توجه إلى بنسيون فقير، معزول،لاعداد خطته بشأن فرصته الثانية للحياة،يذكره الأمر بخروج زميله نور الشريف من السجن فى فيلم كتيبة الإعدام،مفلسا،محاصرا بوصمة الخيانة،أعجبه الأمر،كان يتمنى أن يلعب هذا الدور،نصف فرصة فى بطولة،لقد أهدروا ما يملك من وسامة،موهبة،فى لا شىء،ضابط يكافح المخدارت،أو مجرم يتاجر بها،حتى حياته جعلوها كذلك:كان يحب المخدرات،وعليه أن يتحدث عن كرهها فى الأحاديث الصحفية،عن خطورتها على أخلاق المجتمع،لم يعرف أحد أنه مثل هاملت،وبهر النقاد بأدائه فى فيلم إيطالى، وأجبر الخواجات على التحدث عن الموهبة التى فركتها الطاحونة فى مصر،وبرر للنقاد المصريين التفاخر:
“هذا هو الممثل المصرى، فقط لو أتيحت له الفرصة سيجعل من حوله يشعرون بضآلتهم”.
طحنوه،فغلف نفسه بكبرياء يصعق من يقترب منه،مشهرا كرامته وتعاليه كمطواة فى كل مناسبة،انتقامه الخاص،حتى شلة المخدرات من الممثلين،لم يعفهم من احتقاره لهم،لكنهم كانوا يعرفون طيبة قلبه المختبئة كلؤلؤة لم يكن يكشفها الا عند نقطة النشوة التى يصل إليها عبر المخدر.
لم يتعرف عليه أحد فى البنسيون،فقد كثيرا من وسامته،أصبح أقصر بكرش ضخم يتقدمه وزبيبة صلاة ولحية،أصر القائمون على الأمر على تنكره فى تلك الهيئة:إن حاولت تغييرها،ستموت ثانية.
يعذرهم وهبة،لا يجب أن ينتشر بين العامة:أن عودة الموتى أمر ممكن،لا تتعلق هيئته السنية بإجادة التدين،بقدر إجادة التنكر.
شىء واحد كان يضايقه بشأن هيئته الجديدة،لم يكن مثبتا بشكل جيد،أطراف مفككة،قد تقع منه فى أى وقت،رأسه وقعت ذات مرة فى مشهد فضيحة،كادت قطة أن تأكل ذكره،عندما سقط أسفل طاولة مقهى،ساعده طفل على ثبيت ساقه اليسرى.
الزمن تغير،قال وهبة لنفسه.كان الناس سيصدمون حقا،من مشهد كهذا فى حياته السابقة،لكنهم تعاملوا مع الأمر بعادية أزعجته،ثمة شىء مقتول فى هذا العالم،كيف يؤسس لحياة جديدة فى عالم كهذا.
عندما أغلق باب حجرته عليه،قرر أنه لن يستسلم للكسل،وسيسلم خطته للحياة،للقائمين على الأمر،كان “الديد لاين” الذى حددوه له قد اقترب،لم يكن يفكر طيلة ثلاث شهور مضت سوى فى البحر،كلما جلس وبدأ فى كتابة خطته، متحاشيا المحظورات الثلاث: التمثيل، المخدرات،..وال…لم يخبروه بالثالثة، تركوها له كفخ.
بدأ فى الكتابة،لكن لا شىء سوى البحر،القلم يتحرك من تلقاء نفسه،سود صفحات كثيرة لا تحمل سوى كلمة البحر،ظل على هذا الحال،حتى شعر بدوار،ثم ميل قاتل إلى النوم،ميل يرعبه،فهو يعنى العودة إلى الموت مرة أخرى.
قبل أن يسقط نائما،واتته الفكرة اللامعة:لا فكاك من البحر.
