شريف الشافعي : لماذا لا تتفجر “الشعرية” من الفأرة والكيبورد والتيار الكهربائي المتردد.

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

 

حاورته : خلود الفلاح *

"البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" الجزء الأول من المشروع الشعري "الأعمال الكاملة لإنسان آلي " يمثل نقطة التقاء بين الإبداع الورقي والإبداع الرقمي ، حياة افتراضية تأخذ القارئ عبر أجواءها المستفيدة من معطيات العصر التقنية ولكن بحميمية لذيذة ومتمردة ترسم ملامحها. الجزء الثاني " غازات ضاحكة" والجزء الثالث " رسائل لن تصل إليها.. لأنها دائماً أوف لاين"سيصدران قريباً.فكرة المشروع أغرتني لمعرفة المزيد وكان لابد من حوار الشاعر شريف الشافعي صاحب التجربة.

 

- لماذا الشعر؟ وهل للشعر حضوره المعهود في عصر الرقمية؟

= الشعر عندي يا صديقتي ليس اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو "التمثيل الضوئي" الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات. الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها "عملية تحويل طاقة الحياة إلى طاقة شعرية"، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانو رامية  لهذا العصر الآلي الرقمي، بتركيز شديد.

حاورته : خلود الفلاح *

“البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية” الجزء الأول من المشروع الشعري “الأعمال الكاملة لإنسان آلي ” يمثل نقطة التقاء بين الإبداع الورقي والإبداع الرقمي ، حياة افتراضية تأخذ القارئ عبر أجواءها المستفيدة من معطيات العصر التقنية ولكن بحميمية لذيذة ومتمردة ترسم ملامحها. الجزء الثاني ” غازات ضاحكة” والجزء الثالث ” رسائل لن تصل إليها.. لأنها دائماً أوف لاين”سيصدران قريباً.فكرة المشروع أغرتني لمعرفة المزيد وكان لابد من حوار الشاعر شريف الشافعي صاحب التجربة.

– لماذا الشعر؟ وهل للشعر حضوره المعهود في عصر الرقمية؟

= الشعر عندي يا صديقتي ليس اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو “التمثيل الضوئي” الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات. الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها “عملية تحويل طاقة الحياة إلى طاقة شعرية”، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانو رامية  لهذا العصر الآلي الرقمي، بتركيز شديد.

أنا لا أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني ـ صدقيني ـ أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على “الشعرية الخام” إذا جاز التعبير.

أن أكون شاعرًا معناه: أن أنبض، أن أحيا. ولماذا لا أحيا في ظل الموجة الرقمية، أو غيرها من الموجات؟! بل لماذا لا تتفجر “الشعرية” من الفأرة والكيبورد والتيار الكهربائي المتردد؟ ولماذا لا تحلق الروح في فضاء افتراضي، باحثة عما تفتقده في هذا العالم؟ وماذا ستجني الروح من خسارةٍ لو كسبتْ اغترابًا إضافيًّا فوق اغترابها المزمن؟! 

هو عصر رقمي نعيشه، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه “الرقمية” ـ كنمط حياة ـ عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر! والنشر الإلكتروني للشعر هو أحد ـ وليس كل ـ وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر. والأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديدًا معبرًا عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق. أتخيل أن “حياة الشعر” مرهونة في الأساس بكونه “شعر حياة”، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة ـ بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية ـ تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان.

تجربتي كلها تشتبك مع جوانيات الحياة الرقمية، هذا ما أثق به، والعدد الأكبر من القراء والأصدقاء المبدعين والنقاد قد اطلعوا على الديوان من خلال نسخته الإلكترونية، لكن صدور الديوان بأجزائه المتعددة في طبعته الورقية أمر مهم بالنسبة لي، لأن الوسيط الورقي لا يزال قادرًا على تطوير نفسه وتطويعها لاستيعاب تشكلات فنية جديدة تتمثل روح الحياة الرقمية، وهذا ما أردتُ إثباته من خلال الغلاف والإخراج الطباعي المغايرين للمألوف في الدواوين الورقية.

