جميلاً، ومتناسقاً بكواكبه، ومختلف مظاهره الحية والمستكينة، الضعيفة والقوية، في مجرة يحكمها التناغم والانسجام: "اندفعت الفراشات في وهج النور.. نامت في هدوء وكلما خلت قلوبها من شحنة الدفء، تعود من جديد، تندفع في نار العناق لتنهل منه ربيعاً آخر وألف حياة جديدة".

تلك هي الرؤية التي يقدمها لنا الروائي المصري محمد العشري في روايته الأخيرة “خيال ساخن” الصادرة عن “الدار العربية للعلوم” في بيروت، بأسلوب حريري الصدى، ومعجم لغوي مزدحم بالتفاصيل، تجولت مفرداته بخفة الطائر، ورشاقة الماء، وبصياغة حميمة ينبع إيقاعها من تناغم الفكر والروح، ليصب في قلب القارئ ووجدانه.

لقد شكلت علاقة الكاتب بالمرأة على امتداد العصور مصدراً أساسياً من مصادر الإلهام، والخلق الأدبي، ولا تزال تلك العلاقة ترفد الأدب العالمي بأجمل روائعه التي أذكتها النيران العظيمة للحب الإنساني المتدفق في آلاف المسارات.

والحب حاضر بقوة في رواية محمد العشري، والاستسلام اللذيذ له حول النص إلى مساحة للبوح الجميل، في ظل أسلوب نثري راق، ارتفع بالرواية إلى تخومها القصوى في فصليها الأخيرين، متوئماً بين الواقع والخيال، بين قوة المعنى وبهاء الايقاع: “منذ الأزل وكلانا يبحث عن الاخر، في أحراش الدنيا وغابات الشجر، منذ الأزل وأنت أنت تذوبين رقة وتتوهجين حناناً، ولا تخدعك أقنعة البشر”.

وعلى الرغم من الانسياب الدافئ، يرمي الكاتب بدقة تشخيصية، توصيفية، تصيب هدفها دون أن تشطح وراء الخيال، بل تقود القارئ من خلال الأحداث والأمكنة والتعبيرات المشهدية، ليقبض على المعنى قبضاً حسياً لا يشوبه التباس.

لعل أبرز ما يمكن الإضاءة عليه في “خيال ساخن” بالاضافة إلى الأسلوب السردي اللطيف حتى بلونه التاريخي، هو المسافة الملتبسة بين الخيال والواقع، بين الذات والرواية عندما يمتزج نبض الأحرف، وحفيف الكلمات، وتدفق المعاني بأفكار الكاتب وتصوراته واستيهاماته، ولمساته الخاصة، فكأننا أمام كينونة واحدة يكاد فيها محمد العشري لا ينفصل عن نبرة الكتابة، لا سيما حين يوظف الكثير من جماليات الصياغة، وتقطيعاتها، وصورها البيانية داخل الفصول الأربعة، ما أكسب النص مزيداً من التأثير، والوقع الساحر، والبريق الذي يشع من عمق الروح.

إنه البريق الذي يتقدم إلى ساحة الكتابة عارياً من القوالب النمطية ومن كل شيء، إلا معدنه الأصلي وقوة انبثاقه، يزيدها توهجاً تلك المشاعر الصادقة، والرؤية السامية، لأقدس ما تنطوي عليه الذات الانسانية: “ذلك الخيط الرفيع الذي نبت بيننا لأول وهلة وقد لمسته بالأمس حين وضعت أصابعي في فضاء الكون، وتضخم سريعاً في القلب حتى أصبح بعمر نجمينا، الساهرين على حراسة روحينا منذ خلقهما الأول”.

مقالات من نفس القسم