وتشكل مجالات اختصاص اليونسكو بالفعل تربة خصبة لتطوير رؤية مشتركة عن المستقبل ترتكز على مكافحة الفقر والظلم .
ويتعين علينا أن نأخذ فى الاعتبار الفرص المتاحة من حيث الشكل والمضمون، وذلك فى إطار تعاون متسع بين الشمال والجنوب، وتعاون فى أوج الازدهار بين الجنوب والجنوب.
وتفرض انطلاقة جديدة نفسها حتى تكون اليونسكو على مستوى التحديات الكبرى التى يعتزم المجتمع الدولى مواجهتها، ويتعين على هذه الانطلاقة بدورها أن تدفع المنظمة للأمام فى مجال وحدة برنامجها وتماسكه.
والأمر يتعلق فى هذا الصدد بوحدة وتماسك يتعين صنعهما عن طريق عمليات أكثر اتساعاً من التشاور والتعاون بين الدول الأعضاء لتحديد الأولويات والأعمال التى تدعو إلى حشد الطاقات لتحقيق تعاون أصيل بين مختلف القطاعات وتعاون مع الأمم المتحدة يهدف إلى التكامل، وكذلك للوصول إلى تحرر الأمانة من بيرقراطية ثقيلة حتى يتسنى لها تركيز كافة جهودها لتنفيذ البرنامج وهذا هو أساس أى مراجعة صارمة للحسابات تهدف إلى الامتياز فى العمل.
1- ويتعلق التزامى الأول بتحديد رؤى جديدة لعمل اليونسكو تهدف إلى السلام والتسامح والمصالحة .
وقد استطاعت اليونسكو – فى ظل التزامها بميثاقها التأسيسى – إنجاز أعمال هامة فى كل مرحلة من مراحل تاريخها للدفاع عن السلام فى روح الإنسانية، وذلك فى مواجهة صراعات لم تكف طبيعتها عن التغيير منذ إنشاء المنظمة .
وقد أعطت هذه الأعمال ثمارها فى عدة دول تعانى من النزاعات أو تخرج منها .
وفى 2010، عندما تقدم الأمم المتحدة واليونسكو كشف حساب موجه عن التقدم المحرز خلال العقد الدولى لثقافة سلام وعدم عنف لأطفال العالم ، أرى أن إحدى مسئولياتى الأولى بوصفى مديراً عاماً ستتمثل فى دفع تفكير عميق بمساعدة كافة الدول الأعضاء حول الرؤى المستقبلية لعمل المنظمة لصالح السلام والتسامح وحقوق الإنسان وبصفة خاصة المصالحة. وإذا كنت أركز على عمليات المصالحة فإن ذلك يرجع إلى أنها تشكل العنصر الأكثر صعوبة فى جهود حفظ السلام فى مرحلة ما بعد النزاعات ومنع تصاعدها، كما أنها تشكل المجال الذى يسمح بأن يكون عمل اليونسكو واعداً لتغذية الحوار والتبادل والعيش معاً وتوحيد العقول حول مشروعات مشتركة .
2- والتزامى الثانى – وهو مكمل لالتزامى الأول – يتعلق بعزمى على الإسهام فى إعادة توجيه جديد وتدريجى لبرنامج اليونسكو يرتكز على أربعة محاور أساسية.
فى المقام الأول، أرى أن البرنامج يجب أن يقدم رؤية عامة لعملية تعليمية شاملة، تعطى المكان اللائق لنشر الابتكارات والمحتويات ذات الصلة ولرؤية مستقبلية لتطورات مثل هذه العملية التعليمية على المدى الطويل والمتوسط .
ويبدو لى من الأهمية بمكان أن تضطلع اليونسكو مرة أخرى بصورة تدريجية – على أساس دعم دورها الرئيسى فى حركة التعليم للجميع خلال السنوات المقبلة – بدورها الأساسى والمتمثل فى تحسين تعليم تكوينى للمواطنين الذين يتعين عليهم الاضطلاع بحقوق وواجبات فى عالم ينفتح بصورة أكبر على الاعتماد المتبادل بين ما هو محلى وما هو عالمى. وبغية الوصول إلى هذا الهدف تمتلك المنظمة مزايا عديدة يجب حشدها لمصاحبة الدول الأعضاء فى اللحظة التى ستواجه فيها تحديات كبيرة فى مجال توجيه سياسات أنظمتها التعليمية طويلة المدى .