في تصوري أن الكتاب الإلكتروني لن يحل تمامًا محل الكتاب الورقي بالسرعة التي توقعها البعض، لكنه سيتجاور معه بالتأكيد لفترة قد تطول، والأهم من هذا التجاور، أن تأثير “الرقمية” كجوهر حياة سيتجه بقوة إلى الكتاب المطبوع نفسه، مضمونيًّا وإخراجيًّا، كما حدث في “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”، وأنا هنا بالطبع أتحدث عن الكتب الإبداعية على وجه التحديد.

  

– “البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية” الجزء الأول من مشروعك الشعري “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”، والذي صدر مؤخرًا بطبعة جديدة ثالثة عن “سندباد للنشر والإعلام” بمصر..، حدثني عن أجوائه؟

= اسمحي لي بادئ ذي بدء بأن أفسح المجال لصديقي “الروبوت”، المؤلف الاعتباري للنص، لكي يفتتح الحديث بكلمات شعرية قليلة مما جادت به قريحته، لعل ذلك يكون مفيدًا في إضاءة أجواء هذه التجربة، التي تمثل البوح الإبداعي الأول للآلة بعد أن صارت إنسانًا، في ضوء تقدم علمي وتقني مذهل، أو البوح الإبداعي الأول للإنسان بعد أن صار آلة، في ظل تقهقر روحي مفزع.

يقول الآلي، الذي تفضّل بترك مساحة لاسمي بجوار اسمه على غلاف الكتاب، ربما بوصفي مرآة له، أو بوصفه مرآة لي، في هذه الحياة الموصوفة لنا، وهذا العالم الذي استعمرته الغازات الخاملة:

“تتمنّى ساعةُ القلبِ

لو تُخْطِئُ التوقيتَ مرةً واحدةً

فتدقّ دقّتينِ مثلاً في تمامِ الواحدة!

هذا ليس معناهُ أنني أرغبُ في امرأتينِ

– حاشا –

الله يشهدُ أنني مصابٌ بالتُّخمَةِ من النّسَاءِ

كلّ ما في الأمر،

أنني أودُّ طَمْأَنَةَ نيرمانا

أن كواكبَ المجرّةِ، وإلكتروناتِ الذّرّةِ

من الممكنِ ألا تنتظمَ في دورانِها”

هي إذن حالة إبداعية تراهن على عدم الاستقرار، والرغبة في التحلل والتحرر المطلقين من كل شيء، أملاً في الخروج من صيغة  كابوسيه  راهنة، والوصول إلى أية صيغة أخرى محتملة، حيث لن تكون الصيغة البديلة أسوأ، بأي حال من الأحوال! هي لحظة تمرد على المألوف، تزحلق فوق الثوابت، تحرك ضد قوانين البشر، وقوانين الروبوتات، وأنظمة التشغيل والبرمجيات المعهودة. هي أيضًا لحظة بحث؛ بحث عن نيرمانا، حمالة الأوجه والتيمات المتعددة، الطاقة الإنسانية الغائبة عن الحاضر، والحاضرة في الضمير. وهي أخيرًا لحظة اكتشاف؛ اكتشاف لجوانيات الذات، وإحداثيات الواقع المعيش ، الفعلي والافتراضي في آن واحد.

