ياسمين مجدي
في شبابيك وجهه سترى بنها، الروائي المصري فؤاد مرسي، الذي تدرك من عالمه أنه يرسم خريطة للمدينة في رواياته: “شباك مظلم في بناية جانبية”، و”شارع فؤاد الأول”، و”قنطرة الوداع”، ثلاثية روائية، بدأ في إصدارها تباعًا، منذ 1994، وحتى 2009. اهتم خلالها بطرح عالم مدينة بنها، ومصير مثقفيها، ومثقفي الثمانينيات، الذين خاضوا وهجاً في الجامعة، انطفأ لديهم بعد التصادم بواقع الحياة، فانهارت قصص الحب، وانزوّت أحلامهم.
***
الحكايات الشفهية، التي يأخذك إليها فؤاد مرسي، تجعلك تدرك أن ما بداخله من إبداع أكثر بكثير من الثلاث روايات والثلاث مجموعات قصصية الصادرة له. فمرسي، ابن مدينة بنها، صورة لكثير من مثقفي الأقاليم، الذين تحدّوا عزلتهم الجغرافية، وصنعوا وجودًا في المدينة الكبرى، عبر رحلات شبه اليومية من بنها إلى القاهرة، للوصول إلى عالم الندوات، والمجلات، والأدب. سيحمل مرسي المدينتين، ويعقد في القطار المقارنات بينهما، بين القاهرة، التي تلتهم أبناء بنها، كما تلتهم خبز الدرجة الأولى فاتح اللون، وبين بنها، التي تحصل على خبز، وأرز، ودقيق درجة ثانية!
فيعيش مرسي تفاصيل ناس بنها وشوارعها، لأن “خريطتها مرسومة في كفي، وكلانا مفتاح للآخر”، تلك المدينة التي “أخذت من القرى طباعها ومن المدن سمتها المعماري”، فيحكي مثلاً عن “شارع الفار، الذى يمثل تاريخ بنها غير المدوَّن وتحولاتها”. ويدفعه ذلك للإعداد لإصدار رواياته الثلاثة في كتاب واحد، ليصبحوا ثلاثية تحكي سيرة مدينة بنها، أو سيرة المثقف البنهاوي بالتحديد. كما يجهِّز رواية عن بنها الأسطورة والتراث، ويبرر ذلك بأنه “مازالت حكايات أبي عنها، التي اختلطت فيها الحقيقة بالخرافة، تستفزني”.
جيل الثمانينيات
النصف الآخر في كتابة فؤاد مرسي يدور حول هزيمة جيله الثمانيني المثقف، وضياع الكثير من أحلامهم. وعن تجربة ذلك الجيل، يقول مرسي: “جئنا في وقت لم يكن بمقدوره أن يقدم حكاية ذات رأس وجسد مكتملين، وقت مفكك، رغم ذلك لا يمكن أن تنصرف عن نثاراته لأنك متورط فيها، لذلك فنصوصنا لا تمشي في خط مستقيم … ربما هذا يفسر ملمح وتقنية التشظي المسيطرة على أعمالنا… العالم لم يعد يحكمه إيقاع، ولا الوقت يحتمل المشافهة التي تجعلك حريصًا علي تقديم البطل، الذي يحمل العالم على رأسه، لذلك نحن نكتب في لحظة حرجة”.
ووسط جيل الثمانينيات يمكن أن نجد صورة لمرسي في “مجلة المصور” بعنوان “صورة الحرافيش”، التُقطت له وهو جالس على مقهى “زهرة البستان”، مع شعراء جيله: أشرف العناني، وسمير درويش، وأحمد الحوتي، ورفعت سلام. وذلك حين قام شاعر كبير بتقسيم كتاب مصر ومثقفيها إلى صفوة وحرافيش!
بتواجد مرسي وسط جيله استطاع أن يعبر عن إحباطاتهم، ما بان بوضوح في المفردات السلبية، التي استخدمها كعناوين لرواياته: “شباك مظلم”، و”بناية جانبية”، و”قنطرة الوداع”. ويمكن أن نلمس إحباطه الشخصي عبر بطله وعالمه، الذي يدور حول هزيمة مثقف بنهاوي، وقصة حب دائمًا فاشلة، كأنه يبحث عن شريكة مفقودة غالبًا، ويصرِّح مرسي بأنه كتب بعض الشخصيات النسائية خصيصًا في أعماله، ليحبهن، مثل شخصية شيرين، ليعوض نفسه عاطفيًا عبر الكتابة، طالما أن ذاكرته تخلط بين الأحداث الواقعية والخيالية التي يكتبها!