—–
سناء
ثمة أشياء كثيرة تميز المقدم سناء، فهى عانس،قوية،تملك صوتا ذكوريا،وجسد مصارع رومانى،خشنة،سليطة اللسان،وحيدة،لا تعرف اللوع،يخشاها الرجال والنساء والأطفال والديناصورات،لا تتوانى عن اهانة شخص ترغب فى تقويمه،تكنيك الشلوت ودفع الكتف بقوة ثم الضرب بسيف اليد على الظهر هو شعارها،لا تفضل الصفع،فهى تعرف القواعد:المؤخرات مباحة،لكن الوجوه قد تدفع الآخرين للتساؤل بشأن أحقيتها فى استخدام ما يميزها.
لكن الشىء الذى يميزها حقا وتحب أن تعرف به:أنها على بعد خطوات من وزارة الدفاع،لا ترتدى البيريه،بشجاعة لا يملكها لواءات كبار،لواءات قد يتعثرون فى كروشهم اثناء الجرى،حتى لا يراهم المشير،اذا قرر أن يزور المستشفى القريبة من مكتبه.
فى مستشفى القوات المسلحة،تفكر فى آلية جديدة لليوم الاسثتنائى الذى يتكرر مرة كل ست أشهر، ستقابل اليوم دفعة جنود جديدة من الصيادلة،لا طقوس خاصة لسناء،لا تقرأ الأدعية،لا تذهب مبكرا عن موعدها،الطقس الوحيد ربما هو التفكير فى آلية تحميها من أى مفاجآة ما،عبر ثلاثة عشر سنة فى منصبها ككبير للصيادلة فى مستشفى القوات المسلحة،وثلاثون عاما فى الجيش،بعد أن انتهت من دراسة الصيدلة،كان كل شىء يصب فى صالح أنها لا تحتاج إلى آلية جديدة،فقد مر عليها كل شىء: الهادىء، والمتمرد، والغاضب، والمتعالى،والمتملق، والمتكيف، والقابل لعقد صفقة لانقاذ مؤخرته…تملك طريقة لا تخيب لكل حالة.
لكن ثمة شىء ما ينخر روحها،ماذا لو مر عليها ما لم تعرفه،ما لم تصنفه تحت اسم،ما لا تعرف كيف تضعه فى المفرمة،سواء باهانته او باحتواءه.
جاءتها الدفعة الجديدة،كانت على عكس ما توقعت،تحرر منها اليوم:عشرون جنديا،ولم يرسلوا لها سوى خمسة فقط،كانت اعتادت أن لا يقل عدد من يقعوا تحت أسرها عن من تحرروا بلبس الملكى،على الأقل ليس بهذا الشكل.
اعتادت أن تترك الدفعة المستجدة يومين أو ثلاث قبل أن تقابلهم،كى يسمعوا عنها أساطير الرعب والدم،التى حرصت على دعمها.
لكن ذلك اليوم،قررت أن تبادرهم برؤيتهم مبكرا،عليها أن تسد العجز،بسرعة،على الخمسة أن يتحملوا عمل عشرين صيدلانيا.
اصطف الخمسة،قرأت ثلاثة منهم بلا مجهود:أولهم لئيم،قادر على التمرد إذا شعر بالضعف،ثانيهم مستسلم لأى اهانة محتملة لذا لن تتورع عن ايذاءه طيلة الوقت فهو غنيمة مجانية،الثالث كرامته منتصبة كقضيب يجب كسره،أجلت استكشافها للمجندين الباقيين.
كل الطرق تؤدى إلى ما تريد،لم يكن سؤالها بأى ضحية تبدأ،لكن عينيها كانت تبحث عن حبيبها،المجند السنوى،الذى ستمنحه كل حنان ممكن،تفضله بغشم على الآخرين،تمنحه الرحمة،ينجز أكثر المهام انسانية وراحة،مسامرها وقت الضيق والتبسط ،كان عليها أن تجده من هؤلاء الخمسة،فقد تحرر حبيبها الأخير،ارتدى الملكى بزهو ورحل دون أن يلقى عليها ولو نظرة وداع واحدة،رغم أنها عاملته كابن حقيقى،وشاركته صينية محشى،تتميز فى صنعه.