وفى المقام الثانى وفى مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية تفرض صحوة نفسها أيضاً حتى يتسنى لليونسكو مصاحبة التحول العظيم الذى يتمثل فى إسهام العلوم فى التنمية ومكافحة الفقر. واعتزم فى هذا الصدد العمل حتى يتم حشد كافة المزايا التى تمتلكها المنظمة فى هذه المجالات لتحقيق الأولوية الرئيسية التى تتمثل فى صياغة سياسات علمية ترتكز على احتياجات التنمية ومكافحة الفقر، ويجب أن تتضمن هذه السياسات بناء القدرات وسبل التعاون فى مجال إنتاج المعارف الجديدة والتمكن من الابتكارات التكنولوجية وأخلاقيات العلوم والتكنولوجيا ودعم التعليم العلمى مع الأخذ فى الاعتبار التزامات الدول الأعضاء فى المجالات الرئيسية للبيئة والتنوع البيولوجى والاحتباس الحرارى مع توفير تآزر أكبر مع محافل الأمم المتحدة الأخرى.
وبما أننى تابعت عن كثب المناقشات التى جرت فى اليونسكو فى مجالات العلوم أود أن أشير إلى أننى أرى الأهمية الكبيرة للطابع المميز للعلوم الاجتماعية والإنسانية. فبالفعل فإن إسهامها فى مكافحة الفقر وفى أخلاقيات العلوم والتكنولوجيا وفى دعم حقوق الإنسان وبصورة أعم فى فهم أفضل للتحولات الاجتماعية الحالية بعكس صورة ليونسكو منفتحة على إشكالية فكرية على أعلى مستوى وقادرة على اقتراح أطر عمل متعددة التخصصات .
وأخيراً يتعلق الأمر هنا بإطار مناسب للبدء فى عمل عالمى لصالح الشباب وينطبق ذلك على دعم عمل لصالح المرأة الذى يعد أولوية تدخل فى مجالات عدة أساسية، وأعتزم أن أعطيها دفعة جديدة وذلك بالعمل على أن تتبوأ المرأة مناصب ذات مسئولية كبيرة فى المنظمة، وأن يكون لعمل اليونسكو فى مختلف مجالات تخصصها أثرًا مستداماً فى تحسين ظروف المرأة .
وفى المقام الثالث فإن المنظمة تملك فى مجال الثقافة قاعدة معيارية عريضة -تعد ثمرة تعاون دولى مثالى معنى بحماية التنوع الثقافى، وأرى أن اليونسكو قادرة فى يومنا هذا على العمل بصورة أكبر فى مجال دعم الحوار بين الثقافات وهو بعد أساسى فى دعم السلام. ولبلوغ هذه الغاية يتعين أن يدخل هذا الحوار بصورة أكثر عضوية فى كافة القطاعات، وذلك للوصول لكافة من يغذونه بطريقة يومية؛ ألا وهم المبدعون والمعلمون ورجال العلم والصحفيون.. إلخ، ليسهموا بهذه الطريقة فى إعطاء جوهرهم لمختلف الحوارات، ولاسيما بين الدول.
وأعتزم خلال 2010 – وهو العام الذى أعلنته الجمعية العامة للأمم المتحدة “العام الدولى للتقارب بين الثقافات” – بالتعاون الوثيق مع التحالف من أجل الحضارات أن أبدأ فى مشاورات على أوسع نطاق ممكن مع كافة المحافل المعنية لوضع أساس مبادرة كبرى فى هذا المجال توفر إسهام كافة المناطق دون استثناء.
ولذا أنوى إطلاق المبادرة التى أطلق عليها الانتقال الثقافى والفنى للقارات. والأمر يتعلق بتنظيم أحداث ثقافية على المستوى القارى بدعوة آسيا على سبيل المثال للإقامة فى أوربا أو دعوة أفريقيا للإقامة فى آسيا، وتدخل هذه المبادرة بصورة مباشرة فى إطار رؤيتى للمصالحة.
وفى المقام الرابع، أرى أن عمل المنظمة فى مجال دعم حرية التعبير ودعم الإعلام الحر والمستقل ودعم الحصول على المعلومات يستحق المساندة وخاصة بفضل ترابط أوثق بين الأعمال التى تتم فى مجال التعليم والثقافة والعلوم، إن مثل هذا الدعم يمكن أن يوفر أساساً جديداً لدعم مجتمعات المعرفة.