نموذج آخر للحب حرص على كتابته، وهو علاقة البطل بالجد والجدة، ذلك النموذج، الذي يتكرر في أعماله كأنهم رمز الحب والدفء في حياة هذا المثقف البنهاوي، المصاب بإحباط محافظته، وبصعوبة الولوج إلى المدينة، فتكون حجرته في بيت جده وجدته ملجأه، يمر كل يوم ليأكل معهم، ويعود لينام في بيته، وهذه علاقة حقيقية في حياة مرسي، الذي يعتبر جده: “خزانة العجائب والحكايات المدهشة، ورمز الرجل الذي لا يُقهر أبدًا. علمني الاستمتاع بكل شيء حتى الحزن، والإخلاص لكل شيء، وإتقان ما أفعل مهما كان صغيرًا ولا يُلحظ”، أما جدته فهي “سيدة الابتسامات المطلقة والمانحة العظمى للدعوات”. لم يستطع مرسي أن يكتب عنهما، إلا بعد موتهما، لأنه يخشى أن يكتب عن أحبائه الأحياء، معتقدًا أنه لو باح للورق بما يشعر تجاه هؤلاء الناس، فسيتخلص من وجود هذه الشحنة العاطفية بداخله، وتنتقل للورق. تكرر الموقف مع الأم، فلم يستطع أن يكتب عنها إلا بعد موتها، حين أقر: “لقد اكتشفت أنني عار الظهر يوم ماتت، وأن لا عينان بعد عينيها تستطيعان أن تحتوياني. لقد كانت معادل وجودي، وبعدها أشعر بالفقد الدائم. إحساس يجعلني متخبطًا طوال الوقت، لأنني أبحث عن المستحيل”.
ليكون الموت بذلك أحد العوامل المحركة لعاطفة وكتابة مرسي، خاصة حين يكون الميت هو أخوه حسام، عندما مات في باكورة شبابه غرقًا عند “مرادة أكلامون”، رغم أنه محترف سباحة! سيحكي لك فؤاد مرسي حكاية غرقه، كأنها حدثت الآن، وسيدمع حتى بعد مرور كل تلك السنوات، ويروي لك أنه حين استيقظ صباح يوم الحادث لم ير أخيه، القدر كان يخطط لفراقهما، لأنه حينما استيقظ فؤاد كان أخوه في الحمام، وحين خرج من الحمام وجده قد غادر البيت. فجأة، يجد الصبية متجمعون أمام المياه، كفوا عن لعب الكرة، لأن من كان يلعب معهم منذ لحظات يخرجون جسده الصغير الآن مبللاً، ومفارقًا للروح. فيعيش فؤاد مرسي حزناً طويلاً، ويهدي روايته “شارع فؤاد الأول”: “إلى حسام مرسي. ليس أقل من أهديها لك”. لأنه، كما يقول، السبب الحقيقي وراء كتابته لتلك الرواية.
بهذا تصبح روايات فؤاد مرسي سيرة مدينته، وسيرة لعائلته المفقودة، التي يحاول أن يستعيدها على الورق، ويمكن تلخيص كتابته أنها محاولة للبوح ببعض هزائمه الثقافية والإنسانية، هو الذي يعتقد أنه صلب وقوي أمام الناس، لكنه حين يفتح ذاكرته لك ستكشفه عيناه.
التراث
سيقول مرسي لي أن ملامحي تشبه وجوه الفيوم، لكنني حين دققت في وجهه أدركت أنه هو الذي يشبههم، يشبه التراث الذي جاء منه، ويبحث عنه.
جملة واحدة جرَّت فؤاد مرسي إلى عالم التراث، حينما كتب في إحدى رواياته عن امرأة من الشعبيين، قررت أن ترقص، لأنها شعرت بالملل، فعارضه أحد المتخصصين في التراث، بمبرر أن الشعبيين لا يرقصون هكذا بدون سبب هام. تلك الجملة البسيطة هي ما جعلت فؤاد يلتفت للتراث، ويدرسه في أكاديمية الفنون، ويحصل على درجة امتياز في مشروع تخرجه، الذي دار حول “التوأم السرحان”، وهي القصة الشعبية القائلة بأن أرواح الأطفال تنتقل في الليل إلى أجساد القطط، فيصبح القط توأمًا للصبي، ولو آذيت القطط فأنك تؤذي الطفل، ولو قتلتها، فلن يستيقظ الطفل مرة أخرى!