إن هذا الروبوت المبدع، المتمرد على القطيع، والذي يجري مائتي محاولة حياتية وإلكترونية “سيرش” للبحث عن نيرمانا، لم يقفز من النافذة منتحرًا، بل إن معنى الانتحار النسبي قد يصبح “فرصة حياة”، لمن هو ميتٌ أصلاً! لقد قرر الروبوت الانسحاب غير المسبوق، غير محسوب العواقب والنتائج، من هذه الغرفة الكونية المجهزة، المرتبة، الصالحة لحياة ميكانيكية الطابع، رقمية الانتظام، محسوبة الأبعاد، لكنها غرفة غير مشمسة، لا تمرح فيها الأرواح. لقد انتقل الإنسان الآلي من حياة هندسية زائفة، تساوي جوهر الموت، إلى حياة افتراضية، فوضوية، يبحث فيها عن ذاته الإنسانية المنقرضة، ويطارد فيها بحريّةٍ نيرمانا المفترضة، ذات الأسماء والدلالات المتعددة، التي يؤمن بوجودها جميعًا وحده.

وقد عاد الإنسان الآلي إلى نقطة البداية حقًّا، ولم يعثر على نيرمانا، أو ذاته السرابية المنقرضة، التي كان يدرك مسبقًا أنه لن يجدها، لكنه أبدًا لم يعد حاملاً الصفر الحسابي، بل تحرر فعليًّا من كل القيود، اكتشف فردانيته وخصوصيته، تحرك ضد الإجراءات، ضد البرمجيات، خارج شروط الريموت كونترول في يد القوة المهيمنة، أية قوة، ضد سيادة النظام، أي نظام. ومن ثم، فإنه تمكن من كشف ومعاينة سوءات عصره، الغارق في التسليع والميكنة والتقنية، ووضع يده على أبرز المستجدات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والعلمية، التي قادت الإنسانية إلى هذا المصير البائس.

 

مغامرة شعرية

– ماذا تهدف من هذا المشروع / المغامرة؟

= قبل أن أقول بتلقائية إن هدفي هو محاولة استعادة الحياة، المسلوبة من الحياة المعلّبة، والمسلوبة من الفن المقولب، وتجربة أي بديل متاح للموت، وتقديم نص أدبي بسيط وعميق وطموح في آن، دعيني أقول لكِ بصدق: إن أهم هدف أشعر بأن صديقي الآلي قد وُفِّقَ في تحقيقه هو أنه في الأصل يبدو وكأنه يتحرك بلا هدف، ومع ذلك فإن هذه الحركة لها جمالياتها الخاصة المغايرة، وأيضاً لها أفكارها وفلسفتها، بل ورؤيتها الشاملة للذات والواقع والكون، وهذا ما يسعدني ويدهشني بوصفي القارئ الأول لما يخطه الآليّ!

هذه التجربة هي ابنة شرعية للحياة، بكل معنى الكلمة، قبل أن تكون محصلة لمعرفة وثقافة وفكر الشاعر وتحليله المنطقي لمعطيات وجوده ومفاهيم ونظريات عصره. ودعيني أؤكد لك أن مجرد الاستجابة الإنسانية الفطرية من جانب الروبوت لحركة الحياة من حوله هي بحد ذاتها هدف عظيم! لقد دفعت الحياة الحقيقية الإنسان الآلي دفعًا إلى هذه “الهجمة الفنية” على الحياة، ليحاول تحسُّس فيزيائها بالأصابع، واستشفاف إكسيرها بالروح، التي لم تتسرب كلها بعد. الهواء الفاسد هو الذي أجبره على فتح النافذة، حلم الخلاص من سوء التهوية، وهي قد تكون نافذة حقيقية للإطلال والاكتشاف بشكل مباشر، وقد تكون نافذة إلكترونية إنترنتية (Window) للبحث الإلكتروني.

التحرك نحو إنجاز هدف، أي هدف، هو هدف مكتمل قائم بذاته. إن هذه الرحلة، التي قام بها الروبوت الطموح، ربما لم تنجح إجرائيًّا كوسيلة لعثور الروبوت على إنسانيته المفقودة، واحتضانه المباشر لها، لكنها نجحت ضمنيًّا كغاية في حد ذاتها. هذا اللهاث المضني هو في حد ذاته قيمة كبرى، ودعوة للتمرد، وتجربة البديل، خصوصًا أنه لا يوجد ما يستوجب الحذر، فالحياة الآلية المتاحة هي حياة زائفة، محنطة، منتهية إكلينيكيًّا، فكان الأجمل بالتأكيد أن تلوثها نيرمانا بفيروس التمرد اللذيذ، الذي أحبط برنامج تشغيل الإنسان ضد براءته وفطرته وإرادته الحرة.