3- ويختص التزامى الثالث بدعم العمل لصالح أفريقيا والدول الصغيرة الحبيسة. إن دعم اليونسكو لأفريقيا يجب أن يصبح أكثر قوة اليوم بأخذ الرؤى التى يقدمها التعاون بين الجنوب والجنوب فى الاعتبار، ويفرض هذا الدعم نفسه بوصفه أولوية أساسية فى وقت تضرب الأزمة فيه أفريقيا بقوة بعد انهيار الطلب على المواد الأولية وانكماش الاستثمارات الخارجية وتراجع المساعدات الدولية وانخفاض تحويلات العمال المهاجرين لأسرهم، فهناك 6 ملايين أفريقى معرضون لخطر الانزلاق مرة أخرى فى الفقر المدقع، وهناك 700000 طفل أفريقى معرضون لخطر الموت خلال السنة الأولى من عمرهم، وفى الوقت نفسه يتعلق الأمر بدعم على المدى المتوسط لمبادرات شاملة فى مجال السياسات التعليمية والعلمية وحوار الثقافات والتى تعد مجالات أساسية للتنمية والسلام فى أفريقيا، ويتعين علينا أيضاً إيلاء الاهتمام بالدول الصغيرة الحبيسة التى تواجه مشكلات ارتفاع حرارة الكوكب وارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات.
4- ويتعلق التزامى الرابع بإصلاح المنظمة .
فعلى أساس مكاسب السنوات الأخيرة فى مجال الإصلاح الداخلى وأخذاً فى الاعتبار احتياجات الموائمة مع معايير الأمم المتحدة ومع توصيات المراجعيين الخارجيين، أود أن أضيف بعدًا جديدًا للإصلاح يهدف إلى توفير امتياز للجودة فى تنفيذ البرنامج، ويخص هذا البعد متخصصى البرنامج فى الأمانة، فيتعين أن يكون تعيينهم أكثر سرعة وأكثر استهدافاً وأن تخفف الإجراءات البيروقراطية وأن يحصلوا على التدريب المستمر الذى يسمح لهم بالاضطلاع بمهامهم وهم مزودون بمعرفة صلبة للابتكارات والاتجاهات الكبرى الموجودة فى مجالات خبرتهم. وفيما يتعلق باللامركزية فيتعين علينا أن نوفر بصورة أفضل تماسك العمل. إن القرارات والمقررات التى سيتخذها قريباً فى هذا الصدد كل من المجلس التنفيذى والمؤتمر العام ستكون ذات أهمية بالغة لإعطاء اللامركزية إطارا أكثر تماسكاً وثباتاً، ولاسيما بالنسبة لأهم أولويات البرنامج.
وفى هذا الإطار سيتم إيلاء أولوية خاصة للامركزية فى إطار أولوية أفريقيا بغية تحسين جودة العمل وتماسكه فى القارة، ولذا فإن عناصر الحكم الرشيد (مثل ضرورة المسائلة والشفافية والرؤية المستقبلية) يجب اعتمادها فى المقر وكذلك فى المكاتب خارج المقر.
وتقوم هذه الالتزامات على ثلاثة أمور مؤكدة :-
الأمر الأول: هو أنه عندما تم الالتزام إلى أقصى حد بالميثاق التأسيسى لليونسكو حددت الأهداف بأفضل طريقة ووضعت الاستراتيجيات ذات الصلة وأبرمت التحالفات والشراكات الأكثر قوة ووجدت الموارد اللازمة وتحققت النجاحات المستدامة.
الأمر الثانى: هو أن هذه النتائج التى سمحت لليونسكو من حشد الجميع (مسئولين ومعلمين ورجال علم وفنانيين ومفكرين) لصالحها وحصلت بصفة خاصة على اعتراف النساء والرجال والأطفال الذين وجدوا فى عمل المنظمة نواة العيش فى سلام بما يمكنهم من أن يصبحوا مواطنين مستقلين ومسئولين.
أما الأمر المؤكد الثالث أنه عندما استمعت بالفعل اليونسكو لكافة هؤلاء الأشخاص أصبحت صدى لآرائهم المختلفة ونجحت فى استعادة الإلهام الوحيد الذى أدى إلى إنشائها والتزامها فى كبرى الأعمال الإنسانية التى استفادت منها بلادى بصورة مباشرة- شأنها فى ذلك شأن دول كثيرة أخرى – وتمثل هذه الأعمال نوعًا من الشهادات الحية على علة وجود المنظمة الحقيقية.
وأشكر لكم أصحاب السعادة حسن استماعكم.