هذه الحكايات الأسطورية كلها صنعت ولا تزال وجدان فؤاد مرسي، لذا يرفض أن نسمي هؤلاء البسطاء بـ”المهمشين”، قائلاً: “من قال أن هؤلاء الناس هامش، ونصَّب نفسه متنًا؟ إنهم هؤلاء المثقفين، الذين ترفعوا على الجلباب، وسافروا إلى أوروبا فعادوا ببدل، وقبعات، خلعوا معها الجلابيب، والطرابيش، ورأوا أنفسهم المتن المثقف العليم، الذي سيملي على هؤلاء كيف يعيشون، وفي المقابل يحصدون وظائف الدولة الهامة. مع الوقت ازدادت الفجوة، وتمسك أصحاب الجلاليب، بجذورهم أكثر ليثبتوا لأصحاب القبعات أن الحياة ملكهم، وأن لهم ذوات ناضجة ومنفصلة عنهم تمامًا، لن تنكشف”.
الموالد هي أحد الأماكن التي يحرص مرسي على التردد عليها، حيث الأشياء الحقيقية، والبسطاء، وغرائب تحدث كل يوم، فيشاركهم طقوسهم ويصر أن يتمادى في ذلك، متمنيًا أن ينتقل قريبًا إلى أحد الأماكن النائية، ليعبِّر عن أحلام هؤلاء البسطاء المنفيين، ويستمع لتراثهم المخبوء، كما كان يفعل في مؤتمرات الأقاليم، التي يذهب لها، فيعرض عليه البعض كتابته، التي غالبًا ما تكون ضعيفة لا لأنهم ضعفاء، بل لأنه لم يصلهم من الأدب في تلك المناطق البعيدة إلا ما درسوه في كتب وزارة التربية والتعليم!
البداية
شاب صغير يجر قدميه بما كتبه إلى قصر ثقافة بنها، معتقدًا أن ما كتبه هو الأروع، سيدخل المكتبة، ويجد في مواجهته الرجل المسئول عن القصر، وهو فؤاد قنديل، يدعوه إلى حضور الأمسية الأدبية الأسبوعية في قصر الثقافة، ليقرأ أعماله على الكتاب، وبالفعل يذهب فؤاد مرسي إلى الجلسة، التي تغير مفاهيمه، فيرفض قراءة قصصه، وبعدها يخرج من قصر الثقافة، ويقطِّع كل القصص التي كتبها، ويبدأ من جديد، لتكون تلك سلمته الأولى، ليتطور إبداعه. ويتدرج مرسي في المراكز كمدير لتحرير مجلة الكرمة، وسكرتير تحرير، ثم مدير تحرير لسلسلة “إبداعات”، التي طلب من وزير الثقافة أن تصدر أسبوعيًا بدلاً من شهريًا، وبالفعل وافق الوزير، فأصدر مرسي ما يزيد على التسعين كتابًا، إلى أن أنهى الكتب المتراكمة، فعاد بالسلسلة نصف شهرية. وفي عام 2002، عُرِضَ على مرسي سكرتارية تحرير مجلة “الثقافة الجديدة”، بعد أن كانت متوقفة لفترة من الزمن، ورأى مرسي أن هذه المجلة “بنت أدباء الأقاليم، الذين لم يكونوا يجدوا فرصة لإصدار أعمالهم، سوى نسخ التصوير (الماستر). وكانت تلك المجلة العريقة تُعَدْ للإصدار من على مقهى زهرة البستان، يتوجه راغبو النشر إلى المسئولين عن المجلة الجالسين على المقهى، ليجمعوا المواد في حقيبة. فإذا وضع المسئول عن النشر الموضوع في جراب معين فمعناه أنها ستنشر فورًا، وجراب آخر محدد كان معناه أنها لن تنشر أو ستؤجل، والجراب الأخير معناه أنه سيقرؤها ثم يرد على صاحبها لاحقًا”.وكان للمجلة أهمية خاصة لدى مرسي، فـ“أول شيك أخذته من مجلة الثقافة الجديدة لم أصرفه حتى اليوم، وكان بمبلغ 19 جنيهًا ونصف”.