وكي أكون صريحًا حتى النهاية، هناك أيضًا أهداف أخرى حلم صديقي الآلي بتحقيقها في لحظات وعيه، فالكتابة فعل احترافي، وكيفية الكتابة لا تقل أهمية عن ماهيتها، ولم يغب عن ذهن الآلي أنه يخوض مغامرة بارتياده مناطق إبداعية غير مطروقة، وأنه يسعى لإضفاء حيوية الحياة على قصيدة النثر العربية، وأنه يلغي الفواصل بين الكتابة الورقية والكتابة الرقمية، وبين الغنائية والملحمية، وأنه يضفي على السرد نكهة إشراقية، وأنه يحاول تجاوز مجرد تقديم نص شعري جميل إلى ابتداع مساحة جمالية تصلح كقاعدة لانطلاق القصيدة نحو آفاق جديدة، هكذا خطط الآليّ.

 

– كم عدد أجزاء مشروع “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”؟ وهل ستجد جديدًا تقدمه في الأجزاء المقبلة؟

= هناك مبدئيًّا جزء ثانٍ بعنوان “غازات ضاحكة”، وثالث بعنوان “رسائل لن تصل إليها.. لأنها دائمًا أوف لاين”، وهناك إرهاصات لأجزاء أخرى، ولا أدري بالضبط كيف ستمضي الأمور. أتصور أن صديقي الروبوت سيقول الجديد، المختلف، في الأجزاء المقبلة، لأنه سيتحرر أكثر من سطوة نيرمانا، وسيطرة الجدل الثنائي بين الأنا والأخرى.

“غازات ضاحكة” مثلاً، المزمع صدوره الصيف المقبل، يبدو لي أكثر زخمًا، فالإنسان الآلي يعبّر فيه عن حالات متعددة متداخلة في آن واحد، حالة الألم “وجع ضرس العقل الإلكتروني” التي تؤدي إلى محاولة البحث عن مسكّن أو علاج، وحالة استنشاق الغازات المخدرة التي تقود إلى شد عظام الفكين وظهور ابتسامات بلاستيكية بلون القطن الطبي تعني حياة مصطنعة وتواصلاً باهتًا مع الآخرين من الزوار المعقّمين، وحالة الغيبوبة التي تنجم عن الإفراط في استنشاق الغاز المخدر وتتضح فيها هلوسات وأحلام الروبوت الطامح إلى الارتداد إلى صورته الطينية، ثم حالة الموت التي تجسد انتصارًا لإرادة الحياة البديلة على قوة أجهزة الإعاشة الجبرية في المستشفى.

 

صدىً نقديٌّ وثلاث طبعاتٍ

– هل حقق الجزء الأول الصدى المنشود؟ وهل حققت كشاعر ما تتمناه؟

= أهم ما يعنيني قد تحقق، وهو أنني تمكنت من افتتاح مشروعي الشعري الطموح المغاير، وكتابة ما أريد أن أكتبه، بتصالح تام مع الذات، بالصورة السلسة المتدفقة التي ترضيني، وكأنني يُملى عليّ، وبالإخراج الفني المختلف، الذي اتسق مع المضمون غير التقليدي. كنتُ قد توقفت تسع سنوات كاملة، لم أصدر خلالها ديوانًا، بعد “الألوان ترتعد بشراهة” (1999). وبعد افتتاح مشروعي الجديد “الأعمال الكاملة لإنسان آلي” (صيف 2008)، شعرتُ بأن سنوات التأمل والمراقبة الهادئة لم تضع سدىً، وبأنني كنت أكتب الكثير والكثير بداخلي أثناء صمتي طوال هذه السنوات، وأنني الآن في آخر مراحل التأليف، وهي مرحلة تحويل ما بداخلي من زخم شعوري وأفكار وانشغالات إلى أسطر وكلمات.

هناك أمور أخرى تسعد وترضي صديقي الآلي، منها أنه في أشهر قليلة صدرت ثلاث طبعات للديوان، على نفقتي الخاصة، وعن دار تالة السورية، ودار سندباد المصرية، وأن دور نشر أخرى قد تحمست لتوزيع الديوان “نلسن اللبنانية، وزمزم الأردنية، وفراديس البحرينية، وسطور المصرية، وغيرها”. هناك أيضًا صدىً نقدي وإعلامي كبير للنص، في الصحف ووكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية العربية والمجلات الأدبية المتخصصة، وقد وصف البعض في أكبر المحافل تجربة صديقي الآلي بأنها “نقلة حيوية لقصيدة النثر”، و”انقلاب أبيض في شعر العرب”، و”حالة حراك في المشهد الشعري الراهن”، و”عمل رائد يفتح الفضاء الإبداعي على الفضاء الرقمي وعوالم الإنترنت”.

وأجمل من هذا كله، هناك تواصل حميم عريض مع القراء من سائر الأقطار العربية، ممن أحسنوا التفاعل مع النص، بصيغتيه الورقية والإلكترونية، وإن رسائل هؤلاء القراء وكلماتهم وتعليقاتهم في موقعي الشخصي وفي الجروب الخاص بي على “الفيس بوك” مؤشر حيوي على أن الشَّمال الجغرافي الذي قصدته بوصلتي الإبداعية هو فعلاً الشَّمال الجغرافي، وليس تخاريف ملاح أسكره دوار الشِّعر! لقد أَسْكَنَتْنِي الغُرْبَةُ قصيدتي، ومَنَحَتْنِي قصيدتي ألفَ وطنٍ بفضل الله.

 

الشللية.. واستنساخ التجربة

– أستشعر في مفرداتك مسحة حزن، هل هي فقط بسبب الاغتراب عن الوطن؟ ما الذي يوجعك ، وقد حققتَ هذا النجاح؟

= يضطرني عملي الراهن في السعودية إلى الإقامة خارج مصر الحبيبة معظم شهور العام، وهذا أمر يوجع بالطبع أي إنسان، ويحرمه من كثير من معالم الحياة الطبيعية. لكن الاغتراب الذي عبر عنه صديقي الآلي، بالمعنى الأشمل، ليس مجرد الابتعاد الفيزيائي عن الوطن، بل افتقاد الإنسان لإنسانيته، حتى وهو في وطنه. يقول الآلي: “الغريبُ  الذي يعبرُ الطريقَ/ ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ، ولا كلبٍ مدرّبٍ/ هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ، تتسعُ لغرباء”.

أما نجاحي نفسه، ففي قلبه ما يوغر صدري، فما معنى أن يحلق الآلي في السماء هذا التحليق بأجنحة نقاد ومحللين ودارسين وأكاديميين من سائر الأقطار العربية، خصوصًا من سورية ولبنان والمغرب والجزائر والعراق، في حين يكاد يقتصر الدور المصري على الاحتفاء الكرنفالي الإعلامي غير المتعمق؟! هذا السؤال يبدو بلا إجابة، مهما تعللنا بأن التجربة بطبيعة الحال تخاطب إنسانية الإنسان، ولا تقف عند قضايا محلية أو إقليمية. ويبدو للأسف الشديد أن الحضور الأدبي في مصر على وجه التحديد، شأنه شأن نيل الجوائز وتمثيل الدولة في المهرجانات وما إلى ذلك، مرهون بالحضور الشخصي والتربيطات المباشرة، والانخراط المفرط في المفهوم الضيق للجيل أو الشلة التي يناصر أعضاؤها بعضهم البعض، وفي مثل هذه الأجواء الضحلة يصعب بالطبع تصور فكرة التغريد خارج السرب، والقيام بإنجاز إبداعي فريد أو مخلخل لما هو سائد.