لم تجد حبيبها فى أى من الخمسة،بغضب مكتوم،أمسكت بياقة بالطو المجند الخامس،كان الأقرب وهى تخطب خطبة ما،دفعته من ياقته،وأشعلت ردهة مكتبها،التى ستقابل فيها تلك الوجوه العكرة كل صباح لمدة سنة كاملة،انسكب فمها بالسباب “يا متناك ..يا خول..يا شرموط……..”،عشرة دقائق كاملة من اهانات بدا أنها لن تتوقف.
ثم توقفت.. لسبب ما توقفت،لم يكن هناك شي واضح يمكن امساكه لتبرر لنفسها تأملها فى عينيى المجند الخامس،لم يكن حبيبها الذى تبحث عنه،ابنها الذى ستكشف له الحنان،لكنه كان أملا ساطعا لإمكانية حل اللغز:البحث عن آلية جديدة،لم تتبعها مع أى مجند آخر ،هذا المجند :اكتشاف،اثبات لأنها لم تعرف شيئا بعد عن كل شىء،تحد سيجعل السنة القادمة ألطف وأصعب.
ابتسمت،أمرتهم بالانصراف بعد أن وزعتهم على الصيدليات مع ضباطهم المذعورين،ثم جلست على مكتبها،حكت كسها،منذ زمن لم يعد يعنيها ما يخفيه المكتب،لو رآها المشير نفسه لن تكسر عينيها لأجل خاطره،فتحت البرقية التى جاءتها صباحا دون تعريف بمرسلها تأملت العبارة مرة أخرى:لا فكاك من البحر.
ألقتها باستهانة فى سلة المهملات،وبدأت تفكر فى المتعة المنتظرة والقلق القادم.
—–
سعيد
لم يعرف متى أصيب بشهوة الكلام،الشهوة التى سعرت الجحيم من حوله.
بسببها،أجبرته المحكمة على خلع زوجته،هرب أولاده إلى دول بعيدة،لفظه أصدقاؤه،أحالته الشركة التى يعمل بها إلى المعاش قبل استحقاقه بعشر سنوات.
سعيد،لم يكن كذلك،لم يكن صموتا،كان متكلما عاديا،يتكلم مثل الآخرين تماما،ينم عند النميمة،يصمت عندما يكلفه الكلام ثمنا ما،يواسى فى العزاءات مدعيا الحزن،لا يفوت “يرحمكم الله” أو “يهديكم ويصلح بالكم” عند العطس،يهنىء فى الأفراح،يتحدث منافقا ومتملقا فى المواضع التى تستوجب ذلك،يسب بالدين عند الغضب.
لكن كل شىء تغير،فى لحظة،لم يعد قادرا على التوقف عن الكلام أكثر من دقيقة وصلت بالتمرينات إلى دقيقة ونصف،كان كمن يحاول حبس أنفاسه تحت الماء.
يحاول أن يتذكر هذا اليوم،كان يوما مؤهلا للمرور بسلام،أنهى عمله فى الثانية ظهرا،دون أى نذر بالخطر،يتساءل فقط،إن كان الأمر متعلق بذنب ما،يراجع كل تفصيلة فى هذا اليوم،لا شىء استثنائى ،حتى اشتهاءه لأكلة ممبار خارج البيت لا يمكن التعويل عليها.
فى الرابعة عصرا،موعد قيلولته حتى صلاة المغرب،عرف أن عهد التعسيلة قد ولى إلى غير رجعة،وبدأ عهد الكلام،جمع زوجته وولديه،كانوا ينتظرون أمرا ما أو لوم على تقصير وفق عاداته فى الحديث،لكنه سألهم عن الطقس،كأنه لم يسمع الإجابة واصل حديثه عن التغيرات المناخية،ذكر معلومات أذهلتهم بشأن الأمر،هو الذى لم يقرأ يوما كتابا أو جريدة،من الطقس فتح معبرا للحديث ،عن كارل أوف،وكيف كتب كارمينا بورانا،هو الذى لم يستمع طيلة حياته إلا إلى أم كلثوم ويرى ما عداها ضربا من الكفر والتعالى والميوعة.
من الرابعة عصرا،حتى الرابعة فجرا وهو يتحدث،كل يوم معهم،ينام وهو يكمل رواية التاريخ وآرائه بشأنه،من أى مدخل:الطقس،كرة القدم،فساء أطلقته العائلة،طبيخ الزوجة،لم يجد حرجا أن يتحدث عن حيضها،وفتح ملف سرتنة ولديه السرية بتسامح أزعجهم،فلم يكن الأمر بالنسبة له سوى مدخل للحديث عن أى شىء عبر كل شىء،من مغامراته الجنسية صغيرا،وطول قضيبه،والأوضاع التى تفضلها زوجته،تجربته للخشن ذات مرة،شعور ابنه الأكبر بالنقص،أنانية الأصغر وهوسه بذاته، وجد مدخلا للحديث ،حول حياتهم إلى جحيم.
يصحو فى موعده بالسابعة،لا يكف عن ايجاد مداخل للحديث مع زملاؤه فى العمل،من فسادهم،من أسرارهم التى ظنوا أن اخفاؤها سيجعلهم أكثر احتراما،نميمتهم،من تنبيه مديره فى العمل،واصل حكاياته،معلوماته التى لا تنتهى،متخذا من التنبيه مدخلا لا أكثر،للتحدث عن معلومات مذكورة فى كتاب ما عن أن عبد الناصر كان جاسوسا إسرائيليا ،لم تكن المعلومة صحيحة،لكنها ذكرت فى كتاب ما،لم يقرأه.
لم يخبر أحدا أن الرؤية صارت أكثر وضوحا،ثمة مكتبة كونية تتفتح صفحاتها أمام عينيه،تتقلب من مقطع فى كتاب إلى آخر بسرعة البرق،أنه وسيط روحانى لسيرة الإنسان،الحقيقية والمتوهمة.
المدير،استطاع أن يجد نقطة ما تحت بند “الاهمال الوظيفى” متغافلا عن المعجزة الكبرى المتجسدة فى سعيد،لتصعيد الأمر وتخييره بين الفصل والمعاش المبكر،وقع سعيد أوراق المعاش،وهو يتحدث عن أهمية اللحظة التى قال فيها جاليليو هامسا،عقب تراجعه عن رأيه ارضاء للكنيسة:”لكنها تدور”،وعن أن اخناتون لم يكن سوى النبى ابراهيم،والد الديانات السماوية الثلاث،التى حولها البشر إلى عقبات ثلاث.
لم تتحمل زوجته،التى خططت كل شىء،خلعه وطريقة سفرها مع ولديها إلى كندا عند خالتهم،لبدء حياة جديدة،بها كلام أقل.
لم ينجح الجيران فى طرده من العمارة،عندما بدأ فى الطرق على أبوابهم، للحديث،لكنهم صعدوا الأمر،اتفقوا على تكنيك واحد بعد مداولات استغرقت أشهر:اقذفوه بما تيسر،زجاجة ماء،كولا،كرسى،صفيحة زبالة…كان على الرسالة أن تكون واضحة إلى هذا الحد،كى يعود أدراجه.
لكن سعيد توصل إلى حيلة عندما أدرك أنه فى حاجة إلى مستمعين متجددين،لن يتمكنوا من الفرار،كما أن تعذيبهم مرتبط بمدة،سيكونوا أحرارا بعدها،أعجبته الصفقة العادلة،لذا تخير المواصلات،يركب مواصلة إثر أخرى:ميكروباص،ترام،قطار،أتوبيس،مترو
،ويبدأ فى التحدث إلى العابرين،مع الوقت كون خبرة فى اختيار ضحاياه المستعدين للاستماع قبل أن يدركوا أى رمال متحركة قد غاصوا فيها،عبر عبارة يقذفها كبالونة اختبار متخذا نفس التقنية الأولى:الطقس،كرة القدم،فساء أطلقه الركاب،ليتحدث عن كل شىء عبر كل شىء،جاب مصر كلها من أقصاها إلى أقصاها متحدثا.