ينمو حلم فؤاد مرسي مع المجلة، وعندما تنمو الأشياء تنكتب نهايتها سريعًا، هكذا صدر القرار بوقف مجلة الثقافة الجديدة، في 21 أكتوبر 2008. في ذلك اليوم كان فؤاد مرسي في المجلة، ذاهب إلى أحد الأفراح، يجلس متأنقًا، ويبتسم، ويخبرك: “عمري في المجلة من عمر بنتي هند، ست سنين.. ياه ده عمر طويل فعلاً”، كنا نظن جميعًا ساعتها أن المجلة تم إغلاقها تمامًا! ثم يروي مرسي قصة عن صديق له استدان، لينقذ بيت عائلته الموجود في منطقة مهجورة، لمجرد أنه يريد أن ينقذ حلم أبيه، ويصون حلمه وحلم عائلته. أعيد بعد أشهر افتتاح المجلة، وانتقل فؤاد مرسي للتحرير في نشرة اتحاد كتاب مصر..ليصبح على الطريق نفسه بمجرد تبديل للأماكن.
الأحلام الكبرى حين تتحقق في حياة مرسي تصيبه بسعادة عجيبة، تمامًا، كما دخل انتخابات نادي القصة ونجح، ليقول عنها: “(اتخضيت لما نجحت)، اكتشفت أنني أجلس على كرسي جلس عليه طه حسين، وأسعى في نفس الغرف، التي دخلتها أمينة الصاوي، وجاذبية صدقي، وبنت الشاطئ، ونجيب محفوظ، ويحيى حقي. وأني أمسك الدرج، الذي كان يفتحه يوسف السباعي، وأجلس على أنتريه، جلس عليه ذات مرة، كمال الدين حسين. وكلهم ناس تربيت على أعمالهم”.
تجربة الروائي فؤاد مرسي تجربة ثرية، إلا إنه بخيل جدًا، يحجب الكثير منها، وهو مقتنع أن “البخل أصبح سمة بالنسبة لي. قالوا لي ذلك عن (شارع فؤاد)، وقالوه عن (شباك جانبي). هذا هو ما عندى لهذه الشخصيات أو على الأقل هذا الذي أريده منها”، “فأنا مؤمن بأن لكل لفظة حمولتها المعرفية، التي تأتي بها، ما الحاجة إذن إلى تكرار ما تحمله الألفاظ من معان؟”.
هرب
حالات اكتئاب متباعدة ستصيبه، كما تصيب كثير من المبدعين، فيفكر أثناء ذهابه إلى الحسين، لشراء الجبن الرومي لابنته هند أن يخرج من مصر كلها، خاصة أنه لو بقى سيحتك بالكثير ممن يسميهم “عفاريت الجبانات أو مغسلي الموتى، الذين يملأون الحياة الأدبية فى مصر، وهؤلاء مبدأهم: أنت عليك تموت وأحنا علينا المقالة ونقبض القرشين، جاهزين بالمقالة دائمًا، يكتبون أنك كنت شهم، ونبيل، ومبدع لا يعوض، ويمكن أن يجعلوك رائدًا، ومجددًا، وفى أضعف الإيمان نصف إله أو إله. المصريين فى حالات الموت عاطفيين جدًا!”.
ويؤكد مرسى أن السفر للخارج، هو الحل، قائلاً: “أنظرى من حولى وقولي لى: ما الذى هنا يجعلنى أبقي عليه، لأول مرة في حياتي أقولها بمثل هذه الصراحة، والقسوة، والحدة: لا شيء، لا أحد، لا قيمة، لا مجد. أنظر من حولي وأتساءل إلى متى ستظل الهزائم تطل برأسها كل صباح، وترافقنا حتى آخر همسة في الليل. ما كل هذه القسوة، والجفاء، وغلظة القلوب، وبلادة الإحساس، والنفاق، والتملق، والرياء، والكذب، والادعاء، والتلون. أى قلب يحتمل كل هذا الخراب؟! أي مجد تتحدثون عنه؟! أريدك أن تنظرى حولكِ هذه المرة، وتفكرين فيمن صنعوا المجد حقيقة، ومن حازوه بالفعل والمادة. هؤلاء غير هؤلاء بالمرة وبصورة تجعل المرء يفكر ألف مرة قبل أن يقيم حفل توقيعلرواية فى مكتبة (…) أو يهرول وراء الأخ (…) ليقيم له ندوة… كنت خائفًا طوال عمري من هذا القرار… لكن مرة واحدة يجب أن أجد نفسي أطير“.
رغم ذلك لن يكون السفر خيارًا سهلاً لمرسي، لذا سيعدِّل حلمه، ويتمنى أن يقضي بقية حياته القادمة في أحد الأماكن المصرية النائية، ليقرأ الناس هناك، وإلى أن يحدث ذلك، سيحاول أن يرثي أصدقاءه، بدون نفاق، كما حدث حين فوجئ بموت سامي خشبة، وقال يومها: “ماذا عليَّ أن أفعل في مثل هذا الوقت غير التحديق في كل ما حولي بصمت شديد، لعلي أستوعب، أو أدرك. فعلاقتى به لا يمكن الحديث عنها هكذا في حديث افتراضي [يقصد على الإنترنت]، إنها علاقة مركبة ومتشابكة بطريقة غريبة. ورشة الزيتون دعتنا يوم الاثنين … في ندوة حوله، لعلي أحاول استكناه علاقتي به في شهادة، هكذا الواحد منا، في النهاية، بالنسبة لأصدقائه، مجرد شهادة. أتمنى أن أجد القدرة الكافية لإنجاز هذا، ودون الدخول في طنطنات كبرى”.
وتبقى الكتابة خلاص مرسي الحقيقي، هو الذي كتب، ليهرب من سخرية أصدقائه من نطقه غير الصحيح للكلام في مراهقته، فكتب ليجد عالمه وانتصاره الخاص، وحتمًا ستظل الكتابة انتصاره ومهربه من هذا العالم، لأنك يا مرسي، كما قلت في رواية “شباك مظلم في بناية جانبية”: “لم تكن أبدًا خنجرًا مغروسًا في قلب الحياة التي تكره أمثالك”، فغالبًا أنت تريد فحسب حين تكتب استعادة براءتك الأولى، وعذوبة المراهقة، فنجد بطل رواية “شباك مظلم في بناية جانبية” عليه أن يختار بين أنثى ناضجة وفتاة جامعية تحتضن كشكول المحاضرات، وسيختار فتاة المحاضرات، لأن: “هذه بنت لا تملك حيالها إلا أن تأخذها إلى صدرك، وتمسد شعرها، وتجعلها تساقط دمعها على قميصك، فصديقي ترك فتاته لأسباب عميقة جدًا، ولكن شباكها في البناية الجانبية بضوئه الأحمر الخافت ظل يملؤنا ببهجة المستحيل، وضفيرتها بقيت تعارك الأحلام”. وبهذا يتأكد حنين مرسي إلى الذكريات القديمة الهادئة، لأنه كما يقول: “الكتابة لحظة مواجهة نادرة، إما أن تكون صادقًا أوفافعل شيئًا آخر غير الكتابة، لأنها لا تحتمل إلا الصدق”.
وسيشهد كثيرون على تجربة مرسي، كالكاتبة نجلاء محرم، التي كتبت له إهداءً على نسخة من رواياتها، تقول فيه: “إلى أخي الصديق فؤاد مرسي، أحد العلامات الإنسانية المضيئة، التي لمعت وتلألأت، لتدلني أن الدنيا مازالت تنجب نبلاءً”.
يحب مرسي أن يقرأ للناس قصصه بصوته، ربما لإيمانه أن صوته سيضيف شيئًا للنص، فيخرج حقيقيًا، وهو يقرأ لك فصول من رواياته أو قصص من مجموعاته القصصية سواء “رحم الشوارع” و”تحورات البحر”، أو “قارب صغير بموتور”.
ننتظر بذلك من مرسي روايته القادمة عن تراث “السيدة بنها”، كما يحب أن يسميها. وحلم بكتاب آخر يقوم على فكرة “رصد حياة الناس اليومية في أماكن عامة معينة يوميًا، ماذا يفعلون، وماذا يأكلون، وكيف يتصرفون، حتى لا تضيع تلك التفاصيل، خصوصًا وأن مصر لم تقدم مؤرخًا حقيقيًا منذ سنوات، يحمي حياتها من الضياع”. كما يجهِّز مرسي لدراسة بحثية للمقارنة بين وجهتي النظر الشعبية والرسمية حول أبطال المقاومة، وكيف تراه أحدهما كبطل، والأخرى لصًا.
“آكل في بيت وأعيش في آخر” هذا هو الروائي فؤاد مرسي المقسَّم دائمًا بين بيتين، بيت أسرته وجدته، ومدينتين، القاهرة وبنها، وعالمين، عالم تراث البسطاء والمثقفين، ليكتب معاناة جيله، وسيرة “السيدة بنها”.
خاص الكتابة