وتؤسس هذه الرواية فرادتها منذ عنوانها الشيق “تصريح بالغياب” الذى يجعل الغياب فيها شارة الحضور المستمرة، وليس نقيضه، فالكتابة فى هذا النص السردى الجديد هى كتابة الحذف والإضمار قبل أن تكون كتابة الإيضاح والإثبات. أو هى كتابة ذات مقدمات ضافية محذوفة كما يقول أستاذنا يحيى حقى وتتكون هذه الرواية الجديدة من 36 فصلا. وأنا أسميها فصولا مجازا، لأن بعضها لا يزيد على الصفحة الواحدة وأطولها لا يتجاوز الصفحات السبع فما تقدمه لنا هذه الفصول يختلف كثيرا عما اعتدناه من فصول الروايات القديمة التى يتطور بها الحدث، وتتبلور عبرها الشخصيات وتتجسد أمامنا شبكة علاقاتها فنحن هنا بإزاء سرد الصور والمشاهد التى تتكون منها بنية النص الفسيفسائية بدلا من سرد الأحداث التى تتابع فى تسلسل منطقى وترابط سببى. فالترابط هنا كيفي أو موضوعى أكثر منه سببيا. إننا بإزاء سرد مشهدى يهتم بتشكلات الصور وبما تنطوى عليه حركة.
إنه سرد ينبثق عن الوعى بأن العالم ليس مصاغا بشكل سببى مترابط، وإنما مكون من جزئيات كثيرة متجاورة وغير مترابطة ظاهريا على الأقل، وبالتالى فإن على النص أن يكون كذلك، ليكشف مدى تفكك العالم بدلا من أن يضفي عليه تماسكا مزعوما.
وتقدم لنا هذه الرواية خبرة حميمة بالرغم من هذا كله، هى خبرة الكاتب “الراوى” اللا بطل أثناء تجنيده فى المستشفى العسكرى، وفى مدرسة التمريض الملحقة به على وجه التحديد، لكن الرواية لا تكتب هذه الخبرة على أنها دراما خطية متتابعة الأحداث والحلقات. يلهث القارئ فى متابعة ما يدور فيها بمنطق استثارة التوقعات وإشباعها بطريقة تثير توقعات جديدة وهكذا، بالرغم من إغراءات السياق بكتابة من هذا النوع، فنحن فى عالم مزدحم بشبان وشابات فى مقتبل العمر، واقع فى قبضة سلطة غاشمة، يسعد الجميع بالتمرد عليها. وهو لذلك عالم يغرى الكاتب العادى بكتابته بطريقة واقعية مليئة بالمغامرات المحتملة والمحبطة مترعة بالإثارة والإيحاءات المخافتة التى يسيل لها لعاب القارئ ولكن منتصر القفاش – كغيره من كتاب جيله الموهوبين – يعى أن كتابة مثل هذه الخبرة بهذه الطريقة القديمة تنطوى على تصور يقينى للعالم يزعم السيطرة عليه والتحكم فيه، لا يشكك فى معاطياته، ولا يطرح عليه أسئلته ولذلك يكتب فى روايته الجديدة هذه الخبرة على أنها حالة عارية من أى يقين، مفتوحة للأسئلة والشكوك، كتابتها نفسها ليست نتيجة تصورات عنها، ولا هى بنت الوصول إلى قناعات راسخة إزاءها، وإنما هى الطريقة الوحيدة لفهمها واستيعاب تشابكها، ولم شتاتها المبعثر كجسد أوزوريس على عشرات المشاهد، وفي عشرات اللحظات والتجارب والخبرات الحسية منها والمعنوية.
كتابة الحالة – المشهد
وإذا كانت كتابة الخبرة على أنها دراما تتطلب تلقيا سلبيا من القارئ لأن كل شئ صيغ وتبلور وعليه تلقيه كما هو، فإن كتابة الحالة – المشهد تتطلب قراءة مغايرة كلية. ينهض فيها القارئ بدور فاعل يعيد فيه تجميع الجزئيات، وتكوين الصورة، وتأويل مفردات المشهد، واستنتاج شبكة العلاقات النفسية والاجتماعية والتراتبية الثاوية فيه. إنها قراءة تصنع بوصلتها التى تخرجها من المتاهة التى يحرص النص على وضع القارئ فيها منذ الصفحات الأولى. حيث تبدأ الكلمات الأولى من الرواية بإعلان “لم يكن الدخول سهلا” دون أن تكشف لنا عما تعنية بالدخول أهو مجرد الدخول إلى المعسكر؟ أم إلى الحجرة التى يقبع فيها الدولاب الإيديال الذى ينطوى على روايته؟ أم إلى عالم التجربة الواسع الذى يسعى النص لسبر أغواره؟ أم إلى حقيقة ما يدور فى عالم الرواية وراء مظهرها البادى؟ لأن الفصل الأول نفسه يعلن أن هذا الدخول غير السهل هو إلى عالم يدرك قبل أن يدلف إليه أنه عالم من النيام “لن يكون أحد مستيقظا”، ومع ذلك فإن الداخل يطرح من البداية هويته الملتبسة إزاء عالم النيام هذا: “لم أكن أعرف بماذا أجيب لو رآنى أحد وسألنى: أنت مين”؟ وصاحب هذه الهوية الملتبسة هو الراوى – البطل – الكاتب المضمر – بل الكاتب الفعلى أيضا. ولا يلبث هذا البطل الرواى أن يجد نفسه مرة واحدة فى قلب عالم – كابوس تخيل أنه قد تخلص منه أو طرحه عن نفسه إلى الأبد. وليس هو وحده الذى يدخل هذا العالم الكابوسى. وإنما يصحب معه القارئ إلى متاهاته كذلك فالرواية مليئة بالمتاهات، من متاهة الأبواب (ص11) إلى طقس جمع الورق من حوش المكتوب بتفاصيل قص المدرسة الشيئية الفرنسية التى تركز على التفاصيل المتناهية الصغر، حيث يتحول السرد إلى أداة لخلق متاهة، وليس إلى أداة لبلوغ هدف.
فالراوى/ البطل/ الكاتب المضمر يجد نفسه فجأة أمام السلطة الغاشمة التى تأمره بتسلم خدمته، بالرغم من انتهاء مدة خدمته فى الجيش، وأنه لم يعد على قوة المدرسة كما يقول، لكن الشاويش لا يعبأ بذلك كله، ويشرع فى تهديده بالسجن لو لم يفعل. أهو بالفعل يحلم أم أنه دخل بقدميه إلى قلب كابوس لا فكاك منه ولذلك يذعن للضغوط، ويستخدم فى ذلك “كأن” الافتراضية أو بالأخرى الاستدراكية ليشحذ عبرها ذهن القارئ ويرهف وعيه بأن ما يراه ليس إلا عالما يتخلق تحت سحر هذه “الكأن” القادرة على المعجزات. لأنها كأن الإبداعية قبل أن تكون كأنم الافتراضية.
ازدواجيــــة والتبــــاس
وتتأكد هذه العلاقة الملتبسة بين الرواى/ البطل والعالم عندما يبدأ الفصل الثانى برديف آخر لكأن. وهو هذه المرة “مثل” لأن بداية الفصل تقول: “مثل من يغنى أغنية، يحاول تذكرها أثناء غنائية” يحاول أن يوجدها كما من قبل. ودوما وهو يغنيها يحاولها تأتى أغنيات وأغنيات. مثل من”؟ (ص11) لتقدم لنا هذه البداية مفتاحين أساسيين فى قراءة هذا النص: أولهما هو هذه الازدواجية بين الرواى وبين هذا الرديف الذى أصبحه: مثل من؟ أو كأنه شخص آخر كما عرفنا فى الفصل السابق، وثانيهما أن الرواية نفسها مثلها فى ذلك مثل الأغنية موضوع التذكر يتم تذكرها خلقها أوإيجادها أثناء محاولة تذكرها وغنائها، أى أن هذا الالتباس نفسه جزء من عملية خلق الرواية ومن طبيعة الحالة التى تنتجها لدى قارئها. لكن ما هى هذه الرواية المفقودة التى بدأ النص باستنقاذها من قبضة هذا العالم الغاشم؟
إذا حاولنا التعرف على حقيقة الرواية المضمرة. أو حتى تجميع شتات هذا العالم. أو البحث عن المنطق الذى يجمع هذه المشاهد الـ 36 التى تقدمها لنا الرواية سنجد أننا بإزاء عالمين: عالم العساكر المجندين وعالم البنات تلميذات مدرسة الممرضات الملحقة بالمستشفى العسكرى. عالم النساء وعالم الرجال وشبكات القوى المختلفة التي تتغلغل فى نسيج العلاقات التى تربطهما، أو تسفر عن نفسها عبر لحظات التماس القليلة بين العالمين. لكننا نستطيع تأويلها أو تجميعها على محور استقطاب مغاير هو محور الاستقطاب بين سلطة المؤسسة التى تقف على رأسها المقدم/ المرأة الغامضة والتى تجمع بين يديها خيوط السلطة كلها وعالم الخاضعين لها من الجنود الصغار وطالبات المدرسة معا، والراغبين فى التمرد عليها، وانتهاك بنية الروادع والموانع والتعليمات التى يحصرون الجميع فى قفصها الحديدى. وهناك تأويل ثالث يجمع أشلاء هذه الصور الموزعة حول محورين آخرين هما محور الفرد/ الراوى/ العسكرى المستجد ورغبته فى فهم العالم واستيعاب التجربة. ومحور العالم المبهم الغامض المحيط به، والذى كلما ازداد معرفة به واشتباكا بأحداثه ازدادت حيرته إزاءه وتبدد يقينه بفهم أى من جزئياته وهو تأويل تدعمه علامات كثيرة داخل النص أهمها أن الراوى/ المجند/ المدرس/ كتب عليه دائما القيام بدور البديل. بدور “مثل من” وحرم من لعب الدور الأصلى. والدور الأصلى هو دور المدرس. وهل يمكن القيام أصلا بدور المدرس بلا يقين، فالتدريس نفسه هو مهنة نقل اليقين من جيل إلى آخر. ونقل الحقائق الثابتة من فرد إلى آخر… وهل ثمة يقين فى عالم الرواية العربية المعاصرة؟ بل هل ثمة يقين فى العالم الذى تصدر عنه هذه الرواية وتتوجه منصها إليه؟
التراتبـــات المقلوبـــة
ومهما كانت نوعية تصورنا لهذا العالم. ومهما كانت طبيعة إجابتنا عن أسئلته الملحاحة فأننا سنكتشف فور التغلغل فى فيافيه أننا بإزاء عالم التراتبات المقلوبة فى هذا العالم تتربع المرأة على عرش السلطة فنجد أن المقدم/ المرأة هى الضابط الذى يقف على رأس هرم السلطة فى المدرسة/ المؤسسة العسكرية/ الجيش بينما الرجال يعمرون بقية درجات هذا الهرم، ويقبع معظمهم فى سفحه. من الصول وحتى العساكر المجندين بما فى ذلك الراوى/ البطل/ الكاتب نفسه وإذا ما احتلت المرأة قمة الهرم فى عالم ملئ بالرجال فإن كل إشارة منها وكل نأمة أو لزمة أو هفوة، أو حتى عثرة لسان. سرعان ما تتعرض للتأويل والتفكيك والاختلاف. لأننا هنا بإزاء عملية تفكيك شفرات الأنثى وتفكيك شفرات المؤسسة فى آن.
لذلك كان من الطبيعى أن توصف المرأة المؤسسة بأنها “قليلة الكلام” تكتفى بإشارة من يدها أو رأسها، إشارات تحسن استخدامها وكأنها جمل كاملة واضحة إلى حد أنك لم تشعر بندرة سماعك صوتها وتظل تلك الإشارات بين العساكر فى جلساتهم يتذكرونها يقلدونها ينطقونها “كان قصدها” (ص14) فالمرأة هى موضوع تفكيك هذا النص بلا نزاع، بالرغم من وعى الكاتب والقارئ معا بتناقض هذا المنهج الذى يسعى لتفكيك المرأة بينما يحافظ فى الوقت نفسه على مكانها باعتبارها شخصية عامة وهذا التناقض الجدلى الخلاق هو الذى يثرى بنية التراتبات المقلوبة بالدلالات وهو الذى يدفع قارئ هذه الرواية لأن يتساءل: ما هى دلالة أن يسمى الجنود الشباك المغلق بالست (ص15)، بمعنى أن تحول المرأة إلى مصدر للسلطة يغلق أمام الرجل إمكان الإطلال من خلالها على العالم الطبيعى عالم العلاقة بين المرأة والرجل.
مــا بعــد الحداثــة
ويرى أومبيرتو إيكو أن كل من يتصرف وكأنه وعى درس ميشيل فوكو بأن القوة ليست شيئا موجودا بصورة مستقلة خارجنا يعد ما بعد حداثى وأن كل من وعى درس جاك ديريدا عن النصية والإرجاء واللغة العارية من البراءة هو الآخر ما بعد حداثى فالمنطلق الذى تنطلق منه هذه الحساسية الأدبية الجديدة التى تصدر عنها هذه الرواية منطلق شكى واحتراسى فى المحل الأول. يطرح كل المقولات اليقينية والافتراضات المسلم بها عن الأعراف والمواضعات الاجتماعية منها والأدبية وراء ظهره ويعى مدى ما فى الأشياء والمواقف والشخصيات من التباس وازدواجية. ويدرك أن المعنى يتخلق فى اللغة من خلال الاختلاف وإرجاء اليقين فهى حساسية تعتمد على التجاور بين الذاتى التأملى والواقعى التاريخى والتجاور هنا هو التجاور المحايد الذى لا يؤكد أحدهما على حساب الآخر. كما فعلت الواقعية فى تأكيدهال للواقعى والموضوعى على حساب الذاتى أو كما فعلت الحداثة فى إعلانها لشأن الذاتى والفردى على حساب الموضوعى والجمعى. إنه تجاور محايد يبلغ فيه الحياد درجة اللامبالاة المطلقة بكليهما فالحياد البادى الذى يتجلى فى كل النصوص ما بعد الحداثية ليس خاليا من المواقف ولكنه ينطوى على رفض قطعى لكل المواقف الأحادية واليقينية المسبقة ويطرح بدلا منها الشك والتعددية.
والواقع أن تعدد الاحتمالات التأويلية من أهم ما ينطوى عليه هذا العمل. لأن سرد هذه الرواية من النوع المترع بالمعانى والدلالات. وهو سرد يعى درس ميشيل فوكو بأن علاقات القوة ليست خارجنا، ولكنها فى داخلنا، تعبرنا وتتخلق بنا، وتتغلغل فى نسيج علاقاتنا وتصوراتنا، ولا تنقض عليها من خارجها. لأنها لا تحل محل الفرد، وإنما تحل فى داخله، بمعنى أن العساكر المجندين هم الذين يخلقون سلطة فى داخلهم دون أدنى محاولة خارجية منها. ولذلك يسعى السرد للتعرف على دوافع الأحداث والشخصيات، ويرسم شبكة علاقاتها المعقدة مع غيرها من الشخصيات ولعبة القوة التى تسيطر عليها.
ومن خلال هذه اللعبة تتعرف على عالم شيق تنقلب فيه التراتبات من أجل الكشف عما فى التراتبات القديمة من جور وتحيز لأن الرواية تكشف لنا أن السلطة تتوهم أنها تسيطر على الواقع، بينما يتسرب الواقع من بين قبضة الجميع فيها، فبالرغم من تلك السيطرة العسكرية، فنحن هنا فى عالم الجيش، والجيش كما يعرفه لسان العرب ” نبات له قضبان طوال خضر، مملوء حبا صغيرا، والجمع جيوش ” كما يقول استهلال الرواية، فإن الرواية مليئة بلحظات الترامق وتطاير الشهوات فى جميع الاتجاهات، واستراق المداعبات واللمسات المحرمة واللقاءات المختلسة والمصادفات المدبرة وكل الأحداث والجزئيات الصغيرة التى تفكك من خلالها الرواية علاقات السلطة ومفهومها ذاته.
ومن أجمل شخصيات هذه الرواية الحافلة بالشخصيات بالرغم من قصرها النسبى شخصية أمل/ أو الست أمل التى سبق أن فصلت من المدرسة لتغيبها المتكرر ص37/ 38 نموذج لما يحدث لمن لا يطيع القوانين أو لمن يطرد من جنة المقدم. فأمل هى هذا الطيف الذى يطل على الرواية من العالم الخارجى. طيف يدرك مدى الحرمان من هذا العالم والطرد من فراديسة التى يريد الجميع اختراق أسوارها، ولا يطيق أحد الطرد من جنتها. فقد تمردت أمل كما تمردت سعاد وكما تسترق البنات لحظات قليلة مسروقة ولكنها غالت فى تمردها. الرواية فى جميع الأحوال هى رواية هذه المراوحة المستمرة بين الانصياع للسلطة والتمرد عليها، وهى رواية الالتباس بين الواقعى والخيالى، وهى قبل هذا وبعده رواية تقديم العالم من منظور سيطرة المرأة فى جل أقسام الرواية دون إغفال تأثير هذا كله على الرجل. وهى لهذا من أكثر روايات التسعينات تأثيرا على القارئ ومن أكثرها انشغالا بالرأى العام. لأن هذا الأنشغال هو وثيقة تأمينها ضد التدهور والتردى والدمار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد مصري