لا يعرف إن كان المستمعين العابرين،هم من ألهموه أن يبدل وظيفته فى كل مرة،ليصبح موجودا فى الأحداث كبطل أو كشاهد،أو على الأقل إن لم يكن قد عاصر تلك الأشياء،أن يصبغ على نفسه صفة تقنع الآخرين بثقافته وأهليته لما يتحدث عنه:سفير،طيار،عالم،..أى شىء الا كونه مجرد موظف،قبل أن ينتقل إلى درجة أعلى كمونتير لسيرة الإنسان،بما يخلق آلاف السير المحتملة،التى طمسها النسق.
كل شىء استقر فى حياة سعيد بسلام مرة أخرى،لكن أثناء حديثه إلى عابر بجواره،توقف فجأة عن الكلام،كانت كتب المكتبة الكونية التى يقرأ عبرها حكاية الكون،قافزا من مقطع إلى آخر،تقفز من رفوفها فى هلع،خوفا من كتاب ضخم،يطاردها بتلعها الواحدة تلو الأخرى،كقاتل محترف.
صمت سعيد،لم يعد إلى الحديث،الا بعد سنة،لم يقل سوى العبارة الوحيدة التى سودت صفحات الكتاب الوحيد والضخم:لا فكاك من البحر.
ظل سعيد يكررها فى كل لحظة،أرسلها إلى زوجته السابقة وأولاده فى برقية فعادا ،أرسل برقيات أخرى،خاطب بها المسئولين،فأعادوه إلى وظيفته،أرسل الآلاف منها إلى كل جهة،نصب له الجيران مصطبة أمام البيت،ليستمعوا فى نشوة وترقب للعبارة الوحيدة التى لا تتغير:لا فكاك من البحر.
—-
يمنى
قالت يمنى لوهبة:متى تتوقع انتهاء العمل؟
نظر لها معاتبا:لو توقفنا عن السؤال،واستمر الإخلاص.
واصلا سكب البحر فى فناجين وجرادل بلاستيك.لم يلتفت لعينيها الواقعتين فى الغرام.
عندما رأت ذلك المجذوب،يحاول أن يفرغ البحر عبر فنجان صغير،عرفته رغم كل الحجب:الكرش،الزبيبة،الجلباب،اللحية الكثيفة،انه فتى أحلامها العابر،وهبة الوسيم،الذى تخلل السينما بمشاهد لم يكن بطلها،وان كان محركها،الذى مات قبل أن يغزو رأسه الشيب،وحيويته الترهل،من امتلك القوة للخروج على القانون،والضعف ليشيد بأهميته.
كانت فى أجازة للاستشفاء من اعياء مقيم،انتهى إلى بثور غزت جسدها الضعيف،وكابوس يطاردها:كانت تحلم بأنها تقتل ،لم يكن ذلك ما يفزعها،فرم شخص فى خلاط ضخم،الرقص ببلدوزر فوق جسده،إذابته فى حامض،ما يفزعها هى تلك الحيرة التى تنتابها لاخفاء معالم جريمتها،دائما ما ينتهى الأمر بخطأ،خطأ واحد يفضح كل شىء،يدل عليها،تقوم فزعة تتحسس رقبتها،”من يرغب مخلصا فى القتل،عليه أن يكون مدربا على اخفاء أثره”،نصيحة وهبة الأصلى.
كانت تنجذب دوما إلى مقلديه،تعرفهم دون جهد،جاذبية يضاعفها الجنون،يشيرون إلى خطأ ما فى الزمن،ينتظرون شيئا ما لم يجىء،ما يجذبها كل هذا الضعف،الاعياء الأخير،كان سببه واحدا منهم،يردد دوما أننا نستطيع بقليل من الجهد العودة إلى “أربعينات القرن الماضى”،حيث كل شىء كان نقيا وطاهرا،الأثر الذى توقف مع بداية السبعينات,عندما انهار كل شىء فجأة،ولم يعد الزمن سوى لغز،يجب ايقافه،لم تحمل له ضغينة،كانت تعلم أن انتقامه منها،يريحه،يسخر من محاولاتها فى اخراج أفلام قصيرة،يعدل لها كل خطوة،لا يقبل جدلها،لا يقع فى خطأ،مذنبة على الدوام،يخبرها عن صحيح الأشياء، وشروح ومتن شريعة صحيح الأشياء،رفض أن تشاركه مشروعه عن فيلم وثائقى عن حياة وهبة،المشروع الذى لم يتمه أبدا،منتظرا”كماله” الذى لم يتم،وان كان منحه حضورا وبطاقة تعريف”الرجل الذى يعد فيلما عن وهبة،منذ عام ..منذ عشرة أعوام..منذ…”،تحدث عنه فى أحاديث صحفية نادرة كمتخصص.
تركته ،جاءها بوجه ضعيف ومتسامح،أخبرها:أن هناك اشتباه فى اصابته بالسرطان،وأن هجرانها له قد فاقم حالته،كانت أفضل ليلة نام فيها معها،المرة الأولى التى لا يشعر فيها بغصة أن تسيطر هى على كل شىء،أن يترك نفسه لجسدها،ليعطيها كما لم يعط من قبل.
بعد فترة عاد أقسى مما كان،غاضبا،ناقما من كل شىء،عرفت منه أن نتيجة التحاليل أثبتت أنه ليس مصابا بالسرطان،لم يكن سعيدا،بدا لها كمن كان يتمنى أن يكون مصابا فعلا،أن يتجه إلى موت كارثى،قبل أن يدب الشيب فى رأسه وتترهل حيويته،ردت على غضبه تلك المرة ببرود،انتهى إلى قطع علاقتها به تماما عندما عاتبها”لم أعد استحق العطف حتى،لأنى لست مريضا بالسرطان..أليس كذلك؟”.
ظلت تعالج من أثره عام كامل لدى طبيب نفسى،ظنا أنها شفيت،لكن البثور التى غزت جسدها،سقوطها من الاعياء بعد أقل مجهود،كوابيس اكتشاف جريمتها باعدام شخص معلقا من خصيتيه،جعلوها تبتعد فى أجازة على البحر.
وهبة كان قليل الكلام،أكثر حنوا من حبيبها السابق،وان لم يكن أقل صرامة،لم يعترض عندما حاولت مساعدته فى سكب البحر فى فناجين قهوة،بل وربت على كتفها مشجعا عندما اشترت الجرادل البلاستيك،التى يلهو بها الأطفال على البحر.
عندما أتى ثلاثة أشخاص ،عرف وهبة أنهم من القائمين على أمر عودته للحياة،للتأكد من خطته بشأن فرصته الثانية،أخرج لهم رزمة ضخمة من الأوراق،أعد فيها خطة ضخمة تحت عنوان:لا فكاك من البحر.
قلبوا الأوراق،نظروا إلى بعضهم مندهشين.
طالبوه أن يأتى معهم بهدوء،أغروه بكفن جميل وجديد،بدلا من الذى اهترىء،لكنه أشار إلى يمنى المنهمكة فى ملىء الفناجين والجرادل بماء البحر،كان وهبة يعلم القانون:حياته مرهونة باقناع شخص على الأقل.
لم يماطلوه،كانت يمنى تفعل كل شىء باخلاص وباختيار تام،ليس بامكانهم سلبها ذلك،قال أحدهم بحنق:سنعود.
قرر الثلاثة أن المشوار لا ينبغى أن يذهب هدرا،أخرج أحدهم عوامة ورش زميليه بالماء،قبل أن يبدأ محاولاته المضحكة فى العوم.
دفن أحدهم جسده فى الرمل،عدا رأسه،ودفن الثالث رأسه عدا جسده،ليبدوان كما لو كأن رأسا يحتضن جسدا مفصولا عنه،طلبا من يمنى أن تلتقط لهما صورة.
تأملاها فى بهجة قبل أن يسأل أحدهما الآخر:هل تصدق حقا أنه لا فكاك من البحر؟،رد زميله:لا أدرى ..لا أفهم تلك العبارة أصلا..نسيا الأمر ،طالبا زميلهما بالخروج من البحر،حتى لا يتأخروا على موعد عودتهم،لكنه تجاهلهما،قررا أن يحفر نفقا فى الرمال إلى الصين ازجاء للوقت حتى يخرج.
28-11-2012