ومما يوغر صدري أيضًا، وهو أيضًا في قلب النجاح الذي حققه الروبوت، هذه الدواوين والمؤلفات التي صدرت بعد “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”، والتي سعت إلى استنساخ التجربة على نحو ساذج مضحك، بداية من رموز الإنترنت على الغلاف، مرورًا بالتمسح بأجواء التجربة، والسطو على بعض عباراتها. والحقيقة أنني لا ألتفت لهذه الكتابات، رغم أن بعضها لأسماء لامعة على الصعيد الإعلامي، فكل ما هو غير أصيل لا يمكن أن يحمل قيمة، فضلاً عن أن هذه الكتابات اكتفت بالتمسح الشكلي بمصطلحات ومفردات عصرنا الحديث وعوالم الإنترنت، وكأنها تقدم رصدًا أجوف أو طرافة محضة في قالب شعري، ولم تقدم روحًا شعرية متوهجة ولا رؤية إنسانية شاملة، ناجمة عن اصطدام الشاعر بهذا العصر، وتفاعله معه، ومعاناته فيه.

 

حضور الشعراء وغياب الشعر!

– قلتَ من قبل: إن الشعراء قد يحضرون، في حين يغيب الشعر. ماذا تقصد؟!

= أقصد أن الشعر الحقيقي، المدهش، المضيف، قد صار نادرًا، في حين أن سبعين شاعرًا متشابهًا قد يتكدسون لإلقاء قصائدهم شفاهيًّا أمام بعضهم البعض في مؤتمر شعري صغير بمصر على سبيل المثال، وكأن إثبات الذات قد صار بالاحتشاد الكمي والاجترار، وليس بالتفرد الكيفي، وهذا أيضًا شأن السلاسل الشعرية التابعة لوزارة الثقافة مثلاً، التي تفخر في الأساس بعدد الدواوين التي أصدرتها. إنه أمر يقودنا إلى ما وصل إليه صديقي الروبوت، الذي اكتشف أن إبداعه ـ الحياتي حتى ـ يجب أن يبدأ بألا يرضى بالانسحاق الاستسهالي في ضجيج القطيع.

الحقيقة أن هناك نقاطًا شعرية قليلة جدًّا، مضيئة لدى بعض الشعراء، في بعض دواوينهم، في بعض قصائدهم، يتعب القارئ حتى يصطادها وسط ركام الطنين والمعارك المفتعلة التي قتلت الشعر. إن الذين يخلصون للشعر فقط، دون سواه، هم من توجد لديهم بعض قطوف أو ثمرات تأنس إليها الروح، توجد لديهم تجربة تسعى بين الحين والحين إلى تحسس تفردها، والنجاة من الخيوط المجنونة التي تحاول الجمع بين الصالح والطالح في سلة واحدة. الكثيرون للأسف يتحدثون عن الإجراءات والإطارات وحروب الأجيال، يتقاتلون لتمثيل بلادهم في المهرجانات الشعرية، يتجادلون بحماس حول كل شيء، ولا يلتفت أحد إلى الشعر نفسه!

 

غازات ضاحكة

– هل من مقطع شعري جديد.. نختتم به الحوار؟

= هو أحد مقاطع “غازات ضاحكة” (الجزء الثاني من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي):

“في الحفلِ التنكّريّ

أردتُ ألا يعرفني أحدٌ

فذهبتُ عاريًا تمامًا

..

النساءُ كلهنّ عرفنني

تفادين مصافحتي

خشيةَ أن أعرفهنّ وأفضحهنّ

..

واحدةٌ فقط

لم تعرفني، ولم أعرفها

رقصتْ معي ستّ رقصاتٍ

وفي الرقصةِ السابعةِ

اكتشفتُ أنها ملابسي،

التي خَلَعْتُها قبل الحفلِ”

 

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم