أغنيةٌ رومانسية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام جلال أبوسعدة

مَالي بردان! يتبين الطقس اليوم مائلًا للبرودة؛ ابتسم كون الأرصاد الجوية قد صدقت في تنبوءاتها لهذا اليوم: ياي شيءٌ وحيد صحيح منذ الحوالي ثلاثة شهور الفائتة، الأخبار والأنباء والحوارات مُضلِلّةٌ كاذبة. يبدو تعلم شيئًا؛ فجاء اليوم مُرتديًا لملابسٍ شتوية تبدو شبابية، لتهبه الحرية، لِتُعطيه عمرًا أصغر بكثيرٍ مِما هو عليه، مُتحررًا من ملابسه الرسمية، يذهبُ بها لعملهِ في الجامعة، كما اعتاد أن يرتديها في برامجه الحوارية اليومية المُذاعة في القنوات الفضائية. تعدى اليوم منتصفُ العقد الثالث بسنتين، آهٍ هو عُمر الفحولة والشباب والرغبة المستترة المُلتهبة. ليرفع رأسه ناحية السماء بغية تدليك فقرات رقبته، يعاني من آلامٍ مُصاحبة لطول فترة القراءة، أثارَ سحبركامية داكنة في السماء جاءت لتخفي وراءها بعض من أشعةِ شمسٍ كانت ترمي في المكان دِفئًا قد يُصيب الناسَ بمتعةٍ، فتبدو مُعاتبة لها على طلوعها في فترات الشتاء الباردة، مالها السحب تُعكِّر صفوَ الحياة بظلالٍ داكنة زادها انقباضًا نغماتُ ترانيمِ غناء حالم مازال ينبعث من داخل حاسبه الآلي، ترانيم كأنه في الكًلِّ مرَّةٍ يختارها بدقة لتبعث على السأم:

–        ما كُلَّ هذا التشاؤم يا كيم؟

هكذا سألته فيفي، .. تستمع له ما زالت تُدَّوِن عنه حياته، .. فكان رَده:

–        وحياتك لا تشاؤم ولا غيره، فتلك الحقيقة الباقية في الحياة؛ النكد والمُنغصات دونِ معنىً ولا سبب وحيد معروف؛ إلّا أنه تصادف اليوم ذكرى النكبة، مرّت أعوام على وعد بلفور،  هي نشأة إسرائيل.

–        مِستر أجيب لحضرتك حاجة تشربها..

يَمُرَّ بجواره سَليم حَديد نادِل المطعم بمنتهى الهدوء والكياسة ناعمٌ كالأفعى، متلونٌ كالحرباءِ، جاوزَ الستين، متوسط الطول، نَحِيف، شعره رمادي كثيف، يبدو وسيمًا، جامدَ الوجه المربع بذقنٍ بارزة، يسأله فيجيبه:

–        آه.. جيت في وقتك.. وحياتك يا سَليم كوب نسكافيه بلاك.. مُتنبهًا لافتًا لِنظره بطريقته الصاخبة المُرَّحبة المُحببَّة للكُلّ: سَلوُّمة وحياة عينيك كانسِل الفضائية الغبية اللي شغالة، يعني ينفع كده! برامج حوارية ليل ونهار ونهار وليل، لحظة: اسمعني هاتلنا أغاني، مُوزَّة حلوة تسَمْعنا حاجة.

صوت ديانا الكرامة صديقته تصدح بأُغنيةٍ رومانسية، تبدو كالتي سمعها في حِلم الليلة الفائتة، تدور أغنياتها حول العِشق والهوى، عدا الأخيرة كتبها الفقير بابا، صديقهم المشترك، فيها سرُّ الحياة الدنيا. ليظل سعيدًا بوحدتهِ، مُتأملًا في امتداد البحر الأزرق أمامه، يسمع بإنصات، سرحَ بخيالهِ في انتظار وصول أصدقاءه. يلتقون في المطعم البحري الذي تُشاركه مِلكيته مُطلقته رِيبا الرايق ويديره النادل سَليم منذ إنشاؤه، علاقتهم به خاصة، فكان على بينةٍ بعاداتهم، منها عادة شهيرة يفعلها كُلِّ رحلةِ لقاءٍ موسميةٍ بزملائه، فيكون أول القادمين ليلف في المكان مُتمتعًا بوحدته.

عرف سَليم ذلك من فرط كلامه له عن عشقه للوحدة وكيف أنها تهبه الحرية التي يفتقدها وسط الناس في أيام العمل. فبالرغم من كونِه اجتماعيًا يحب الناسَ ويألفونه فمعروفٌ عنه تناقضه وتقلبُ مزاجه وحبه لذاته، ليتناقض ذلك مع إيثاره مُفضلًا للآخرين عن نفسه؛ عبيط على قولة أمه. أما أكثر عيوبه اللافتة فتركزت في رغبته في عدم الدخول في تُرَّهاتِ الحياةِ الفارغة، تاركًا أيَّ عملٍ أو صديقٍ أو زوجةٍ أو رفيقة يشعروه بقلقٍ أو أن ذلك الظرف سيجعله مشغول البال، سيضعه تحت ضغط. هَمْه عند دخوله للنوم أن يُلقي برأسه على وسادة طبية يابسة فينام في أقل من ثانية، مُضيئًا لنور خافت بجواره؛ يكره الظُلمة كراهية الموت، ابن دَلو، اِزدواجي الرغبات، طموحه غالب، لا يكاد يوقفه شيء، بل ولا يقف أمامه شيء ما دام أراده، ليتحول في لحظةٍ لزاهدٍ رافض لكُلِّ شيء، فيختفي بالأيام والليالي عن الناس، يقولون غطس، فلا يعرفون له مطرَّح، كما يغيب فجأة يظهر بغتة ليبدأ حياته من جديد دون أن يترك وراءه رغبة تلهيه. مُداعبًا لسَليم فور عودته بكوبٍ نسكافيه بلاك مُرّْ اعتاد عليه بدونِ حليبٍ أو سكر:

–        سَليم، .. قل ليّ، ..عارف إيه أحلى حاجة في الدُنيا؟!

–        النسكافيه البلاك يا مِستر، بدونِ حليب ولا سُكر!

–        يا راجل!.. قول كلام غيرَّ ده.. !!

–        الصحة والستر!. آه.. المال والبنون!! .. آه.. هانِم حلوة!!!

–        واحد من فلاسفة زمان قال: “الجحيم هم الآخرون”..

–        الجنّة من غيرِّ ناس ما تنداس..

–        يا راااجل! .. دا سَموها جنّة علشان هي من غيرِّ ناس..

–        رَّبِّنا يكرمنا بيها.. بناس من غيرِّ ناس.. المهم ننول الرضا..

–        أنت بتصدق يا راجل يا طيب!؟  .. عيب عليك!!

–        لا إله إلا الله .. ليس لنا سواها!!

–        هي آخر أملكم في الحياة!! .. شعب غريب.. عَجِيبْ!

غالب أصدقاءه على علم بنظرته اللادينية، إنما غيرّ مُصدقين لذلك، يبدو مُتدينًا، أفعاله، أخلاقه معوجة، إنما يبدو مُتدينًا، كانوا مُعتقدين أنه سينصلح حاله في نهاية المطاف؛ .. ما عليه. جاء في مدونته تعمده الوصول والجلوس بمفرده في الانتظار لساعات ليبدو المكان خاويًا مُصفِّرًا من حوله ليملأ نفسه بهذا الشعور الحاصل من الوحدة الكئيبة القاتلة ليحس كَأنَّها أسعد لحظات حياته. يتابع قدوم زوار الساحة الاحتفالية فرادى، بادئة في الامتلاء ببطءٍ، فلم ينجح يومًا أبدًا في رصد كيفية حدوث هذا الامتلاء أو وصف مشاعر الانتقال من الوحدة للونس.

طالما شبه التحول الحاصل بما يحصل للمرأة شابة قبل الزواج، ثم انتقالها لتُصبح امرأة تحمل وليدها جنينًا في بطنها تسعة أشهر كاملة، فتحيا لحظات لا يمكن لأحد وصفها إلَّا لمن مرَّ بها. فالمرأة التي مرَّت بلحظاتِ حملٍ وولادةٍ وإنجابٍ تعتريها لحظات من الوحدة ثم الونَّس مع الجنين الذي يكبُّر في الرَّحِم كُلِّ لحظة، ليملأ عليها جنبات روحها لتأتي الولادة والانفصال الجسدي والنفسي لحظة نزول الجنين، لتكتفي بتلك الصحبة عما سواها. ليُعزّْي البعض صرخات الألم عند الولادة أنها ناتجة عن ذلك الانفصال، كَأنَّما كِليهما يرفض التخلى عن رفقته مبعث السعادة والوجود.

لتأتي نفسٍ أخرى فتحملها الأمُ بين ذراعيها وَكَأنَّها جزءٌ من روحها، تلك لحظات يضيع معها الألم والتعب الذي يُصيب المرأة الحامل. تؤدي اللحظة الانفصالية لسعادة غامرة، يوم تجتمع الأم بوليدها المستوراُ عنها شهورًا طويلة، لتَشعر الأنثى بأنها بالفعل قد امتلكت الدُنيا. ليعود ليبتسم فالسبب في رأي صديقه الشيخ الفقير بابا غيرَّه بالمرَّة، فهو يعتقد أن الإنسانَ مخلوق في مكانٍ آخر، جاء الأرض للخلافة ليقضي سنوات ليعود بعدها لمكان الخلق؛ فلا محالة فهو العائد من جديد لمكان مولده. فما بين خلقه وحيدًا هناك ثم لحظة نزوله للدنيا وسط الجمع، فانتقاله عبرّ اللحد المظلم وحيدًا بعد الموت، تتداخل لحظات الألم واللذة فتختلطا. فيما بين معاناة الغربة الطويلة بعيدًا عن موطن الميلاد،

فالحنين الدائم إليه مع حب فطري جارف للحياة، لتصل لقمة الألم وقت مغادرة الروح الجسد لحَتَّى قمة المتعة لحظة تحليق الروح بخروجها استعدادًا للذهاب لموطن الميلاد. فيضحك حكيم بصوتٍ عالٍ عند انتهائه من قرأة ما دونته عن صديقه مُعجبًا بخياله؛ يومها قال له ساخرًا: من أين معرفتك بذلك كله!؟ أنتَ مُت وطلعت روحك من قبل بدون علمنا؟ صديقي تبدو لي مسألة الواقع الافتراضي أتلفت دماغك! أما زلت تعتقِد بوجود حياةٍ ثانية يا شيخْ؟ .. بقى ده كلام ناس عاقلة؟ .. فيه كده!؟ .. ليضحك على رَد صديقه عليه: أنت مُلحِدٌ فاجِر؛ صامتًا لحظات، قائلًا يضحك منه: كِيف أن مُتحَّمِّلكْ للحينْ يا كِيم؟ فيرد ضاحكًا معه: لا أعرِف!!

غمامةٌ داكنة عابرة تحجِب عنه ضوء الشمس، لتنفلتَ زخْاتُ مطرٍ جارفٍ في أولِ هطولٍ له هذا العام، مالئة أرضية المكان فتتلون السطوح بلمعانِ ماءٍ شفافٍ مُختلط بكراتِ ثلجٍ مندُّوف؛ يَعرفونه بالبَرد. تبللت الطاولات أمامه جرّاء سيلانه الخاطف. يحس بمتعة هطول المطر ولذَّة البلل، يهوى رائحة تداخل الماء مع خُضرة النجيلة، رائحةٌ عطنة، تُشعِره بالمدافِن، لتزيد إحساسه بالوحدة فتمتلئ روحه بسعادةٍ غامرة؛ خاصةً مع صوتُ ديانا. رخّيمٌ بارد، تشدو بأُغنيتها، يُشعِره صوتها أنه في عالمٍ غيرِّ العالم، ماتَ وقُبِر، ظلَ مدفونًا تحت التراب لا يفيق ولا ينام، حالة تيبس مفتونٌ بها، ألفها، اعتاد عليها، أحبها. طالما رواها لنقل شعوره الجارف بمُتعة حب الوحدة لسَليم، فيرمقه النادل برُكن عينيه، مُبتسمًا بلؤم مُستوعبًا لقوله إنما غيرِّ راضٍ قط. فلما سأله مرَّة بصراحة عن شعوره، أجابه بنبرَّةِ حُزنٍ دفينٍ: مِستر حكيم آحنا ناس غلابة، اللي بتتكلم عنه ده ترَفْ، رفاهية. يأتي سَليم من خلفه حاملًا من أمامه كوب النسكافيه فارغًا، ليُخرجه من تفكيره في تلك الحالة التي تنتابه، فاتحًا له المظلة أعلى الطاولة لتحميه من زَخْاتِ المطر، ما زال مُنسابًا، ازداد انهمارًا. ليخرج من تحت المظلة مُبتهجًا، صارخًا، مُتجهًا لفضاء الساحة فاتحًا أذرعته بكفيه تحت المطر رافعهم ناظرًا للسماء يلهو كالأطفال، مُبتسمًا له سَليم، مُلوِحًا من بعيد:

–        كُل عام وأنتَ طيب يا مِستر.. الخير على قدوم الواردين.

لا يُعلِّق. ينظُرَ إليه مُبتسمًا من طبيعةِ شعبٌ يربط كُلَّ أحداث الحياة البديهية بغيبياتٍ لا يُمكن لمسها أو تصورِها. فما الصِّلة بين هطول المطر وقدوم الواردين والخير والمعايدة؟ فالصحراء والبحار تمتلئ في العالم بدون واردين ولا غيرّه. لعلها ثقافة التواكل! .. كُلّه مكتوبْ.. أفعلت أم لم تفعل.. رزقك مكتوب في السماءِ، ..لأ طبعًا، الرزق بقدر العمل والخير بيهل لمه الناس بتشتغل بجد ويهطل المطر في مواعيد ثابتة.. ظاهرة مناخية سنوية تحصُل كُل عام في نفس الفصول، فما هي علاقة ذلك بالخير وقدم السعد! مُحدثًا لنفسه بصوتٍ عالٍ، فاتحًا ذراعيه ناظرًا لأعلى، للسماء الداكنة المُكفّهِّرة:

–        ما الرابط بين ذاكَ وتِلك!؟.. غَّلِبتوني مَعاكم.. عيب عليكم.

يرمِقه سَليم دون رَد مواصِلًا فتح بقية المظلات، ليُتابع هو مع نفسه: ما الذي بدَّل هذا الشعب الذي بدأ مُجتهدًا عاملًا بجد في مستهل البشرية ليرسِم أجداده أصول حضارة إنسانية فذة مصدرينها للعالم! كانوا في القمة يوم كانوا الآخرين ما زالوا مُعتلين الأشجار يسكنون الكهوف، فعرفوا سرَّ الحضارة الإنسانية قبل قدوم أيَّ حضارة أخرى.

ليتحولوا فجأة، في غفلةٍ من الزمن لمجتمعٍ خاملٍ مريضٍ متواكل مُنتظرًا للحَسنة تأتيه من السماء دون عمل بكد؛ إيُّ شعبٍ هذا!؟ ما زال سَليم يتابع فتح المظلات ناظرًا له حكيم مُحدثًا لنفسه: الرسالات السماوية كلها، بل والوضعية تحث على فضيلة العمل بل وإتقانه، تحث بالبحث عن دورٍ للبشر في حياتهم الدٌنيا فذلك ما له علاقة بفيض الرزق.

يتلفت حوله؛ فيجد سَليم مغادرًا للمكان تاركه يُكلم نفسه كعادته، يلمحه في البعيد مُقتربًا من ظلالِ شبحٍ يسير مُتكًا على عصاه. يُخرج سَليم شيئًا ورقيًا من جيب معطفه يعطيه للرجل، ليضحك منه ضحكةٌ شريرةٌ آسية فيها نبرَّة عدم إيمان باين: شحات بيشحت شحات، يخرب بيت أبوكم أنتم الاتنين.. واحد مش عايز يشتغل والتاني طالع روح أُمه علشان يجيب فلوس بيشحت الشحات علشان يفضل شحات، فاكر هيروح الجنة! يا ناس؛ عمر التكافل ما كان بهكذا فكر! لا دين ولا ملة دعوا بذلك! فذلك تشجيع لقلة العمل، تنطع، تسول. دولٌ مُتقدمة أنشئت مشاريع وبنوك لحاجة الفقراء ليس لتشحت الشحاتين إنما لتشغَّل الناس والإنتاج يزيد، ليقل الفقر والرفاهية تعُّم.. آه يا بلد دماغها بايظة.. ضاحكًا بصوتٍ مدويًا ساخرًا، ليأتي صوتٌ من وراءه، ناعمًا:

–        بتضحك على إيه؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص من مصر

 خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم